«فمُنذُ أَيَّامِ يُوحنَّا إِلى اليَومِ مَلَكوتُ السَّمواتِ يُؤخَذُ بِالجِهاد، والمُجاهِدونَ يَختَطِفونَه»
آباء الكنيسة
عن القدّيس يوحنّا المعمدان الطوباويّ غيريك ديغني (حوالي 1080 – 1157)، راهب سِستِرسيانيّ
«فمُنذُ أَيَّامِ يُوحنَّا إِلى اليَومِ مَلَكوتُ السَّمواتِ يُؤخَذُ بِالجِهاد، والمُجاهِدونَ يَختَطِفونَه»
“وبَقِيَ يَعْقوبُ وَحدَه. فصارَعَه رَجُلٌ إِلى طُلوعِ الفَجْر… فقالَ يَعْقوب: لا أَصرِفُكَ أَو تُبارِكَني” (تكوين 32: 25+ 27). أنتم يا إخوتي الّذين عزمتم على الإِعتداء على السماء مُصارعين الملاك المُكلَّف حماية شجرة الحياة (تكوين 3: 23)، فقد بات من الضروري أن تُصارِعوا بثبات وصلابَة… ليس فقط حتّى ينخلِع حُقَّ وركِكُم فَحَسب… بل حتّى موت جسدكم. لكنّ تقشّفكم هذا لن يُجدي نَفعًا إِلاَّ إِذا لَمَسَتْكُم القُدرَةُ الإِلهِيَّةُ وأَنعَمَت عليكُم بذلك…
أَلا يبدو لك أنّك تُصارِعُ الملاك أَو بالأحرى الله عندما يَعترض أشدّ رغباتك كلّ يوم؟… تصرخ إليه وهو لا يسمعك. تريد التقرّب منه وهو يُبعدك. تقرّر شيئًا ويُحقّق نقيضه. هكذا، يُحارِبُكَ بقبضةٍ قاسيَةٍ على مُعظَمِ الصُّعد. أَيَّتُها الطِّيبَةُ المُختَبِئَة، المُتَنَكِّرَةُ بالقَساوة، بأيّ حنانٍ تُصارِع، يا رَبّ، الّذين مِن أجلِهِم تُصارِع! “وقد كَتَمتَ هذه في قَلبِكَ” (أيوب 10: 13)، وأعلَمُ أنّك “تُحِبُّ الّذينَ يُحِبُّونَكَ” (أمثال 8: 17) وأعلَمُ أَنَّ عَظَمَة “صَلاحَكَ الّذي ٱدَّخَرتَه لِلمُتَّقينَ لَكَ” (مز31[30]: 20) لا تعرف حدودًا.
إِذًا يا أَخي، لا تَيأس وتَصَرَّف بِشَجاعَة، أَنتَ الَّذي شَرَعتَ في صِراعِكَ مع الله! في الحَقيقَة، هو يُحِبُّ أَنْ تَتَصَرَّفَ معه بِعُنفٍ ويَرغَبُ في أَن تَهزِمَه. حتّى عِندَما يَغضَبُ ويَمُدَّ يمينَه لِيَضْرِب، يَبحَثُ عن شَخصٍ مِثلَ موسى، كما قال بِنَفْسِه، يعرفُ كيفَ يُقاومه. حاوَلَ إِرميا مُقاوَمَتَه ولَكِنَّه لَمْ يَستَطِعْ رَدَّ غَضَبِه القاسي وحُكمَه الصَّلب؛ لذلك بَكى بُكاءً مُرًّا قائِلاً: “قد ٱستَغوَيتَني يا رَبُّ فٱستُغْويت، قَبَضتَ علَيَّ فغَلَبتَ” (إرميا 20: 7).
لا بد له من أن يكبر ولا بد لي أن أصغر القدّيس مكسيمُس الطورينيّ الأسقف (؟ – نحو 420)
العظة 99
«لا بُدَّ له مِن أَن يَكبُر. ولا بُدَّ لي مِن أن أَصغُر» (يو 3: 30).
يستطيع يوحنّا المعمدان بحقّ أن يقول عن الرَّبِّ مُخلِّصنا: “لا بُدَّ له مِن أَن يَكبُر. ولا بُدَّ لي مِن أن أَصغُر” (يو 3: 30). لقد تحقّق هذا الإقرار في هذا الوقت بالذات: عند ميلاد الرّب يسوع المسيح، طالت الأيّام؛ أمّا بالنسبة ليوحنّا فقد قصُرت… عندما ظهر المخلّص، طال اليوم بدون شكّ؛ لقد تراجع في اللحظة الّتي وُلد فيها آخر نبيّ لأنّه مكتوب: “دامَ عَهْدُ الشَّريعَةِ والأَنبِياءِ حتَّى يوحَنَّا” (لو 16: 16). كان من المحتّم أنّ يتوقّف حكم الشريعة إذ بدأت نعمة الإنجيل بالّلمعان؛ فقد تلى مجد العهد الجديد نبوءة العهد القديم…
قال الإنجيليّ عن ربّنا يسوع المسيح: “كان النُّورُ الحَقّ الَّذي يُنيرُ كُلَّ إِنْسان آتِيًا إِلى العالَم” (يو 1: 9)… ففي الوقت الّذي غشّى فيه طول الليل النَّهارَ بكامِلِه، أشرقَ في الظّلماتِ مجيءَ الرَّبِّ فجأة. فإن كان ميلاده قد طرد ظلمات خطايا البشريّة، فقد أنهى مجيئه الليل وجَلَبَ للبَشَرِ النُّور والنَّهار…
قال الرَّبُّ أنَّ يوحنّا المعمدان هو سراج: “كانَ يوحَنَّا السِّراجَ المُوقَدَ المُنير” (يو 5: 35). يبهت ضوء المصباح عندما تلمع أشعّة الشمس؛ يخفت ضوء السّراج، منهزمةً ببهاء أشعّة أكثر لمعانًا. أيّ إنسان مفكّر يحتاج إلى مصباح في وضح النَّهار…؟ مَن يأتي بعد ليتلقّى معموديّة يوحنّا الّتي هي للتوبة (راجع مر 1: 4)، في حين أنّ معمودية الرَّبِّ يسوع تَجلِبُ الخلاص؟
القديس يوحنا المعمدان والقدّيس مكسيمُس الطورينيّ (؟ – نحو 420)، أسقف
العظة 88
“وكانَ [يُوْحَنَّا] يَعِظُ الشَّعبَ بِأَقوالٍ كَثيرةٍ غَيرِها فيُبَلِّغُهُمُ البِشارة”
لم يَكْرِز يوحنا الْمَعْمَدَانُ فقط فِي زمانه مُعلِنًا مجيء الربّ للفريسيين قَائِلاً: “أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وٱجعَلوا سُبُلَه قويمة” (مت 3: 3). بل ها هو يصرخ اليوم أيضًا في داخِلنا ورَعْدُ صوتِه يَهُزُّ صحراء خطايانا… وصوتُه ما زال يُدَوّي اليوم، قائلاً: “أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وٱجعَلوا سُبُلَه قويمة”. وهو يطلب منَّا أن نُعِدَّ طريقَ الرَّبِّ ليس بشقّ طريقٍ بل من خلال نقاوة إيمانِنا. إنَّ الرَّبَّ لا يسلك طُرُقَ الأرض بل يدخل أسرار القلب. إنْ كانت هذه الطريق مملؤة عثراتٍ ناتجة عن آدابنا، أو صعوباتٍ ناتجة عن قسوتِنا، أو أوساخٍ ناتجة عن تصرفاتِنا، فيُطلبُ منَّا أن نُنَظِّفَها ونُمَهِّدَها ونسوِّيها. وبذلك إذ يأتي الربّ إلينا فلا يتعثّر بل يجدَ طريقًا ممهَدًا بالعفّة ومسهَّلًا بالإيمان ومزيّنًا بصدقاتنا. هذا هو الطريق الذي ٱعتاد الربّ أن يمشيه كما قال النبّي، “مَهِّدوا لِلرَّاكِبِ على الغَمام. الرَّبُّ ٱسمُه فٱبتَهِجوا أَمامَه” (مز 68[67]: 5) إنَّ يوحنا نفسه رسم طريقه ونظّمها بٱمتياز لمجيء الرّب يسوع المسيح لأنَّه كان رصينًا ومتواضعًا وفقيرًا وبِكرًا في كلِّ شيء. “وكانَ على يُوحنَّا هذا لِباسٌ مِن وَبَرِ الإِبِل، وحَولَ وَسَطِه زُنَّارٌ مِن جِلْد. وكان طَعامُه الجَرادَ والعَسلَ البَرِّيّ” (متى 3: 4). فهل من علامة أكبر للتواضع من أن يزدري المرء الملابس الناعمة ويستبدلها بالوبر الخشن؟ وهل من علامة أفضل للإيمان المترسّخ من أن يكون المرء وحقويه مشدودين جاهزًا دومًا لجميع واجبات الخدمة؟ وهل من علامة للتخلّي أكثر إشراقًا من أن يتغذَّى المرء من الجرادِ والعسلِ البرِّي؟
قطع رأس يوحنا المعمدان القدّيس مكسيمُس الطورينيّ (؟ – نحو 420)، أسقف
العظة 36
«وأَنتَ أَيُّها الطِّفْلُ ستُدعى نَبِيَّ العَلِيّ لأَنَّكَ تَسيرُ أَمامَ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَه» (لو 1: 76)
من بين صفات التعظيم التي أعطيت للطوباوي والقدّيس يوحنّا المعمدان، الذي نحتفل بعيده اليوم، لا أعلم أي صفة أفضلها للدلالة عليه: ولادته العجائبيّة أو طريقة موته التي تعتبر أكثر عجائبيّة من تلك. فولادته حملت نبوءة (راجع لو1: 67-79)، وموته أظهر الحقيقة؛ ولادته أعلنت ولادة المخلّص، وموته أدان علاقة هيرودس غير الشرعيّة بزوجة أخيه. يوحنّا المعمدان، الرجل القدّيس… استحقّ في نظر الله أن يغادر هذا العالم بطريقة مختلفة عن بقيّة الناس: لقد ترك الجسد الذي وهبه إيّاه الربّ وهو ينطق معترفًا به. لقد حقّق يوحنّا مشيئة الله في كلّ شيء، لأنّ حياته مثل موته يتطابقان مع مخطّطات الربّ…
كان يوحنّا لا يزال في رحم أمّه عندما احتفل بقدوم الربّ من خلال حركاته الفَرحة إذ لم يكن بإمكانه القيام بذلك من خلال صوته، حينها قالت أليصابات للقدّيسة مريم: “فما إِن وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ حتَّى ارتَكَضَ الجَنينُ ابتِهاجاً في بَطْني” (لو1: 44). فَرِحَ يوحنّا قبل أن يولد وقبل أن ترى عينيه كيف يبدو العالم، لأنّ عقله أدرك من هو سَيِّدُ هذا العالم. وأعتقدُ أنَّ هذا هو معنى عبارة النبي: “قَبلَ أَن أُصَوِّرَكَ في البَطنِ عَرَفتُكَ وقَبلَ أن تَخرُجَ مِنَ الرَّحِمِ قَدَّستُكَ وجَعلتُكَ نَبيّاً لِلأُمَم” (إر1: 5). علينا ألاّ نتعجَّب بعد ذلك، إذا ما رأيناه، بالرغم من وجوده في السجن الّذي أودعه فيه هيرودس، يواصل التبشير بالربّ يسوع المسيح من خلال تلاميذه (راجع مت 11: 2)، لأنّه منذ أن كان في الحشا، بَشَّر بقدوم الربّ من خلال ارتكاضه في بطن أمّه.