عظة الجمعة العظيمة

الأب بيتر مدروس

“لمّا وصلوا إلى مكان الجلجثة صلبوا يسوع”
“الجلجلة” قمّة عذابات يسوع . إنّها في الآرامية “جلجلثا” (وتقابلها العبرية “جلجولت) أي “الجمجمة ” ولعلّ الإشارة إلى شكل الموقع لارتفاعه ، كقولك “رأس بيروت ” ، “رأس الرجاء الصالح”. ويقول تقليد روحانيّ رمزيّ أنّ دم السيد المسيح سال على جمجمة آدم المدفون تحت الموضع.
ويمكن أن نُشبّه صليب يسوع الذي غرسته الأيدي المتوحّشة وسط لصّين – ممكن أن نشبّهه ب “شجرة الحياة المغروسة وسط الجنّة”! ومن “شجرة معرفة الخير والشّرّ” أي من رغبة آدم وحوّاء الكفريّة الجنونيّة في تحديد الخير والشّر مكان الله ، حاشى وكلاّ ، أتى الموت ، ومن شجرة الصليب أتت الحياة.

الشيطان “غلب الإنسان بالخشبة” وبالخشبة غلب يسوع إبليس ، فقد قال السيّد له المجد : “الآن يُلقى رئيس هذا العالم خارجاً ، وأنا إذا ارتفعت (أو : رُفعتُ ) عن الأرض جذبتُ إليّ الكلّ” (يوحنّا 12 : 31 – 32). وعندما نقول “خشبة” و”عُلّق على خشبة” لا نقصد خشبة عاموديّة واحدة فقط بل تقاطع خشبتين. ففي حالة الخشبة الواحدة مسمار واحد في يدَي يسوع الاثنتين ، بخلاف تحدّي توما الرسول العنيد :”إن لم أبصر في يدَي يسوع أثر المسمارين” (يوحنا 20 : 25 وتابع). فعلا ، علّق يسوع على تقاطع خشبتين على الصليب “كروكس ايميسّا” اللاتينيّة أو “كابيتاتا” إذ كانت فوق رأسه علّة صلبه.

صليب يسوع في محكمة العقل
لا مجال للشّكّ في شهادة الرسل والتلاميذ حول صلب يسوع الناصريّ. ما كان من “مصلحتهم” سرد ذلك الصلب البغيض! معروف احتقار اليهود للصليب أو للتعليق ، بحيث لعن العبرانيّون كلّ من عُلق. وما تردّد التلمود في التشنيع بيسوع مشيراً إليه احتقار “هتالوي” أي “المعلّق”. وما كان الوثنيّون ولا سّيما الرومان أقلّ ازدراء للصليب وللمصلوبين.
ويكتب الفيلسوف سينكا الفتى : “يجب أن يكون الصليب بعيداً كلّ البعد عن جسد أي مواطن روماني وحتّى عن عقله وعينيه وأذنيه”! وصدق بولس الرسول في رسالته الأولى إلى القورنثيين :”انّ كلمة الصليب جهالة (أي جنون) …” عند اليهود طالبي المعجزات واليونانيين ملتمسي الحكمة ، الفلسفة أي “حب الحكمة”. ونحن نكرز بمسيح مصلوب “حجر عثرة لليهود وجهالة لليونانيين”! ( 1 قور 1 : 18 وتابع).
وعندما يعترض منشقّون مُستحدثون محدثون على إكرامنا للصيب ، نذكر أنّ عقليّتهم – “لا راحت ولا أجت” – عقليّة يهوديّة وثنيّة بحتة لبست حلّة أمريكيّة من “الويلات المتّحدة”. يتفلسفون :”إذا قتل أحد شقيقك بمسدس، هل تكرم المسدّس؟” رجعوا ، مع ناطحات السحاب ، إلى محاولة نطح الحقيقة السامية ! لا يرون في الصليب – هنا المسدس – إلاّ أداة الموت والإعدام! ونُجيب : استشهاد أخي يحرّر وطني ، لذا أكرم المسدّس الذي اغتاله لأنّ ذلك السلاح تحوّل من آلة إجرام إلى وسيلة تحرير وحياة! وعليه ، لا نتردّد نحن المسيحيين الرسوليين ، أن نُشير إلى صليب العار والموت أنّه “الكريم المحيي”!
ويفرح خصوم الإنجيل المقدّس عندما يكتشفون – على رأيهم – “تناقضاً” في نصّ علّة صلب يسوع بين “ملك اليهود” أو “يسوع الناصري ملك اليهود”. ومن جهل بعضهم يعتقدون أنّ هنالك تناقضاً بين اللغة اللاتينيّة والرومانيّة ، وهي لغة واحدة! – طبعاً ، لا تناقض بما أنّ المعنى واحد ، وينقل نصّه كاملاً يوحنا الحبيب في حين يكتفي الآخرون بإعطاء المضمون ملخّصاً. ولا تناقض قطعاً في المضمون!
ويأتي اعتراض آخر يشكّك في سرد الأناجيل حول صلب السيّد المسيح باعتراضه أنّ أحد الأناجيل يروي تعيير اللصّين الاثنين ليسوع في حين يذكر إنجيل آخر أن أحدهما عيّره والآخر أكرمه!- ونُجيب بالعقل : لا تناقض ، إذ من المعقول جدّاً أنّ كلا اللصين في أوّل الأمر تفلسف على يسوع وأدرك أحدهما بعد ذلك خطأه فاستغفر.
وفي العالم العربي غير المسيحي اعتقاد بعدم صلب السيّد المسيح. هذا أحد المفسّرين (الطبري) يكتب أنّ شبه “عيسى” ألقي على “يشوع” رئيس لليهود تزعّم عملية الاشراف على آلام المسيح والشماتة به. ويرى مفسّرون آخرون أن الذي صُلب كان “يهوذا” الاسخريوطيّ أو “طيمون”.
على كلّ حال ، في المزمور الثاني والعشرين وأشعيا 53 صورة واضحة نبويّة لآلام المحبوب المختار وكأنها وصف سابق لعذابات يسوع! ونحن المسيحيين – مع الاحترام لسوانا – لا نقبل مسيحاً لا يتألّم بما أنّ الألم من جوهر الإنسانيّة الحقيقيّة.
ونسمع أحياناً من بعض الأعاجم أن “يسوع كإنسان لم يكن يعلم بأية طريقة سيموت!” هذا القول ُمناقض تماماً لما ورد في “العهد الجديد” وخصوصاً رسالة القديس بولس إلى أهل قولسي أن “في يسوع تختبىء كلّ كنوز الحكمة والعلم … وفيه يسكن جسديّاً كلّ ملء اللاهوت” (عن قول 2 : 3 و 9 ). وكان السيّد السميح قد قال : “كما رفع موسى الحيّة في البرّيّة ، هكذا يجب أن يُرفَع ابن الإنسان” (يو 3 : 14 وتابع). وأيضاً :”وأنا إذا رُفعتُ عن الأرض …” (يو 12 : 32). وكان يسوع “عالماً مَن سيُسلمه” ، وقال للخائن يهوذا :”عجّل بما أنت عليه عازم”. وعند غسل الأرجُل أعلن لرسله :”لستم كلّكم أطهارا” ، قاصداً يهوذا الاسخريوطي – ولعلّ اللفظة آرامية “شقرايا” تعني “الكاذب” أو “رجُل قريوت” وهي بلدة من منطقة يهوذا بقرب حدود آدوم (يشوع بن نون 15 : 25).

حياتنا الروحانيّة والاجتماعيّة في محكمة الصليب
في كرازتنا ، “لا نعوّل على حكمة الكلام لئلاّ يُزال (حرفيّاً : يُفرَغ) صليب يسوع” (عن 1 قور 1 : 17) بل “نعظ بالمسيح مصلوبا” . ليس صلب المسيح كواقع تاريخي مخالفاً للعقل ولكنه مخالف للمصلحة والكذب والكبرياء! لا نخفي صلب يسوع – فهذا “إخفاء يعيب” – متفلسفين لكي ننسي البشر “عار يسوع”! نقدّم الصّليب بغير “رتوش” أي بغير تخفيف ، كان أقسى عذاب. وتحمّله السيّد المسيح من غير تذمّر.
نحمل صلباننا – منها ما نستأهله ومنها ما يقع على رؤوسنا وأكتافنا. ومع يسوع “نخرج إلى خارج المحلّة حاملين عاره” أمام القاصي والداني!
نُظهر الصليب ولا نخفيه ، لا نخجل منه ! وننتقد “المسيحيين” ناقصي الإيمان الذين حذفوا الصليب ووضعوا نجمة داود!
وإذا قال قائل أن “الصليبيين” أو الفرنجة قتلوا واحتلّوا ، فهذا لم يكن باسم الصليب ولا باسم المصلوب الذي في بستان الزيتون قال لبطرس البابا الأوّل :”أغمد سيفك ، لأنّ الذي يأخذ بالسيف ، بالسيف أيضاً يهلك!” (متى 26 : 52). وفي نفس الوقت نعترف أنّ فكرة “الصليب الأحمر” مسيحيّة محضة نشأت في فرنسا التي علمها صليب أبيض في إطار أحمر ، بحيث أنّ “نجمة داود الحمراء” و”الهلال الأحمر” استلهما من الصليب أصلهما.
لا نكتفي ، في كنائسنا وبيوتنا ومؤسساتنا ، برسم الصليب وحده بل برسم المصلوب – في الإيقونات والتماثيل والصور – لأنّ الصليب يمثّل السارية والمصلوب تمثّله الحيّة النحاسيّة التي رفعها موسى في الصحراء!
نحبّ المسيح المصلوب الذي أثبت باستشهاده صدقه ونزاهته إذ ما استفاد من دعوته شيئاً بل جلبت عليه رسالته “الموت والموت على الصليب!” ولنقفنّ تحت الصليب وِقفة البتول الوالدة والنسوة التائبات والرسول الحبيب يوحنا بحيث يقدر كلّ منّا أن يسمع من المصلوب المتسامي على الأرض:”هذه أمّك!” آمين!