عظة سبت النّور
الأب بيتر مدروس
مقدّمة في “السّهرات” المقدّسة والأقلّ قداسة!
كما يقول اللبنانيّون، “نربّح ربّنا جميلة” أنّنا نسهر قسمًا من هذه اللّيلة وليلة عيد الميلاد (أمّا رأس السّنة فيقضيها عدد كبير منّا خارج الكنيسة!). سهر هذه اللّيلة مؤثّر: كأننا نسهر على جثمان يسوع من جديد منتظرين أو “ناطرين” قيامته والقيامة معه. وفعل “نطر” في العامّيّة ليس عربيًّا بل هو آراميّ سريانيّ يعني “حفظ، حرس”. فنحن الحرّاس الحقيقيّون لجثمان يسوع لا لمنعه من القيامة بل لمنع سرقته والتّنكيل به!
وتناقصت عندنا السهرات العائلية: مساء تجتمع الأسرة أو لا تجتمع. وحتّى عندما تجلس العائلة معًا، إذا جلست، لا ينظر أحد إلى الآخر بل إلى التلفاز : هنا مسلسل تركيّ وهناك مصريّ وهناك سلسلة أمريكيّة هولووديّة (ليست دائمًا “ودّيّة”!). وبعدها الفيديو أو ال ديفيدي وخصوصًا الحاسوب اللوحي أو الهاتف الخليوي الذي يضع كلاًّ في خلوة عن الآخر، حتّى الزّوج عن زوجته أحيانًا!
يا ليتنا نعود إلى السهرات مع المسيح، السهرات مع الأسرة!
القراءة الأولى من سِفر التّكوين (1: 1- 2: 3): الخلق والخطيئة
تقدّم لنا الكنيسة اللاتينيّة هذه القراءة لأنّ تجسّد كلمة الله والموت الاستشهاديّ الفدائيّ على الصّليب تعويض عن الخطايا التي بدورها هي نتيجة الميل نحو الشّرّ- وهو “الخطيئة الاصليّة”. وكان الأب جوزيف ميراند يقول: “عقيدة الخطيئة الأصليّة صعبة التّفسير ولكن لا شيء أوضح من نتائجها وعواقبها” اي الشّرّ بين البشر! (لو أزلنا الباء من “بشر” صارت الكلمة “شر” ولو أزلنا الشّين صارت “بِرّ”).
ولفظة “آدم” – التي لا تصبح اسم علم في سِفر التّكوين إلاّ في الفصل الرّابع، قبلها يذكر الكتاب “هاآدام” اي “الإنسان”- معبّرة أيضًا : آدام من آداماه أي التّربة الحمراء الخصبة، ولكن اليوم أصبح الآدميّ (من “أديم”) أحمر لكثرة الدماء. ولفظًا ، إذا حذفنا الألف من “آدم” أصبح “دم”. وإذا حذفنا الدال أصبحت الكلمة “أمّ”، فالأمّ أكبر عدوّة لدماء الحروب لأنها تعرف أكثر من الكلّ قيمة الحياة وصعوبة مجيء طفل إلى العالم!
كان يحلو للمفكّر الفرنسيّ “فولتير” أن يقول: “خلق الله الإنسان على صورته، وردّها له الإنسانُ” بمعنى أنه تصوّر الله على صورة إنسان. لذلك يجب تنقية مفهوم الله من كلّ تصوّر بشريّ غير لائق بالعزّة والقداسة والعظمة الإلهيّة.
ألله “أبدع” الإنسان فالخالق هو “البديع”، اسم الفاعل، المُطلق، الكامل، والخليقة الإنسان “بديع” بمعنى اسم المفعول. ويقول الكتاب : “خلق الله الإنسان على صورته”. وشوّه الإنسان هذه الصّورة وتحوّل من “إنسان”- من “أنس”- إلى “بشر”! وفدى الله البشر بالصليب، وصار الإنسان مخلوقًا على صورة الصليب! في الأساس جسّم الفرس الصّليب بقساوة بالغة لكي يناسب جسم الإنسان، فصار الإنسان على صورة الصليب، بالفداء والخلاص!
اليوم يرتّل الشّمّاس أو الكاهن : “أيا خطيئة آدم، يا لكِ من خطيئة “سعيدة” جلبت لنا مخلّصًا كهذا!”
واليوم وكلّ يوم نفهم أنّ يسوع فعلاً مخلّص بل هو المخلّص : يخلّصنا من حرفيّة الشّريعة الربابينية التلمودية الحاخاميّة ومن التسلط على الآخرين باسم الله (الثيوقراطيّة المزيّفة) ومن التمييز العنصريّ على حساب المرأة والغريب والعبد، ومن الأحكام بالإعدام باسم الله. يخلّصنا أيضًا من الفساد والانحلال الوثنيّين من عبادة للجسد وتلبية النزوات والغرائز… ومن الكبرياء الذي هو “الخطيئة الأصليّة” ومن الأنانيّة التي هي “مركبة الرذائل” كما أنّ التواضع “مركبة الفضائل” أو “حوذيّ الفضائل” auriga virtutum
القراءة من سِفر الخروج (14: 1 – 15: 1) : عبور بحر القلزم
يحتفل العبرانيّون في الفسح العبريّ بتحرير شعبهم هم، أمّا نحن فنحتفل بتحرير جميع الشّعوب. يحتفلون بتحرير مؤقّت ومحدود أمّا نحن فنحتفي بتحرير دائم وغير محدود.
يعترف العهد القديم أنّ أرض مصر ليست وما كانت يومًا ميراثًا لليهود.
ويبدو أن الشعب الذي استعبده فرعون وقومه لم يتعلّم الدرس فراح هو يستعبد شعبًا آخر بل شعوبًا أخرى. والمفروض من أمّة تألمت ألاّ تؤلم شعوبًا أخرى! هذا هو المنطق المسيحيّ! أمّا المنطق الربابيني الحاخامي التلموديّ فهو كالتالي: بما أنني أنا تعذّبت، فيجب عليك أنت أن تتعذب عشرة اضعاف، بما أنني يهوديّ وأنت “جوي” – حسب التّلمود- أي من الوثنيين “الحيوانات” “الأنجاس” يعني “المساخيط”.
القراءة من سِفر دانيال (3: 1 وتابع) : تمثال الملك نبوخدنصّر ! (من الطّقس اللاتينيّ القديم)
هذا المقطع وارد في الآراميّة لا العبريّة في سِفر دانيال. وكفانا التّأمّل في أصنام اليوم ومنها في الغرب- كما عند حكومة فرنسا الحاليّة أكثر من أية سابقاتها- وعدد كبير من حكومات الغرب صنم “العلمانيّة” أو العلمانويّة وصنم “الحّرّيّة”. في الواقع ليست فصلاً للدين عن الدولة – بخلاف الثيوقراطيّة الحاخاميّة التلمودية الربابينيّة والمشيحانيّة السياسيّة العبرية والبروتستنتية المعمدانية والسبتية وحتى عند غير المسيحيين من اليهوهيين- بل هي في الواقع محاربة للمسيحية ووإزالة لرموزها (ولا سيّما محاربة الكنيسة الكاثوليكيّة وشقيقتها الارثوذكسيّة)، والاحترام كلّ الاحترام والإكرام لكلّ الرموز والأعياد الأخرى خصوصًا اليهوديّة بذريعة “احترام الإنسان” و”التعدّديّة”، مع أنّ غير المسيحيّين أقلّيّة في تلك الأصقاع!
وفي الشّرق عندنا “أصنامنا” ومنها الفئويّة عند المسيحيين، مثلاً أنا من أتباع الوجيه الفلانيّ، والتشرذم في العالم العربي الذي تدهور إلى ميليشيات لا حدّ لها ولا عدّ ! أصنام جديدة ليست أمامها شيئًا التماثيل التي دُمّرت في أفغانستان أو الموصل إذ لا يعبدها في أيّامنا أحد !
رومية 6 : 3 ب – 11: المعموديّة دفن مع المسيح وقيامة بمعيّته له المجد!
لا يعني هذا النّصّ أنّ المعموديّة يجب أن تتمّ بالتّغطيس وبالتّغطيس فقط بل أنّ التّغطيس يدلّ أكثر من الطرق الأخرى وهي الصّبّ والرّشّ على دفن المسيح وقيامته. وبالفعل، لم يعمّد الرسل وتلاميذهم فقط بالتّغطيس بل أكيد أنّهم يوم العنصرة وأيّام معموديات جماهيريّة (منها في قورنثوس: أعمال 18 : 8 ب) عمّدوا سواء بالصّبّ أي صبّ الماء على رؤوس الموعوظين وأطفالهم، أو بالرّشّ، إذ لم تُوجد في المدينة المقدسة آنذاك وخصوصًا بقرب العلّيّة برك ولا بحيرات ولا بحور ولا أنهار. وهل استطاع الرسل أن يحملوا ويرفعوا ويغطّسوا ثلاثة آلاف بني آدم يوم العنصرة (أعمال الرسل 2) ؟
مرقس 16 : 1 – 7 : النّسوة أمام القبر الفارغ
يخطر على البال سؤال: لماذا لم تذهب السيّدة العذراء إلى قبر يسوع؟ ممكن أن يُعطى هنا نوعان من الرّدود، أفقيّ وعاموديّ، أي إنسانيّ وروحانيّ. الإنسانيّ الأفقيّ: لم تعد البتول مريم قادرة على التّحرّك بسهولة بل أصيبت بالإعياء والهزال والوهن بعد أن فُجعت باستشهاد وحيدها الحبيب.وحتّى أيّامنا، في معظم العالم الشّرقيّ، لا تذهب السيدات والفتيات والبنات إلى المدافن عند الدّفن. وفقط يذهب نفر منهنّ في الأيام اللاحقة. والجواب الرّوحانيّ العاموديّ هو: كانت السيّدة العذراء مريم على يقين من قيامة ابنها، فقد سمعت منه أو نقلاً عن رسله تنبؤاته المتكررة بقيامته في اليوم الثالث. لذا، كانت متأكّدة أنه لم يعد في القبر بل أنّه حيّ. وربّما ظهر لها ، بل الأقرب إلى الصواب أنه له المجد ظهر لوالدته منها السلام قبل أن يظهر “أوّلاً” للمجدليّة ، أوّلاً بعد والدته “سيّدة الحبايب”!
هنالك الكثير الذي يجب أن يقال في قيامة الرّبّ يسوع من بين الأموات، قطعًا بجسده المصلوب، وإلاّ لا معنى لكلمة قيامة! وحسبنا في هذا المقام أن نعطي البرهان من الآثار لئلاّ يتّهمنا قوم أنّ كلاًّ منّا “شاهد ما شافشِ حاجة”. البرهان هو القبر الفارغ حتّى أيامنا. البرهان هو عدم مقدرة اليهود إيجاد جثمان يسوع ولا عظامه، بعد نحو خمسين سنة من احتلالهم للقدس الشرقيّة ونحو سبع وستّين سنة من احتلالهم للقدس الغربيّة (التي كان معظم سكّانها مسيحيين فلسطينيين). وكم حاول عبرانيون وأمريكيون وغيرهم– عبر وسائل الإعلام وحتّى السّينما، مثل فيلم “الجثمان” سنة 2000 – أن يروّجوا أنهم وجدوا قبر أسرة يسوع (بما فيه عظامه) أطلقها مخرج يهودي كنديّ، سيمحا ياكوبوفيتشي، وسواه. ولكن عالم الآثار اليهوديّ (القاطن في فلسطين) عاموس كلونر Kloner أثبت أنّ لا علاقة لتلك العظام ولا لذلك القبر مع السيّد المسيح وأقاربه.
خاتمة
يقول قداسة البابا فرنسيس: “احتفالنا بآلام يسوع و”فصحه” أي عبوره من الموت إلى الحياة يعلّمنا أن نقبل الواقع ونتعامل معه”: واقع الظّلم واقع العوج واقع الإثم واقع الألم واقع الشّرّ واقع الموت وفي نفس الوقت واقع قيامة يسوع ورجاء قيامتنا. المسيح حقّا مات، وحقًّا قام : “قام في الحقيقة وتراءى لسمعان”. هلّلويا!
“هذه هي اللّيلة التي قيل فيها (مزمور 139 (138): 12) : “اللّيل كالنّهار ينير، سِيّان عند الظّلمة والنّور”.