عظة الأحد السادس للفصح (ج)
الأب بيتر مدروس
يركّز المرء هنا على القراءة الأولى من سِفر أعمال الرّسل، من غير إغفال للإنجيل الطّاهر في هذا الأحد. وصية يسوع بالمحبة مفروغ منها. والباراقليط المعزّي (في الآرامية מנחמנא “منحمانا”) هو روح القدس في إنجيل يوحنا وليس “المحمود” ولا “الممدوح”. ولا ترد ولا في أية مخطوطة من كتابات مار يوحنا الرسول الحبيب اللفظة التي يتخيلها بعضهم وهي “بيريكليتوس” بدل παράκλητος “باراكليتوس” التي تعني “المدافع، المؤيّد، المعزّي” وتشير في إنجيل يوحنا إلى “روح القدس” ، “روح الحقّ” لا إلى إنسان، وفي رسالة يوحنا الأولى 2 إلى يسوع نفسه.
“بيموت اليهودي وخاطرو في دينو”(أعمال15 : 1 – 29)
كان الوالد رحمه الله يقول : “ما من مَثَل كذب”. ربّما أتى ذلك من باب المبالغة الشّرقيّة ولكنّ الأمثال نشأت من خبرة الحياة. وقراءة أعمال الرّسل تروي لنا أنّ “قومًا نزلوا من اليهوديّة” وراحوا يعلّمون “الإخوة” أي المسيحيين الجدد أنه عليهم أن “يختتنوا على شريعة موسى وإلاّ لن يجدوا إلى الخلاص سبيلاً”. يهود يهوّدون: و”لكلّ امرىء من دهره ما تعوّدا” (بإشباع الألف للشِّعر). “من أوّلها” يسعى العنصر العبريّ أن يتحكّم في الكنيسة وأن يفرض على الوثنيين المهتدين إلى المسيح أنه عليهم اتّباع الأمور الخارجية الطقسية من شريعة موسى. وغفل القوم أو تغافلوا أنّ خلقًا من الوثنيين كثيرًا – وهم الملقّبون ب”خائفي الله” (ولعلّ سابينا بوبيا زوج نيرون الثانيةكانت منهم، كما يكتب فلافيوس يوسيفوس) مالوا نحو اليهودية ولهم ثلاثة أرباع الخاطر في اعتناقها، لولا استثقالهم للختان ولعدد من الممارسات الحاخامية التلمودية المعقّدة التي لا تقع تحت حصر.
طبعًا، ومن غير تردّد أجاب الرسل أنّ وصيّة يسوع واحدة : أمر له المجد بالمعمودية لا بالختان. وتمسك بروح الشريعة لا بحرفها ولا بمادتها إذ بسهولة يتغيران حسب الزمان والمكان. فالمادة محدودة بخلاف الروح: وهذا عنصر من عناصر عبقرية المسيح والمسيحية: تخطي المادة ومحدوديات الزمان والمكان والتفاصيل المادية، إذ كما يقول الفيلسوف القديس النابغة توما الأكويني: “مبدأ الفرديّة هو المادة وقد ختمتها الكمّيّة” materia signata quantitate
ولكن الرسل ما أرادوا مع اليهود عداوة ولانفورًا ، فرغبوا في أن يجاروا معشر العبرانيين حيث تواجدوا وبشكل مؤقّت محدود، فنصحوا المسيحيين من أصل وثنيّ – لا من باب القهر والواجب بل من باب المسايرة الحميدة- أن يمتنعوا حيث وجدوا يهودًا عن “الميتة والمخنوقة والدم (أي تصفية دماء الحيوانات المذبوحة كما هو الحال في ذبح “الحلال” ، ولا تعني العبارة منع نقل الدم) والزنى أي زواج الأقارب الأقربين وأكل اللحوم المذبوحة للأوثان. ويرى المرء تعميمًا لهذه التدبيرات في نصوص قرآنية منها البقرة 173، المائدة 3، الأنعام 145 والنحل 15. وحافظ الإسلام على الختان (مع أنه غير مذكور في النصوص القرآنية) والوضوء والتمييز بين المأكولات وطريقة الذبح وسواها ممّا لم يأمر به المسيح أتباعه.
أمّا المسيحيّون من أصل يهوديّ فأصرّ نفر منهم أن يستمرّ في اتباع التعليمات الطقسية الحاخامية التلمودية في حين “ما صدّق” آخرون أن يتخلّصوا منها، ولسان حالهم قول الرسول بطرس : ” لماذا تجرّبون الله الآن بأن تجعلوا على أعناق التلاميذ نيرًا لم يقوَ آباؤنا ولا نحن قوينا على حَمله، فإننا نؤمن بأنّنا بنعمة الرب يسوع ننال الخلاص، كما يناله كل هؤلاء (الوثنيين) أيضًا” (أعمال 15 : 10- 11).
في حياتنا الروحانية وفي تاريخ الكنيسة، راعويًّا
في حياتنا الروحانيّة لا نتمسّكنّ بالمظاهر الخارجيّة بل لنأخذنّ موقف يسوع المعلّم: لا الإصرار على طهارة الجسد والفصل بين الذكوروالإناث ،والفصل بين المؤمنين وغير المؤمنين سعيا للنقاوة، بل الطهارة الداخلية طهارة الروح (عندها تتبع نقاوة الجسد) وبراءة العين (من غير الارتباط بحجاب أو نقاب). فالهدف أيضًا في اليهودية والإسلام من هذه الإجراءات هو الطهر لا التوقف عند “العناصر المادية” التي تكون حينها جسدًا بلا روح وقشورًا من غير جوهر.
في تاريخ الكنيسة نشأت منذ البداية حركات من أصل عبريّ أصرّت أن تقيم معًا “التوراة والإنجيل” لابمعنى الوصايا العشر التي تسري لكل زمان ومكان بل من ناحية التوصيات اليهودية الحاخامية الطقسية. وأخذت تلك الحركات عدة اسماء منها “الناصريون” و”الإبيونيون”. ونادرًا ما ظهرت فرق رفضت العهد القديم مثل الغنوصية أو بدعة “مرقيون”. بل من الطريف أنّ معظم الحركات الانفصالية قبلت الميثاق العتيق، مع كل صعوباته، وانتقدت عناصر من العهد الجديد مع أنّه أقرب إلى القلوب وأكثر شفافية في أخلاقياته الرافضة لسلبيات مثل تعدد الزوجات والحرب المقدسة أو الإبسال المعروف بلفظة “حيريم” العبرية وتطليق الرجال لزوجاتهم بذريعة مثل”شمّاي” أو بغير سبب مثل مدرسة ” هيلّل”.
وعندما أتت حركات الاحتجاج على الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى، بداية بالألبيجيين والكاثاريين، ما قربت من العهد القديم ولاشكّت في أيّ من معطياته، إلاّ رفضها للأسفار “القانونية الثانية” أي يهوديت وطوبيا ويشوع بن سيراخ وكتب المكابيين ونبوة باروخ ورسالة إرميا ، لا لشيء إلاّ لأنّ اليهود رفضوا هذه الأسفار في مجمع “يبنيه” بقرب يافا سنة 90 م. ومن شابه أباه ما ظلم.
خاتمة
كتب مار بولس (غلاطية 5 : 1) : ” لقد حرّرنا المسيح تحريرًا، فاثبتوا ولا تدعوا أحدًا يعود بكم إلى نير العبودية” أي الختان وسائر التوصيات التلمودية من وضوء وتمييز بين المأكولات وطريقة الذبح وتركيز على الطهارة الطقسية عند الإناث والذكور وسواها. وإذا رأى قوم أنّ هذه العبارات قاسية، فهي بصراحة لا شيء إذا قوبلت بما كتبه رسول الأمم الإناء المختار بولس إلى الغلاطيين في شأن الختان وقدحه بالراغبين في فرضه على الوثنيين المهتدين.
العبودية الوحيدة التي يقبلها مار بولس، بناء على وصية يسوع ، هي “عن طريق المحبة، اجعلوا بعضكم عبيدًا لبعض” (غلاطية 6: 13).