عظة الأحد السادس للفصح (ج)

الأب لويس حزبون

في إنجيل الأحد السادس للفصح يصف إنجيل يوحنا (يوحنا 14: 23-29) وداع يسوع لتلاميذه في العشاء الأخير مبيّنا طبيعة ملكوته ومحدد شروطه. وتقوم شروطه على حفظ الوصايا لنيل السلام رغم الاضطراب. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

اولا: وقائع النص الانجيلي (يوحنا 14: 23-31)
23أَجابَه يسوع: ((إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً.
تشير عبارة” إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي” إلى ان المحبة هي الشرط الذي تنبع منه الطاعة الكاملة لكلمة الله ووصاياه والشركة الروحية مع الله ايضا. وترتبط الطاعة للوصايا بالمحبة (يوحنا 15: 21). وهنا يبدأ يسوع يوجه حديثه لا إلى تلاميذه وحدهم، بل إلى كل المؤمنين الذين يحبونه؛ أما عبارة ” نأتي إِلَيه” فتشير الى ان يسوع المسيح والآب واحد، وهذه إشارة لوحدانيته مع الآب. اما عبارة “مُقام” فتشير إلى حضور وسكنى الآب والابن في المؤمنين (رؤيا 3: 20)، إذ يقيم الله الاب والابن والروح القدس من قلب المؤمن منزلا او مسكنًا أو هيكلا؛ وعليه بعد اليوم لا يكون هيكل اورشليم موضع حضور الله، بل قلب المحبّين الذين يحفظون وصايا يسوع المسيح. وهنا يجيب يسوع بصورة غير مباشرة انه هو وأبوه يقيمان بوجه نهائي عند الذين يحفظون وصاياه بمحبة. وهكذا يتحقق طموح المؤمنين الذين عاشوا في العهد القديم ” فإنه هل يَسكُنُ اللهُ حَقًّا على الأَرضَ؟ ” (1 ملوك 8: 27). فمن يستضيف الله على الأرض يستضيفه الله في السماء “فنَحنُ هَيكَلُ اللَّهِ الحَيّ، كما قالَ اللّه: أَسكُنُ بَينَهُم وأَسيرُ بَينَهُم وأَكونُ إِلهَهُم وَيَكونونَ شَعْبي” (2 قورنتس 6: 16). ووفي هذه الآية هنا نجد إجابة يسوع على سؤال يهوذا تداوس، هو أخو يعقوب كاتب الرسالة (يوحنا 14: 22) وهي أنَّ يسوع المسيح سيظهر لتلاميذه وسيرونه ولكن ليس بالجسد كما يفهم يهوذا، ولن يراه سوى من يحبه ويحفظ وصاياه. لان يهوذا لم يفهم أن الظهور الذي كان يقصده الرب هو ظهور روحي، إنما كان يتوقع أن يملك المسيح على أورشليم ملكًا سياسيا ارضيا. فجواب يسوع يبيّن الطبيعة الحقيقية لملكوته ويحدد شروط ظهوره.
24ومَن لا يُحِبُّني لا يَحفَظُ كَلامي. والكَلِمَةُ الَّتي تَسمَعونَها لَيسَت كَلِمَتي بل كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَني.
تشير عبارة “مَن لا يُحِبُّني ” الى من ينجرف في تيار محبة العالم ويتنكر لله وكلماته كما جاء في تعليم يعقوب الرسول: ” أَلا تَعلَمونَ أَنَّ صداقَةَ العالَمِ عَداوةُ الله؟ فمَن أَرادَ أَن يَكونَ صَديقَ العالَم أَقامَ نَفْسَه عَدُوَّ الله”(يعقوب 4:4)؛ امّا عبارة “لا يَحفَظُ كَلامي” فتشير الى ان لا طاعة بدون محبة، وهي إجابة على سؤال يهوذا ” يا ربّ، ما الأَمرُ حتَّى إِنَّكَ تُظِهرُ نَفْسَكَ لَنا ولا تُظهِرُها لِلعالَم؟ “، فالعالم لا يحب المسيح. اما عبارة “الكَلِمَةُ الَّتي تَسمَعونَها لَيسَت كَلِمَتي بل كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَني” فتشير الى رفع مستوى الكلام الذي يتكلم به إلى مستوى الرسالة الإلهية. فمن لا يحفظ أقوال المسيح وهي نفسها أقوال الآب، فهو لا يحب الله الآب.
25قُلتُ لَكُم هذه الأَشياءَ وأَنا مُقيمٌ عِندكم
تشير عبارة ” أَنا مُقيمٌ عِندكم” الى المسيح في الوقت الحاضر طالما هو موجود بالجسد فهو يعلم ويتكلم بشخصه، ويودع كلامه أمانة عندهم إلى أن يأتي الروح القدس فيعلمهم كل شيء ويذكّرهم بكلامه وتعاليمه

26 ولكِنَّ المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم. ِ
تشير عبارة ” المُؤَيِّد” باليونانية البارقليط παράκλητος الى الروح القدس، والتي تردّدت هذه اللفظة أربع مرات في انجيل يوحنا (يوحنا 14: 16، 26 و16: 15 و16: 7) ومرة واحدة في رسالة يوحنا الأولى 3: 24). والمعنى الحرفي لهذه اللفظة هو ذاك الذي يقف قرب المتهم ويدافع عنه في المحاكم أمام القضاء، فدُعي المحامي، لأنه يتدخل أمام عدالة الآب لحساب الخطأة، ودُعي أيضا “الشفيع “(1 يوحنا 2: 1) إذ أن “الرُّوحَ نَفسَه يَشفَعُ لَنا بأَنَّاتٍ لا تُوصَف” (رومة 8: 26)؛ وإن وظيفة الروح هي ان يبكت “يُخْزي العالَمَ على الخَطيئِة والبِرِّ والدَّينونَة”(يوحنا 16: 8) وان يشهد (يوحنا 15: 26) وان يعلّم (يوحنا 14: 26) ماذا نقول في الصلاة (رومة 8: 26-27) ويُعلمنا كل شيء يخصُّ المسيح: مجده وعظمته ومحبته وطبيعته فيكون لنا رؤية صحيحة عن المسيح فنحبه (يوحنا 16: 14). ودُعي أيضا “المعزي” وهو من يقوّي، ليس فقط بالمؤاساة بل أيضا بإعلان طبيعة يسوع وعمله؛ ان هذه الآية تثبت الاقنومية (الشخصية) الواضحة للروح القدس. وهذا ما يوكّده بولس الرسول ” ولْتَكُنْ نِعمةُ رَبِّنا يسوعَ المسيح ومَحبَّةُ اللهِ وشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ معَكُم جَميعًا ” (2 قورنتس 13: 13). فالروح يتابع عمل يسوع، ويعاون التلاميذ لدى اتهام العالم لهم. هذا الروح يبقى معنا، ولا يحل محل يسوع الذي هو معنا حتى انقضاء الدهر (متى 28: 20) ويعمل عمل التقديس في الكنيسة، دون ان يكون لعمله حدود في الزمان والمكان. أما عبارة “يُرسِلُه الآبُ بِاسمي” فيشير الى وعد يسوع بإرسال الروح القدس لتلاميذه مما يؤكد صلاحية وصدق العهد الجديد بأسفاره (1 قورنتس 2: 10-14)؛ اما عبارة “اسمي” فتشير الى وساطة الابن وحضوره وطبيعته وقوته وعمله ومشيئته؛ وعليه فإن ارسال الروح القدس من قبل الآب هو تلبية لطلب يسوع وقوته وقدرة عمله الفدائي (يوحنا 14: 13-14). اما عبارة “هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء” فتشير الى وعد يسوع التلاميذ بأن الروح القدس يجعلهم يتفهّمون حقيقة شخصية يسوع تفهّما تدريجياً. فالروح الذي يفحص كل شيء حتى أعماق الله قادر أن يكشف لنا حتى أعماق الله (1 قورنتس 10:2). أما عبارة “يُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم” فتشير الى وعد يسوع التلاميذ بأن الروح القدس سيعينهم على ان يتذكروا كل ما كان يُعلمهم إياه، وهذا الوعد يؤكد صلاحية وصدق العهد الجديد. إن عمل الروح القدس وهو ليس ان يأتي بإنجيل جديد، بل يذكر المؤمنين إنجيل المسيح. ويعلق البابا غريغوريوس على ذلك بقوله ” يهبكم المعرفة بكونه يعرف ما هو خفي”؛ والروح القدس هو أكثر من التذكير بنفس كلمات ابن الله، انه صورة حيّة لكل ما نطق به امام تلاميذه سابقا. أنه شرح للإنجيل. ان التلاميذ الذين سبقوا ان شاركوا يسوع حياته في الأرض (يوحنا 15: 17) يحفظون ذكرى ما عمله وقاله بفضل الروح القدس الذي يساعدهم على إدراك معنى أعماله العميق (يوحنا 2: 22و 12: 16). ويعلق القديس أوغسطينوس على هذه الآية بقوله: “إنَّ الثالوث القدوس كله يتكلم ويعلم (يوحنا 6: 45) لكنهم غير منفصلين”.

27السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم. فلا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم ولا تَفْزَعْ.
تشير عبارة “السَّلامَ” الى ملء الحياة والهدوء والسكينة الإلهية وطمأنينة وراحة وسط ضيقات العالم (2 قورنتس 4: 8). اما عبارة “أَستَودِعُكُم” فتشير الى ان يسوع المنطلق للموت يترك لتلاميذه السلام كميراث. اما عبارة “أُعْطيكم” فتشير الى ان السلام عطية المسيح لهم ووعد منه، ولا يستطيع العالم ان يعطيه او ينزعه، وهو الهبة المسيحية المثالية (اشعيا 9: 5-6). إن نتيجة عمل الروح القدس في حياتنا هي السلام العميق الدائم. اما عبارة ” سَلامي” فتشير الى عهد بين المسيح وكنيسته، فسلام يسوع هو ثقة أكيدة في وسط أي ظروف. وبهذا النوع من السلام لسنا بحاجة لان نخاف من الحاضر او المستقبل، (يوحنا 4: 6، 7)؛ أما عبارة “كما يُعْطي العالَم ” فتشير الى سلام العالم الذي يُعرف عادة بانه عدم صراع او ميثاق حسن الجوار (يشوع 9: 15)، او هِدنة، بل مساومة، سلام البعض على حساب البعض الآخر، سلام تخدير أمام المآسي؛ لأنه يقوم سلام العالم على المال والمناصب والجاه والمباهج والملذات الزائفة والزائلة، التي تدوم إلى زمن وسريعًا ما تذهب أدراج الرياح؛ امَّا عبارة ” فلا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم ولا تَفْزَعْ ” فتشير الى الخوف من المجهول أو بسبب شدة الحزن. وهنا نجد التلاميذ فعلًا أنّهم في حالة اضطراب بسبب ما سمعوه من أن أحد التلاميذ ينكره وآخر يسلمه وأن يسوع سيفارقهم، بل سمعوا أنه سيموت، فشعروا بخيبة أمل في مملكة توقعوا قيامها. والمسيح يطمئنهم حتى لا يتزعزع إيمانهم (متى10: 16-22). فسلام المسيح يجعل قلوبنا لا تضطرب، لا بالهروب بل بالحضور، فسلامه يرفعهم فوق ذواتهم ويسكن في قلوبهم ويملك عليهم (قولسي 3: 15) فيوقف اضطرابهم. أمَّا عبارة “قلوبكم” فتشير الى مصدر الشعور والعواطف، ومصدر الخوف الذي هو فقدان الصلة بالله، والصلة تأتي بالتمسك بالله بالإيمان، فالاضطراب والخوف هو الداء والإيمان بالله هو الدواء. أما عبارة “فلا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم ولا تَفْزَعْ ” فتشير الى سبب لعدم اضطراب قلوب التلاميذ، وهو أن يسوع وإن كان ذاهبًا عنهم إلاَّ أنه سيأتي إليهم. “أَنا ذاهِبٌ، ثُمَّ أَرجعُ إِلَيكمُ.” (يوحنا 14: 28)؛ إنه ذاهب ليتسلم الملكوت والسلطان والقوة لحسابهم، لذا فان من الأجدر بهم أن يفرحوا بما سيتمتعون به.
28سمِعتمُوني أَقولُ لَكم: أَنا ذاهِبٌ، ثُمَّ أَرجعُ إِلَيكمُ. لو كُنتُم تُحِبُّوني لَفَرِحتُم بِأَنِّي ذاهِبٌ إِلى الآب لأَنَّ الآبَ أَعظَمُ مِنِّي.
تشير عبارة “لو كُنتُم تُحِبُّوني لَفَرِحتُم بِأَنِّي ذاهِبٌ إِلى الآب ” الى حقيقة تجلب الفرح للتلاميذ، لان رجوعه الى الاب سيضمن لهم بركة سلامه الفعالة؛ اما عبارة “لو كُنتُم تُحِبُّوني لَفَرِحتُم بِأَنِّي ذاهِبٌ إِلى الآب” فتشير الى ان موت يسوع وصعود الى الآب يمنح تلاميذه الفرح، فان عودة يسوع الى الآب تثبته في مجده كابن الله، وتمكنه من العودة الى تلاميذه ليغمرهم بعطاياه السلام والفرح. اما عبارة “الآبَ أَعظَمُ مِنِّي” فتشير الى الآب في مجده الذي هو أعظم من حالة الابن في تجسُّده الذي أخلى ذاته وصار إنساناً وتنازل ليحقق خلاصنا؛ فصار في تنازله كمن هو أقل من الآب في المجد حسب ناسوته؛ والآب أعظم من الابن أيضا من حيث الأبوة، وليس من حيث الطبيعة والجوهر والمقام. انه في البنوة في حالة مَنْ يطيع. وقد اطاع حتى الموت موت الصليب (فيلبي 8:2). ويسوع باعتباره الله الابن، يخضع طواعية لله الآب. وبهذا المعنى فإنَّ “الابن” هو أصغر من الآب وأقل درجة منه. فالمسيح كإنسانٍ هو أقل من الآب، والمسيح كإلهٍ مساوٍ للآب، مساوٍ للَّه (يوحنا 30:10)؛ فالآب والابن واحد في الطبيعة وفي الجوهر. فالعلاقة بين الآب والابن هي علاقة مُساواة في الازليّة وفي العمل وهي علاقة انسجام كامل بين الآب والابن. وان الابن يشارك الآب في قدرته وطبيعته ” أَنا والآبُ واحِد” (يوحنا 10: 30). وبالتالي فان مقارنة هنا بين الآب والابن تشير الى الوظيفة والعمل، وليس للقيمة الشخصية والمقام، لأنهما واحد في الجوهر والطبيعة واللاهوت (يوحنا 17: 11) إذ “ففِيه يَحِلُّ جَميعُ كَمالِ الأُلوهِيَّةِ حُلولا جَسَدِيًّا” (قولسي 9: 9). وفي سياق الكلام هنا لا توجد إشارة الى نقص الابن عن الآب، انما اشارة الى حالة الابن المتجدد المتواضعة التي ستتحوّل الى تمجيد صادر عن الآب حيث انَّ يسوع “هو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان”(فيلبي 2: 6-7). وهذا التمجيد هو ينبوع خيرات روحيّ للتلاميذ وللكنيسة. هنا المسيح يعزي تلاميذه عن فراقه لهم بالموت ويشرح لهم أن الموت هو الطريق الوحيد للخلود وبذهابه سيرسل لهم الروح القدس الذي يكشف لهم حقيقة شخصية المسيح، فيفرحون بأن المسيح بجسده سيكون له نفس مجد الآب. وهذا سيعود بالبركة على تلاميذه (عبرانيين 12:9) وعلى الكنيسة (لوقا 24: 26). ً

29لقَد أَنبَأتُكم مُنذُ الآنَ بِالأَمرِ قَبلَ حُدوثِه حَتَّى إِذا حَدَثَ تُؤمِنون.
تشير “عبارة ” أنبَأتُكم ” الى اقوال المسيح ما سيحدث للتلاميذ، فيستطيعون ان يفهموا أنَّ مخطط حياتهم هو في يد الرب. اما عبارة “قَبلَ حُدوثِه حَتَّى إِذا حَدَثَ تُؤمِنون” فتشير الى ان المسيح يخبر تلاميذه بكل ما سيحدث من موت وقيامة وصعود وإرسال للروح القدس، حتى حينما يتم ذلك يزداد إيمانهم به. اما عبارة “الآنَ” فتشير الى ان يسوع على وشك الرحيل. تؤكد الآية الى اقوال المسيح عن الأحداث التي ستجرى كي يزيد من تفهم التلاميذ لهذه الاحداث ويثبِّت حدوثه إيمانهم.
30لن أُطيلَ الكَلامَ عَلَيكُم بَعدَ ذلك لأَنَّ سيِّدَ هذا العالَمِ آتٍ ولَيسَ لَه يَدٌ علَيَّ.
تشير عبارة ” سيِّدَ هذا العالَمِ” الى ابليس (يوحنا 6: 7)، رئيس هذا العالم كما جاء في رسائل بولس الرسول (أفسس 2: 2)، لأنه “يرأس الخطأة الذين قد أسلموا إليه ذواتهم كما يُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم. ودُعي أيضا سيد هذا العالم باسم ” إله هذا العالم” (2 قورنتس 4: 4) والشيطان (يوحنا 13: 27) وهي القوة المعادية للسيادة الإلهية (يوحنا 6: 70-71)؛ وذلك بسماح الله له بالعمل؛ أمَّا عبارة “لَيسَ لَه يَدٌ علَيَّ ” فتشير الى انه ليس للعالم والذي يحكمه أي الشيطان أي حق على يسوع، لأنه بلا خطيئة كما جاء في تساؤل يسوع لليهود “مَن مِنكم يُثبِتُ عَليَّ خَطيئة؟ (يوحنا 8: 46)، ولانَّ يسوع بلا خطيئة فليس للشيطان سلطان عليه او دعوى ضده. المسيح يتقبل الآلام بمجرد حريته، فانه يعبّر بطاعته التامة عن محبته للاب (يوحنا 4: 34). وبانتصار يسوع على ابليس بالصليب سيؤدي حتماً الى هزيمة الشيطان وإبعاده عن العالم “اليَومَ يُطرَدُ سَيِّدُ هذا العالَمِ إِلى الخارِج” (يوحنا 12: 31). وهكذا لا تكون آلام المسيح عمل الشيطان الذي دخل في يهوذا الإسخريوطي، بل نتيجة حرية الابن الذي اطاع محبة للآب كما أعلن يسوع “طَعامي أَن أَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني وأَن أُتِمَّ عَمَلَه” (يوحنا 4: 34).
31وما ذلِكَ إِلاَّ لِيَعرِفَ العالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآب وأَنِّي أَعمَلُ كما أَوصاني الآب. قوموا نَذْهَبْ مِن ههنا.
تشير عبارة “لِيَعرِفَ العالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآب ” تشير الى ان يسوع ينبغي ان يتألم، وبصليبه يكشف للعالم محبته؛ اما عبارة “قوموا نَذْهَبْ مِن ههنا” فتشير الى نهاية الخطبة الأولى من حوار يسوع مع تلاميذه بعد العشاء الأخير (مرقس 14: 42)، لذلك سأل تلاميذه أن يقوموا ويغادروا العلية وينطلقوا بعد ان عرفوا أنه يذهب إلى الموت ليس كرهًا بل لأنه يحب الآب.

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 14: 23-31)
انطلاقا من هذه الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 14: 23-29)، يمكن ان نستنتج انه يتمحور حول خطاب سيدنا يسوع المسيح في وداعه في العشاء الأخير حيث يشدّد عزائم تلاميذه بحثهم على محبته بحفظ وصاياه كي ينالوا السلام. ومن هنا نبحث في نقطتين: المحبة ليسوع، ونيل السلام.
1) محبتنا ليسوع (يوحنا 14: 23)
يحث يسوع تلاميذه على المحبة، فكلمة محبة ترد ثماني مرات في هذا النص الإنجيلي. يسوع قريب من تلاميذه ويريد منهم ان يحبوه. ويتصف الحب الصادق بالخضوع لمن نحبه. عندما نحب شخصا، نستطيع ان نتخلى بحرية عن وجهة نظرنا الشخصية لتتلاءم بين ارادته ورغباته، لتصبح رغبته رغبتنا.
اما السبيل الى محبة يسوع فهو حفظ وصايا. برهان الحب هو إعلانه خلال العمل. هذا هو السبب الذي لأجله يقول يوحنا في رسالته: ” مَن قالَ: ((إِني أَعرِفُه)) ولَم يَحفَظْ وَصاياه كان كاذِبًا ولَم يَكُنِ الحَقُّ فيه” (1 يوحنا 2: 4). حبنا حقيقي ليسوع عندما نحفظ وصاياه. والمحبة تُنشا رباط وثيق بين يسوع والتلميذ الامين لوصاياه، ولكن يسوع لا ينفصل عن الآب، فوجود الواحد لا يُعقل دون وجود الآخر ” أَنا والآبُ واحِد” (يوحنا 10: 30)، لذا يَعد يسوع بمجيء الاب والابن الى التلميذ الذي يحفظ الوصايا “إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً” (يوحنا 14: 23). اجل! يسكن يسوع في قلوب الذين يؤمنون به، ويفتحون أبواب قلوبهم على مصراعيها، عن حب ورضا وقناعة. لكنه لا يظهر نفسه إلاّ للذين يحبونه، لأنه يحترم حرة الفرد، فلا إكراه في الحب.
ويحذر السيد المسيح من محبة العالم ومباهجه الباطلة التي تحرمهم من حفظ كلامه الذي هو كلام الآب، بهذا يعلنون عن حبهم للظلمة لا للنور، للشيطان لا للمسيح. فلن يكون للمسيح ولا للآب موضع فيهم. وفي هذا الصدد يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم ” من لا يحفظ الوصايا لا يحب يسوع المسيح فقط، لكنه لا يحب أبيه أيضًا، وإن كانت دلالة الحب هي الاستماع للوصايا، فمن يسمعها لا يحب الابن فقط، لكنه يحب معه أباه”
يعلم يسوع انه على وشك الرحيل، ويبدو للتلاميذ ان معلمهم سيتركهم للذهاب الى الموت. فيعلن يسوع عن حبه بحضوره بالذات في أقنوم الروح القدس. فقول يسوع “أَنا ذاهِبٌ، ثُمَّ أَرجعُ إِلَيكمُ” (يوحنا 14: 28) يظهر ان الفراق شرطا لحضوره الحميم والكامل في ملء تجلي شخصه الإلهي؛ يحضر يسوع سريا في نفس المؤمن بالرغم من غيابه جسديا. فيكون التلميذ مضيافاً وهيكلاً لله الاب والابن والروح القدس. فليس مقام الله هيكلا من حجارة، بل مقامه في قلب الانسان كما يؤكد ذلك بولس الرسول بقوله “أو ما تَعلَمونَ أَنَّ أَجسادَكُم هي هَيكَلُ الرُّوحِ القُدُس، وهو فيكُم قد نِلتُمُوه مِنَ الله” (1 قورنتس 6: 15).
لقد ادخل يسوع تلاميذه في عالم الايمان؛ ويأخذ الايمان اسم الحب. فحضور الآب والابن والروح القدس هو وعد للتلميذ الذي يحب. “إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي” (يوحنا 14: 23)، ويطلب يسوع الطاعة والمحبة اللتين كان الله يوصي بهما في العهد القديم ” أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بكُلِّ قَلبكَ كلِّ نَفسِكَ كلِّ قُوَّتك” (ثنية الاشتراع 6: 5). فحفظ التلميذ للكلمة وأمانته لها، يضمنان له حياة صداقة مع الله الذي كشف عن ذاته في عمق حياته في الأقانيم الثلاثة.
2) سلام يسوع لنا (يوحنا 14: 28-31)
ينال المؤمن من خلال حفظ الوصايا سلام المسيح “السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم ” (يوحنا 24: 27)، وبهذا تتحقق نبوءة حزقيال النبي “أَقطَعُ لَهم عَهدَ سَلام. عَهدٌ أَبَدِيّ يَكونُ معَهما، وأُقيمُهم وأكَثِّرُهم وأَجعَلُ مَقدِسي في وَسطِهم لِلأَبَد (حزقيال 37: 26). يختلف سلام يسوع كليا عن السلام الذي يمنحه العالم. سلام العالم هو سلام قائم على العنف، وعلى الحرب وعلى فرض السيطرة، اما سلام المسيح فهو نعمة تحل فينا من عَلُ، كما يقول صاحب المزامير ” الرَّبُّ يُبارِكُ بِالسَّلامِ شَعبَه.” (المزمور 29: 11) هو سلام الرّوح القدس، سلام المحبّة، سلام التضحيّة، سلام الوداعة، سلام يسعى الى العدالة الحقّة، سلام يقدر بقوّته أن يبدّل داخل التلاميذ ويحوّل العالم الى واحة سلام.
يتكلم يسوع عن السلام في ساعة يتعرض التلاميذ للقلق والاضطراب، لأنها ساعة يمضي فيها الى الألم والموت. فيحاول يسوع بكلمات التعزية ورفع المعنويات تلاميذه بإعطائهم سلامه “السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم ” (يوحنا 24: 27)، لان الله قد أعلن السلام بيسوع المسيح إذ جعله “ربا للعالمين” (لوقا 10: 36). فهو الذي حقّق السلام بدم المسيح على الصليب (قولسي 1: 20). فالسلام بمنظور يوحنا الإنجيلي هو ثمر ذبيحة يسوع المسيح (يوحنا 16: 33). فلم يعد سلام يسوع مرتبطاً بحضور يسوع على الأرض، بل يتعلق بانتصاره على العالم. وعلى حد شاعر مسيحي، لم يأتِ المسيح ليلاشي الحرب، بل ليضيف سلاما آخر، ألا وهو السلام الفصحى الذي يعقب الانتصار النهائي (لوقا 24: 36). ولذا فيما انه تغلب على الموت يعطي يسوع، مع سلامه الروح القدس وسلطة غفران الخطايا (يوحنا 20/ 19-23).
“السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم” بهذا الكلام بعث يسوع في قلب تلاميذه الطمأنينة والأمان وابعد عنهم أسباب الاضطراب والقلق، لأن سلام المسيح أبدي، يحفظ الإنسان في القداسة والبر، وليس من قوة تقدر أن تنزعه عن الإنسان المتمسك به. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم “مادام السلام يشملكم فما الذي يضركم من العالم؟” هو(المسيح) سلامنا، سواء عندما نؤمن بأنه هو، أو عندما نراه كما هو (1 يوحنا 3: 2).
يترك السيد المسيح لتلاميذه الذين تركوا كل شيء وتبعوه ” سلامه”. ويعلّق القديس يوحنا الذهبي الفم بقوله ” إنه يتركهم ليس في حزنٍ ومرارةٍ، بل في سلامٍ ليهبهم ميراثًا ثمينًا، هو سلامه! هو نفسه سلامنا (أفسس 2: 14)، إنه أورثنا ذاته سلامًا لنا”. يستمر هذا السلام في خِضَم المِحَن، ولن تعكّر المصائب صفاءَه، كما يقول القديس بولس: ” فلَمَّا بُرِّرْنا بِالإِيمان حَصَلْنا على السَّلامِ مع اللهِ بِرَبِّنا يسوعَ المَسيح، … وَنَفْتَخِرُ بِالَّرجاءِ لِمَجْدِ الله، لا بل نَفتَخِرُ بِشَدائِدِنا نَفْسِها لِعِلمِنا أَنَّ الشِّدَّةَ تَلِدُ الثَّباتَ والثَّباتَ يَلِدُ فَضيلةَ الاِختِبار وفَضيلةَ الاِختِبارِ تَلِدُ الرَّجاء والرَّجاءَ لا يُخَيِّبُ صاحِبَه،َ لأَنَّ مَحَبَّةَ اللّه أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحَ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا” رومة 5: 1-5) .
فما على التلاميذ الا ان يفتحوا قلوبهم لوعد العهد الجديد الذي سيختمه معلمهم بدمه الكريم على الصليب. وهذه الوعد يختصر بهذه الكلمة السلام. هذا السلام القائم على وعد قاطع بالطمأنينة المطلقة “سمِعتمُوني أَقولُ لَكم: أَنا ذاهِبٌ، ثُمَّ أَرجعُ إِلَيكمُ. لو كُنتُم تُحِبُّوني لَفَرِحتُم بِأَنِّي ذاهِبٌ إِلى الآب لأَنَّ الآبَ أَعظَمُ مِنِّي” (يوحنا 14: 28) هو قمة العطاء والمسيحاني “لِأَنَّه قد وُلدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا آبنٌ فصارَتِ الرِّئاسةُ على كَتِفِه ودُعِيَ أسمُه عَجيباً مُشيراً إِلهاً جَبَّاراً، أَبا الأَبَد، رَئيسَ السَّلام” (أشعيا 9: 5) وعلامة ملكوت الله، فبهذا المعنى يسمِّيه يسوع “سلامي” (يوحنا 14: 27).

هذا السلام هو عطية مجانية، فالسلام هو من النعم المسيحانية التي أعلنها الأنبياء: اشعيا (9: 5) وحزقيال (34: 25) وميخا (5: 4) وزكريا (9: 10). وقد صار هذا السلام ممكناً عبر التزام بالطاعة للآب. ويرتبط هذا السلام بشخص يسوع، لأنه يرتبط بالخلاص الذي يمنحه يسوع للتلاميذ. وقد حقق يسوع سلامه بعد كفاح طويل وصراع ونضال ضد قوى الشر، لان سيد العالم (ابليس) يقاوم رسالته. لا مكان للاضطراب والفزع في سلام المسيح ويعلّق الراهب الكبوشي القدّيس بيّو “إنّ الاضطراب لا يكون أبدًا من الله، بل من الشيطان؛ فكون الله هو روح سلام، لا يمكن أن يعطي سوى الصفاء”.
اما السبيل الى السلام فهو حفظ كلمة الله ووصاياه، وحفظ كلمة الله له شروطه وأسبابه، “من تلقّى وصاياي وحفظها فذاك الذي يحبني “إذا كنتم تحبوني، حفظتم وصاياي” (يوحنا 14: 15)5. إذًا محبّة الربّ هي بحفظ وصاياه والعمل بها. من أحبّ بذل. إذ أن الحبّ يتعارض مع الأنانية أي حبّ الذات. وما حفظ الوصايا سوى ترك ورفض للإرادة الشخصية، للأهواء، للذات. حفظ الوصايا هو الطاعة وتغير الذّات هو كفر وزهد بالذّات. ” مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفسهِ (لوقا 9: 23). فحفظ كلمة المسيح لا يعني ان تقوم ببعض الفروض، ولا ان نتلو بعض الصلوات تلاوة آلية روتينية، إنما حفظ كلمة المسيح هو فعل إرادة قوي؛ به نسمع كلمة الله، وبه نعمل بما توصي هذه الكلمة، أن الأبنية العظيمة قامت من حجارة صغيرة وكذلك حفظ وصايا الله يجب ان يبدا من الامانة للأمور اليومية الصغيرة. اما سماع كلمة المسيح، من دون العمل بها، فلا تجدي نفعا في الحياة الروحية.

الخلاصة
يرغب الإنسان من أعماق قلبه في السلام. والسبيل الذي يسلكه لاقتناء السلام وهو الاصغاء صوت المسيح الذي وعد بمنح السلام. فضمن تعاليمه الإلهيّة ووصاياه عن السلام، يقول السيد المسيح ليلة آلامه: “السلامَ أستَودِعُكُم وسَلامي أُعطيكم” (يو14: 27). هذا هو الإرث الذي تركه لنا: كلّ المواهب وكلّ المكافآت التي وعدنا بها كانت مرتبطة بالمحافظة على السلام. إن كنّا ورثة المسيح، فلنَبقَ في سلام المسيح. إن كنّا أبناء الله، يجب أن نكون مسالمين: “طوبى للسَّاعينَ إلى السَّلام فإنَّهم أبناءَ اللهِ يُدعَون” (متى5: 9). يجب أن يكون أبناء الله مسالمين، وطيّبي القلب، وبسطاء، وفي توافق تامّ من خلال المحبّة ومتّحدين برباط الفكرة الواحدة. فوراء كل الهموم يوجد سلامك الله الذي يفوق كل إدراك، فهو يحفظ قلوبنا وأفكارنا في المسيح يسوع (فيلبي 4: 6-7).
“السَّلامَ أَستَودِعُكُم”: إن الامانة التي يضعها الرب يسوع قبل رحيله هي السلام. هو يستودعنا السلام لنكون فعلة سلام. فلا ننسى أن كل مسيحي هو رسول سلام من العالم للعالم. – “وسَلامي أُعْطيكم”: لكن أي سلام ننقل للعالم؟ هو سلام يسوع المسيح الذي هو مصدره ومنبعه، بل حضور يسوع هو حضور سلاميّ. فجوهر رسالته على الأرض أن يزيل سلطان الخطيئة عن كاهل الإنسان فيُصالحه مع ذاته والآخر والآب، فيرد له حالة السلام الاولية. إنه “رئيس السلام ” (اشعيا 5: 9).
دعاء
لنصلي مع الكنيسة امنا:
أيها الربُ يسوع المسيح، يا من قلتَ لرسلك: «السلامَ أستودعُكم، سلامي أمنحُكم»
لا تنظر إلى خطايانا، بل إلى إيمان كنيستك،
وتنازل وأولِها الوحدَةَ والسلامَ، بحسبِ مشيئتِكَ.
اجعلْ السلام يملأ قلوبنا وعالمنا.
وانت يا مريم، أمّ السلام، كوني معنا، واستمدّي لنا السلام والعدالة في العالم.
السلام، السلام، السلام