عظة الأحد السادس للفصح (ج)
البطريرك بيتسابالا
النص الإنجيلي لهذا اليوم (يوحنا ١٤: ٢٣- ٢٩) هو جزء من خطاب طويل يلقيه يسوع على تلاميذه أثناء العشاء الأخير في العلية بعد غسل الأرجل.
هو خطاب وداعي فيه يرافق يسوع التلاميذ المضطربين بعد إعلان رحيله القريب. يودعهم من خلال كلمات تصف معنى ما يجري والغاية من بذل ذاته الوشيك.
في هذا الخطاب تتكرر بعض الجمل والعبارات التي استعملها يسوع وهي كلمات تمثّل جوهر حياة التلميذ.
أريد أن ألقي الضوء على جانبين.
الأول هو حقيقة أن يسوع على وشك أن يترك تلاميذه. إلا أن رحيله يمهّد امكانية رجوعه، وهو رجوع جديد أكثر غنى وجمالاً من الواقع الذي اعتاد التلاميذ عيشه معه خلال حياته الأرضية.
يكرر يسوع كلامه هذا عدة مرات في الفصل ١٤. إنه على وشك الذهاب والرجوع إلى الآب، حاملاً معه انسانيتنا. ومن أجل هذه الإنسانية يتم إعداد بيت يجد فيه الجميع مكاناً لهم.
يذهب يسوع إذاً ولكن كي يعود مرة أخرى (يوحنا ١٤: ٣). لن يعود يسوع وحده بل مع الآب والروح القدس. يقول يسوع “سنأتي إليه” (يوحنا ١٤: ٢٣). وهذه إشارة إلى ذاته وإلى الآب. كما سيرسل الآب الروح القدس (يوحنا ١٤: ٢٦) الذي سينقل إلينا حياة الله.
إن مجيء يسوع بعد الفصح سيأتي بأمر جديد. إنه ليس رجوعاً بسيطاً إلى ما كانت عليه الأمور فيما سبق، كما لو لم يتغير أي شيء. يخبرنا القديس يوحنا أنه بمجيء يسوع الجديد لن تبقى حياتنا ملكاً لنا، بل ستصبح حياة متحدة بالله، فتستمر شركة المحبة بين الأقانيم الثلاثة.
يأتي يسوع ليسكن فينا. ومع هذا المجيء يتم عمل الخلاص الذي بدأ في الفصح.
أما الجانب الآخر فهو أن كل ذلك مرتبط بجملة شرطية. في الواقع، يبدأ المقطع الإنجيلي لهذا اليوم بكلمة “إذا”: “إذا أحَبَّني أحَد…” (يوحنا ١٤: ٢٣).
لن تكون شركة الحياة مع الله ممكنة إلا إذا سكنّا في المحبة وقبلنا حبّ الله لنا وما كُشف لنا من أحداث الفصح.
إن سكنّا في المحبة، حصلنا على الطاعة: “إذا أحَبَّني أحَد، حَفِظَ كلامي” (يوحنا ١٤: ٢٣).
إن طاعة كلمة يسوع هي ثمرة الحياة الجديدة وخير دليل عليها. بالنسبة ليسوع الحب ليس مجرد شعور، بل حياة من الطاعة والإصغاء.
لقد كان يسوع أول من اختبر هذه الطاعة للآب ساعياً فقط لتحقيق إرادته. لا يخلو إنجيل يوحنا من كلمات تدل على طاعة يسوع للآب (يوحنا ٤: ٣٤؛ ٥: ٣٠؛ ٨: ٢٨- ٢٩).
لقد علّمته الحياة الطاعة وعرّضته إلى وضع مأساوي في الجسمانية حيث اختار ليس مشيئته بل مشيئة الآب.
لقد آمن واختبر يسوع أن هذه الطاعة هي الطريق المؤدّية إلى الحياة، وهي الطريق الوحيدة للبقاء في الحب. وعليه وقبل رجوعه إلى الآب، يظهر هذه الطريق لتلاميذه.
يعلم يسوع جيداً أنه ليس على تلاميذه العمل بمفردهم، بل إن الروح القدس هو ما يكوّن فينا حياة الأبناء أي حياة الطاعة. سيعلّم تلاميذه جميع الأشياء وسيذكّرهم بكلامه كي يبقوا مطيعين (يوحنا ١٤: ٢٦).
وفي النهاية يقول يسوع أن كل من يعيش هذا كله لن ينقصه السلام (“السلام أستودعكم وسلامي أعطيكم. لا أعطي أنا كما يعطي العالم” يوحنا ١٤: ٢٧). السلام هو حال من وجدوا طريقهم، ومن يعرفون أين يذهبون وأنهم ليسوا وحدهم في الطريق. يترك يسوع هذا السلام الخاص به والذي لا يستطيع أحد غيره منحه.
لن نجد في الأناجيل خطابات ونظريات عن السلام. السلام ليس فكرة مجردة وليس نتيجة مبادرات إنسانية أو ثمرة تصرف أخلاقي أو اجتماعي (“لا أعطي أنا كما يعطي العالم” الآية ٢٧). في الإنجيل، ينشأ السلام من خبرة العيش في حب المسيح. لاحقاً، وفي نفس الخطاب، يضيف يسوع: “اثبتوا في محبتي” (يوحنا ١٥: ٩).
لا يعني الكلام السابق عدم الاهتمام بالسلام بل دعوة لبنائه، بدءاً من خبرة الفصح حيث يضع يسوع كل شيء، حتى خياناتنا، في قلبه النابض حبا بنا.