عظة عيد جسد المسيح ودمه الأقدسان (ج)
البطريرك بيتسابالا
تحتفل الكنيسة اللاتينية بعيد الجسد في هذه الفترة مع أن توقيته الصحيح الزمني وسط أسبوع الآلام ، في خميس الجسد أو “خميس العهد”. والسبب واضح: انشغال المؤمنين بمأساة آلام السيد المسيح حينها. الآن تتفرغ الكنيسة للتأمل المليّ ب”سر الإيمان”.
تكوين 14: 18-20، مزمور 110 (109) : 1 وتابع
صدقت الرسالة إلى العبرانيين إذ رأت في “كاهن العلي ملكيصادق ملك شاليم” صورة للمسيح الكاهن الملك الأزلي الأبديّ، أمير السلام ومليك المدينة المقدسة وملك العدل والصّدق. وهذا النص من سِفر التكوين وسواه من اسفار صموئيل والملوك مناسبة ذهبيّة ليبيّن المرء أن “أورو شاليم” ما كانت مدينة يهودية بل يبوسية كنعانية وما انتمت إلى أيّ من الأسباط الاثني عشر. لذا، بعد أن احتلها داود الملك احتلالا عسكريًّا (وسيتبعه كثيرون في درب الاحتلال) نحو سنة 1000 قبل الحساب الميلاديّ أو قبل الميلاد (يما أن التاريخ تقريبيّ)، فقد أقامها له عاصمة وقد ضمن أنّ ما من سبط سيحسد صاحبه. وعندما أخذ العبرانيون المدينة وجعلوا اسمها “يروشالايم” بالياء وبصيغة المثنّى، ما كان للّفظة الجديدة أيّ معنى. وخطأ التفذلك ونقلها “رؤية سلام”.
مثل المسيح الكاهن يقدّم ملكيصادق خبزًا وخمرًا. وهما عنصرا سر القربان الأقدس. وكهنوت يسوع – المسيح المنتظر الذي أتى- ليس على رتبة هارون بل رتبة ملكيصادق! يعلن هذا الأمر المذهل صاحب المزامير (110 (109): 1 وتابع. وهنا تتجلّى النبوّة بأوضح معانيها: إخبار سابق عن المستقبل، عن المسيح المنتظر، وذلك على مسافة مئات من السنين. ألهم الله صاحب المزامير أن ينبىء سلفًا أن المسيح القادم لن يكون كاهنًا من سبط لاوي (ولا من آل عميرام ويوكيبد والدَي هارون ومريم وموسى كليم الله) بل “على رتبة ملكيصادق” اي سيكون له كهنوت أبدي لا يزول، بخلاف الكهنوت اللاوي الهارونيّ. يعني كلامنا بالعربية الفصحى أنّ صاحب المزامير أخبر سلفًا عن المستقبل وعرّفه روح القدس مسبقًا أنّ الكهنوت اللاوي الهاروني سيزول، على الأقلّ منذ سنة 70 للحساب الميلادي إلى سنة 2019! ولا تلوح في الأفق أية بوادر لتقوم له في ايامنا قائمة، على تحرّكات “نشطاء جبل الهيكل” والداعون إلى إعادة بناء الهيكل واستحداث الكهنوت اللاوي والذبيحة. وما زالوا يبحثون عن بقرة حمراء تكون الانطلاقة للأضحيات المقبلة الافتراضية التي يتمنّون.
الخبز والخمر : جسد ودم ( 1 قور 11: 23 وتابع)
أنا بولس، “تقلّدتُ من الرب ما قد قلّدتُكم” : هذا نقل حرفيّ للأصل اليوناني: “تسلّمتُ ما قد سلّمتكم”، وكان الأقرب إلى المنطق أن كتب : “سلّمتُكم ما قد تسلّمتُ”، وهذا هو المقصود بالتوكيد: “ما تسلّمتُه أنا من الرب سلّمتُه إيّاه لكم”: هذا هو “التقليد” الشريف الرسولي المسيحي الذي أنكرته حركات الاحتجاج، فراحت “ترجماتها” (ومنها فاندايك) تحذف “التقاليد” المسيحية الرسولية (وتبقي “التقاليد” اليهودية، كما في غلاطية 1 : 13 وتابع، مرقس 7) وتستبدل “التقاليد” أو “السنن” (في اليونانية “باراذوسيس”) بلفظة “تعاليم”.
“أخذ يسوع خبزًا”، هو خبز الفصح، ولفظ عليه كلمات غريبة : “هذا هو جسدي”. ومع الأسف لا نستطيع حتى في القدس وسائر فلسطين أن نلفظ على شكلي الخبز والخمر كلام التقديس في الآرامية (إلاّ في صيغتها السريانية في طقوس شرقيّة) وقد باتت منذ القرن الحادي عشر الميلادي لسانا ميتاـ بخلاف المسيح الحيّ. ولا نقدر أن نحتفل بالقداس في العلّيّة، إذ تحوّل موقعها إلى مسجد والطابق الأسفل يحي ذكرى “قبر داود” مع أن اليهود يعلمون أفضل منّا أن ملك يبوس دُفن في مكان آخر هو “الأوفيل”.
مع الصعوبات والمضايقات والاضطهادات، تتكرّر معجزة تكريس الخبز والخمر والتحوّل الجوهري إلى جسد المسيح ودمه الكريمين، على أيدينا نحن الكهنة البشريين غير المستحقّين. وعبر التاريخ ساور بعضنا – سامحهم الله – شكّ في الوجود الحقيقي، فأظهر الرب يسوع ذاته في جسد طفل أو سيل دم على الهيكل كما في لانتشانو أو في بيونس أيرس سنة 1996. ويبدو ان فصيلة الدم متطابقة مع الدم الآخر الذي سال يومًا على الكفن المقدس (في تورينو حاليًّا).
“أومن لكي أفهم”
إضافة إلى الصليب، إعلان يسوع عن وجود جسده ودمه تحت شكلي الخبز والخمر برهانان ودليلان قاطعان على صدقه، فالمفتري الكذوب الكذّاب لا “يخترع” أمورا مزعجة مثل الصيب ولا محيّرة معقّدة مثل سر القربان الأقدس. وهذا السر العظيم برهان ولا أفصح عن أصالة المسيحية وتميّزها الفائق عن “الاسيانية” التي عاشت في قمران قرب البحر الميت. فلا شيء من قبيل القربان الأقدس عندها، وعقليتها وعقلية المسيح محب الخطأة ( لا الخطايا) وشافي المرضى على طرفي نقيض.
خاتمة
قال توما : “ربي وإلهي”. وهذا ما يردّده المؤمنون في إيرلندا عندما يرفع الكاهن الخبز والخمر بعد التقديس. فيا ليتنا نتعلّم منهم هذه الممارسة المؤثرة المأثورة ويا ليت المسيح الحي في القربان يبقى مركز حياتنا ومحور محبتنا وإكليل معرفتنا، كما قال : “من أكل جسدي وشرب دمي ثبت فيّ وثبتّ أنا فيه”!