“حانَ الوَقتُ واقتَرَبَ مَلكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بالبِشارة” (مرقس ١: ١٥).
البطريرك بيتسابالا
نقرأ اليوم إنجيل القديس مرقس الذي يرافقنا في هذه السنة الليتورجية ونبدأ بمسيرة يسوع العلنية. نتبع خطواته الأولى ونصغي إلى كلماته الجوهرية.
بعد العماد والتجارب، يذهب يسوع إلى الجليل ويبدأ هناك بالإعلان عن مجيء الملكوت.
يقوم بذلك بأسلوب جريء: “حانَ الوَقتُ واقتَرَبَ مَلكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بالبِشارة” (مرقس ١: ١٥).
ماذا يعني بقوله “حان الوقت“؟ كل من ينتظر أمراً هاماً وضرورياً يستطيع أن يفهم هذه العبارة. إن حياة المرء تبحث عن حدث ما، وبشكل مفاجئ يجري هذا الحدث. لم يعد أمراً ننتظر حدوثه بل حان وقته. ليس من الضروري أن نضيف شيئاً آخراً لما هو موجود الآن. هذا ما تعنيه عبارة “حان الوقت“. ومع ذلك لم تكن هذه الأوقات أفضل من غيرها، فلقد بدأ نص الإنجيل بسرد خبر اعتقال يوحنا، الأمر الذي يمثل ظلماً يجري في أي وقت من الأوقات. إن حينونة الوقت لا تنشأ من أسباب خارجية ملائمة: تتمثل حينونة الوقت بينما تتواصل القيود والضعف والظلم والخطيئة.
لماذا حان الوقت إذاً، وهو الحدث المرتقب والذي قد وقع للتو؟ يجيب يسوع على ذلك فوراً: لقد حان الوقت لأن ملكوت الله قد اقترب. هنالك أمر في التاريخ يدفعنا لأن نقول أن الله ذاته قريب. لقد حان الوقت لأن أمراً جديداً طرأ على تاريخ البشر وهو أن الشخص المرتقب دخل تاريخنا وصار مثلنا. إنه يسوع المسيح.
لقد ترتب على هذا الأمر عواقب من الهام جداً إدراكها.
طالما أن الوقت قد حان والملكوت قد اقترب: “توبوا وآمِنوا بالبِشارة” (مرقس ١: ١٥).
إن معنى كلمة “توبوا” هي “التغيّر في العقلية” والبدء بالتفكير بأسلوب مختلف وجديد وعدم التفكير كالسابق حينما كنا لا نزال ننتظر حدوث أمر ما. الآن علينا التفكير كما ولو أن مجيء الملكوت يجري أمام أعيننا. لسنا نتكلم عن توبة أخلاقية ولا عن تغير في المواقف أو التصرفات السيئة: تجربة التوبة الأولى هي عبارة عن تغير في التفكير تتطلب منا أن نكون واعيين وأن ننتبه إلى الشيء الجديد الموجود أمامنا.
أن نتوب هو أن نؤمن بالإنجيل والخبر السار المتمثل في حضور الرب في التاريخ، في هذا التاريخ كما هو.
بعد ذلك تماماً، يُعطي القديس مرقس مثالاً على هذه الحياة الجديدة والتوبة وهي عبارة عن دعوة التلاميذ الأوائل: لقد حان الوقت في حياتهم، لقد تابوا ودخلوا منطقاً جديداً في الحياة.
لقد سمع التلاميذ هذه الدعوة وخرجوا ليتبعوا الرب: لن يأخذوا بعد الآن قراراً بشأن حياتهم ولن يحددوا مسارهم بل سيتبعون آخراً وسيَدَعونه يأخذ بزمام الأمور. لقد رأوا في يسوع الملكوت القريب وغيروا حياتهم.
من أجل أن يحصل ذلك، عليهم أولاً أن “يتركوا“: إنه فعل أساسي يجري مرتين ( مرقس ١: ١٨، ٢٠). ترك العمل والعائلة والحياة السابقة لكي تستطيع التلقي في المقابل. أن يترك المرء هو أن يفسح المجال في داخله لكي يبرز ما هو جديد.
ليس الأمر بديهياً: يعطينا الإنجيل أيضاً مثال من هم مدعوون أن يتركوا لكنهم غير قادرين على ذلك لأن الخيرات التي يمتلكونها كثيرة، تماماً كدعوة الشاب الغني (مرقس ١٠: ١٧– ٢٢).
يدفعنا ذلك إلى التفكير أن عملية الترك هي نعمة أيضاً وهبة: لا يمكننا الوصول إليها بجهدنا بل من خلال رؤية جديدة وهبة من الله من خلالها نلمح في قلبنا بأن الزمان قد حان بالنسبة لي الآن وهنا.
التخلي هو كل ما يطلبه يسوع. ومن المثير للاهتمام أن في إنجيل اليوم لا يطلب يسوع ذلك، بل هو مطلب ينبع من القلب يفرض ذاته حينما نفهم تميّز الهبة والحاجة إلى افساح المجال لها. وما نملكه في وقت الانتظار هو مجرد عائق.
يقطع يسوع وعداً للتلاميذ الأوائل الذين يتخلّون عن بعض الروابط: “اتبعاني أجعَلْكما صَيادي بَشَر” (مرقس ١: ١٧). ما معنى أن يكون المرء صياد بشر؟ إن التعبير ذا صفة مبتكرة نستطيع أن نفسّره بعدة طرق. يعني ذلك أن طريقاً جديدة انفتحت إلى ما لا نهاية. من الآن وصاعداً لن يصطاد التلاميذ سمكاً ولكن سيهتمون بخلاص البشر والعالم الذي نعيش فيه.
يبتدئ الرب بما نحن عليه، وبما نقدر أن نعمله لكي يوسّع آفاقنا إلى ما هو أوسع بكثير من مشاريعنا البشرية الصغيرة. إن اتباع المسيح يعني الدخول في زمن جديد يوسع حدود المكان.
+ بييرباتيستا