“حانَ الوَقتُ واقتَرَبَ مَلَكوتُ الله” (مرقس ١: ١٥)
البطريرك بيتسابالا
بهذه الكلمات الاحتفالية، بدأ يسوع مسيرته العلنية في الجليل. أما الكلمات التي نقرأها في إنجيل اليوم فهي عادية جدا وتدور حول شؤون بيت وحماة وحُمّى وأخذ باليد ونهوض من الفراش وخدمة ضيوف (مرقس ١: ٢٩– ٣١).
هنالك تباين بين الكلمات الافتتاحية للإنجيل وما سنقرأه في نص اليوم. وفي هذا التباين يكمن جديد الانجيل و“اقتراب” الملكوت الذي تناولنا موضوعه في الأحدين الماضيين، ذلك لأن مجيء الملكوت لا يتحقق إلا في بساطة اللقاءات وألفة البيوت والعلاقات وخبرات الحياة، أي في الأمور العادية اليومية.
ما يجري اليوم هو جزء مما يُسمى “يوم كفرناحوم” والذي يصفه القديس مرقس كيوم نموذجي في حياة يسوع. يعرض لنا ما يقوم به يسوع في يوم من أيام حياته العلنية. بعد أن خرج من المجمع، حيثما علّم بكل سلطان وحرر رجلاً فيه روح نجس، يتوجّه يسوع الآن إلى بيت أحد أصدقائه الجدد.
إن البيت هو أول عنصر هام في إنجيل اليوم. في بيت، في مكان “دنيوي” وغير مقدس، تلد الجماعة والكنيسة الأولى. غالباً ما يعود يسوع إلى هنا، ليعيش حياة عادية وخصوصية لا تقل أهمية عن الحياة العلنية. في ذلك الوقت كان المجمع مكاناً ذات طابع مؤسسي للقاء الجماعة. إنه هذا الإطار المؤسسي بالذات، الذي يعتمده قادة الشعب والكتبة، هو ما يجعلهم غير قادرين على تلقي الخلاص الذي جاء به يسوع (في مرقس ٣: ٦، نلاحظ أول موقف نبذ عنيف يتعرض له يسوع في المجمع). أما البيت فيبدو المكان الذي يحدث الخلاص فيه، ويكشف يسوع عن طبيعة الملكوت. في البيت تأخذ الأمور العادية أهمية كبيرة. وفي هذا الإطار يستطيع المرء أن يختبر الخلاص.
في بيت سمعان، كما هو الحال في العديد من البيوت، من الطبيعي مداهمة المرض. وهو علامة على هشاشة الانسان. يدنو يسوع بكل بساطة من المرأة المريضة (مرقس ١: ٣١): معلم شاب يقف بجانب إمرأة مسنّة، وتنشأ هناك علاقة تملؤها مشاعر الإنسانية والمودة. ما الذي يمكن للمرء أن يفعله لشخص مريض غير أن يمسك بيده علامة على الصداقة والعطف؟ هذا أيضاً ما يقوم به يسوع لأنه أسلوب الملكوت الذي أعلنه في بداية خدمته.
ليست هذه الحالة الوحيدة التي يأخذ فيها يسوع بيد إنسان: سيقوم بذلك في مرات أخرى، إذ سيرتبط هذه الحركة بفعل الشفاء، بل أكثر من ذلك؛ سترتبط بإعادة الحياة. وعليه، فإن الأمر عينه سيتكرر مع ابنة يائيرس (مرقس ٥: ٤١) والصبي المصاب بالصرع الذي “مات” عند طرد يسوع الروح النجس منه، ليأخذ بعدها بيده وينهضه (مرقس ٩: ٢٦ – ٢٧).
هنالك تتابع وترابط بين الفعلين: “أخذ باليد” و“أنهض“. يولّد هذا الترابط حياة تقهر الموت وتُقيم المرء من بين الأموات. إن يد يسوع، عند أخذه بيدنا، تنهضنا وتُعيد لنا الحياة. لكي نعيش، نحن بحاجة إلى هذه الحركة البسيطة المليئة بالرقة والقرب.
إلا أن هناك فعلا ثالثا ذا أهمية: فور شفائها، تأخذ حماة بطرس “بالخدمة” (مرقس ١: ٣١).
لا يتم شفاؤنا لنصبح على ما يرام فحسب، بل لكي نوظّف الحياة التي منحنا إياها بشكل مجاني في خدمة الآخرين. يدل هذا على أن حدوث الشفاء ـ القيامة ـ يستدعي وجود هذين الفعلين معاً، بالإضافة إلى القيام بالخدمة: عندئذ فقط سيحل الفصح حقاً.
في سياق الفصح بالتحديد يتحدث يسوع عن كونه خادماً. جاء لا ليُخدَم بل ليَخدُم ويفدي بنفسه جماعة الناس (مرقس ١٠: ٤٥).
لا يتوقف نص اليوم في بيت سمعان: إن الخلاص الذي حصل في ذلك البيت سينتقل إلى الخارج، إلى مكان لقاء هام هو باب المدينة (مرقس ١: ٣٣). إنه مكان مفصلي، يحتشد فيه الناس. يأتي كل شخص إلى هذا المكان حاملاً عبء معاناته. كما ونستطيع القول أن اليد التي لمست يد حماة بطرس هي نفسها التي تلمس كل شخص بالرقة ذاتها.
لكن النص اختُتِم بحدث غير متوقع: يخرج يسوع قبل الفجر إلى مكان قفر ليولي علاقته مع الآب حقها، فهو مصدر حياته.
أما التلاميذ الذين يبحثون عنه بلهفة، وهم مشغولون بما ينتظره الناس منه (جميعُ الناسِ يَطلُبونك! مرقس ١: ٣٧) فإن يسوع يفتح لهم آفاقاً أكبر، تماماً كالآفاق التي فُتحت لهم حين تمت دعوتهم، ويقترح عليهم الذهاب إلى “مكان آخر” (مرقس ١: ٣٨). أياً كان من يطلبه ويريد اتّباعه، يعرف منذ الان أين يجده. سيجده دائماً في “مكان آخر” لأن يسوع سيكون ً قد ترك المكان الذي شفى وبشر فيه، لئلا يصبح أسيرا له، مطيعاً بذلك للدعوة التي تطلب منه الذهاب إلى “مكان آخر” (مرقس ١: ٣٨).
في هذا “المكان الآخر” هنالك إمكانية الخلاص والشفاء ووضع اليد على الجميع.
+ بييرباتيستا