الأحد ١٨ من زمن السنة ب (أ. بيتسابالا)
البطريرك بيتسابالا
كل هبة تحمل معها بعض الأسئلة. إن شراءنا لغرض ما لا يثير فينا دهشة أو تساؤلات، ذلك لأننا نعلم المكان الذي اشترينا منه ذلك الغرض، كما نعلم قيمته والهدف المراد منه.
لكن عندما يهبنا أحد شيئاً ما، نبدأ بطرح أسئلة، ويكبر الاهتمام حينما تكون الهبة مجانية وغير متوقعة وعندما لا يكون لدينا حتى الوقت كي نتمنى الحصول عليها.
كل هبة تشير إلى الشخص الذي أعطانا إياها: لماذا قام بذلك؟ من هو؟ ماذا أراد أن يقول لي؟
لقد رأينا الأحد الماضي الهبة التي منحها يسوع للجمع الذي شبع من الخبز وفضُلَ عنه الكثير.
إن باقي الفصل السادس من إنجيل القديس يوحنا يحتوي على أسئلة حول هذه الهبة. من خلالها نستطيع الاقتراب من فهم معناها وما يمثله هذا الخبز.
عادة ما نتكلم عن هذا الفصل في سياق “خطاب” يسوع في مجمع كفرناحوم. في الحقيقة، ليس خطاباً بل حوار ناجم عن أسئلة طرحها الشعب حول هبة الخبز. إنه ليس حواراً منفردا، ذلك لأن الله لا يفعل ذلك.
في مقاطع أخرى من الإنجيل، يشتكي يسوع عندما لا يطرح الناس الأسئلة ولا يصدر عنهم أي رد فعل. يشبهون جيلاً لا يرقص إن سمع تزميرا ولا يبكي إن سمع ندبا (راجع لوقا ٧: ٣١– ٣٥).
وعليه ينبغي أن نتعلم طرح الأسئلة على أنفسنا، ولكن ليس الاسئلة الخاطئة كما رأينا في إنجيل اليوم. فور تكثير الخبز، يصعد التلاميذ في القارب ويقصدون الشاطئ الآخر. لا يذهب يسوع معهم ، بل يلحق بهم عند حلول المساء وسط هبوب العاصفة، ماشياً على الماء (يوحنا ٦: ١٦– ٢١). يندهش الناس مما حصل: إن لم يصعد في القارب فكيف وصل إلى الجانب الآخر؟
هذا السؤال ينم عن دهشة إزاء هذا المعلم الاستثنائي والغامض. هو معلم يهرب من الناس الذين أرادوا أن يقيموه ملكاً (يوحنا ٦: ١٥)، كما يهرب من الناس الذين يريدون أن يعرفوا عنه كل شيء وأن يمتلكوه ويسيطروا عليه.
في الحقيقة، يقول يسوع أن هذا السؤال غير صحيح، ذلك لأنهم لا يبحثون عن معرفته بل عن امتلاكه وضمان حضوره كنبي يستطيع أن يشبع جوعهم.
إنهم يسعون وراء الخبز وليس وراء يسوع، أو بالأحرى لا يسعون وراء يسوع لأنهم يريدون الخبز فقط. باختصار، يكتفون بالخبز ولا يبحثون عن أي أمر أبعد من ذلك.
وعليه فإن السؤال الصحيح ليس سؤال الجمع: “رابي، متى وصلت إلى هنا؟” (يوحنا ٦: ٢٥) السؤال الحقيقي مختبئ في طيّات إجابة يسوع: “أنتم تطلبونني، لا لأنكم رأيتم الآيات: بل لأنكم أكلتم الخبز وشبعتم” (يوحنا ٦: ٢٦). هذا هو السؤال الصحيح: ما الأمر الذي نريده عندما نطلب يسوع؟
هذا السؤال يجوب إنجيل يوحنا من البداية إلى النهاية. يخاطب يسوع أولاً تلميذي القديس يوحنا المعمدان، اللذين تركا معلمهما الأول لاتباعه (يوحنا ١: ٣٨)، كما ويكرِّرالسؤال ذاته على مريم المجدلية التي تبحث عنه بين الأموات (يوحنا ٢٠: ١٥).
إلا أن الإنسان لا يدري عما يبحث وأحياناً لا يدري أن هناك أمراً يتجاوز الخبز، أي يتجاوز الإنسان ذاته.
أما يسوع فيريد أن يأخذنا إلى هناك.
لهذا السبب يعلن يسوع عن جوع جديد ويدعو إلى البحث عن طعام يُغذّي حياة لا تفنى: “لا تَعملوا للقوت الفاني بَل اعمَلوا للقوت الباقي للحياة الأبدية” (يوحنا ٦: ٢٧).
ما هو هذا الطعام؟ إنه ذاك “الذي يُعطيكموه ابن الإنسان” (يوحنا ٦: ٢٧).
نستطيع القول أن الخبز الذي يبقى للحياة الأبدية هو حياة الله الذي يهب ذاته: إننا نغذّي أنفسنا بواسطة هبة الله وهذه الهبة هي حياة يسوع ذاتها. إنه خبز الحياة الحقيقي (يوحنا ٦: ٣٥).
ومن بين محاوري يسوع هنالك من يعتقد أنه للحصول على هذا الخبز يترتب القيام بعمل ما (يوحنا ٦: ٢٨). ذلك ليس صحيحا. في الآيات القليلة اللاحقة تترد كلمة “هبة” بشكل مكثف وشبه متواصل. من خلال هذه الهبة التي تستطيع أن تغذينا وهذا الخبز الذي كثّره يسوع، نستطيع القول أن الله ذاته هو هبة وأنه إن غذينا أنفسنا بهبته يمكننا أن نعيش حقاً.
العمل المطلوب فقط هو أن نتغذّى منه، وهذا العمل يسمى الإيمان (يوحنا ٦: ٢٩)؛ المطلوب أن نؤمن به “فقط” وأن نذهب إليه وأن نثق بالهبة القادرة على تغذية جوعنا إلى الحياة والمحبة. المطلوب هو تبني وجهة نظر جديدة للحياة والملكوت حيث تكون الحياة هبة ممنوحة مجانا.
هذه هي الفقرة الأولى في الفصل السادس لإنجيل يوحنا، يبدأ فيها يسوع التكلم عن خبز وعن جوع آخرين: خبز يكون هبة ثمينة وجوع يتم اشباعه باستقبال هذه الهبة.