العناية الإلهية وثقة الانسان بها
الأب لويس حزبون
(متى 6: 24-34)
يصف انجيل متى (متى 6: 24-34) عناية الله بحياتنا ومستقبلنا ومعيشتنا. فيطلب يسوع المسيح ان نثق فيه تعالى كأبٍ سماوي يعولنا وينزع منا كلَّ قلقٍ ووهم ٍلنعيش في طمأنينة تحت تدبيره تعالى الذي يهتم حتى في الطيور وعشب الحقل. ونحن نعيش في مجتمع تسوده المادية، حيث يعبد الكثيرون المال. فشهوتهم للمال تفوق بكثير التزامهم لله وللأمور الروحية. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الانجيلي (متى 6: 24-34)
24 ((ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلزَمَ أَحَدَهُما ويَزدَرِيَ الآخَر. لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال.
تشير عبارة “يَعمَلَ” في اللفظة اليونانية δουλεύειν الى العبادة؛ اما عبارة ” ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن ” فتشير الى موقف التأرجح الروحي. فلا يجوز اشراك أي شيئا في الحياة في حب الله. فقلب الانسان لا يستطيع ان يحب ربين معا، لان القلب يتَّسع لربٍ واحدٍ لا لربّين، ولا يستطيع ان يحب المال إلاّ على حساب الله ، لان قلب الانسان لا يقدر ان يكون مكرسا بكامله إلاّ لهدف واحد كما هو واضح في الوصية الأولى من الوصايا العشر “لا يَكُنْ لَكَ آِلهَةٌ أُخْرى تُجاهي”(الخروج 20: 3)؛ أمَّا عبارة “المال” في اللغة اليونانية μαμωνᾷ (مامون) ومعناها ما هو ثابت وأمين، وفي في الآرامية הַמָּמוֹן”ماموناه “أي المخبّأ أو المطمون فتشير إلى المقتنيات الماديّة بشكل عام، وما يعتزّ به الإنسان من مال وثروة، لكن مفهومها تطوّر للدلالة على المال كإله وسلطان يستعبد الانسان (لوقا 16: 9)وبالتالي الى عبادة المال؛ وفي الواقع يبدو المال تجاه الله إله كاذب، أي صنم يتعبّد له الانسان، وبالتالي يُشكل خطراً عليه. ولكن عندما نعطي المال نتغلب على الخطر. لذا نسمع يسوع يدعو الشاب الغني ان يتبعه بهذه لكلمات “إِذا أَرَدتَ أَن تكونَ كامِلاً، فاذْهَبْ وبعْ أَموالَكَ وأَعْطِها لِلفُقَراء، فَيكونَ لكَ كَنزٌ في السَّماء، وتَعالَ فاتبَعْني” (متى 19: 21). ويُعلق القديس ايرونيموس “الشيطان يَعد بمملكة وغنى ليحطّم الحياة، والرب يَعد بالفقر لكي يحفظ الحياة!” .
25 ((لِذلكَ أَقولُ لكُم: لا يُهِمَّكُم لِلْعَيشِ ما تَأكُلون ولا لِلجَسَدِ ما تَلبَسون. أَلَيْسَتِ الحَياةُ أَعْظَمَ مِنَ الطَّعام، والجَسدُ أَعظَمَ مِنَ اللِّباس؟
تشير عبارة ” لِذلكَ أَقولُ لكُم ” الى تعليم يسوع لتلاميذه ان يطلبوا ما هو جوهري ولا يقلقوا بشان الطعام او اللباس؛ اما عبارة ” لا يُهِمَّكُم ” فلا تشير الى اللامبالاة او الكسل او الخمول والاتكالية (لوقا 12: 50) الذي يجعلنا عبئا ثقيلا على أكتاف الاخرين ومتطفلين عليهم، وقد صرح بولس الرسول “إِذا كان أَحدٌ لا يُريدُ أَن يَعمَل فلا يَأكُل” (2 تسالونيقي 3: 10-13)، إنما تشير الى عدم القلق والاتكال المعبّر عنه في الصلاة (متى 6: 11) المرفوعة الى الله، الآب السماوي الذي يُحرّر من القلق الذي يُنسي الانسان أن حياته هي في يد الآب (متى 16: 5-12)، وكأن الرب يسوع يقول ” لا تقلقوا” بل ثقوا في عناية الله المحب (لوقا 12: 22-31). وقد وردت هذه عبارة في هذا النص ست مرات لأهميتها (متى 6: 25، 27، 28، 31، 34)، ويُعلق القديس ايرونيموس “وُضع علينا أن نعمل من أجل الضروريّات، لكن لا نقلق؛ اما عبارة ” الحَياةُ “باليونانية ψυχή أي النفس المرادفة بالعبرية נפְשְׁ والتي تعني الشخص او الذات فتشير الى الحياة الطبيعة، وحياة الذات بالمقابلة مع الحياة الروحية (العبرانيين 4: 12). ان النفس هي مركز العواطف والرغبات، وفي الكتاب المقدس يُعتبر الاكل والشرب من وظائف النفس. فالحياة هي هبة من الله، ولا يقدر أن يعطيها إلا الربّ الذي «بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ» (أعمال 17: 28)، والجسد هو هيكل لله، أما الطعام واللباس فهما وسيلة فقط. فإن كان الله أعطى الانسان الحياة فلا بد أنه سيعطيه ما يحفظ هذه الحياة، ويضمن له الطعام والشراب. واضحٌ أن السيّد المسيح لا يُنهى عن التفكير في احتياجات الجسد، فقد علَّمنا أن نصلي “أُرزُقْنا خُبزَنا كَفافَ يَومِنا ” (لوقا 1: 3)، وانما ينهي عن حب المال الذي يجعل الانسان عِوض الاهتمام بالجسد كعطيّة مقدّسة وأعضاء تعمل لخدمة القدّوس فإنه يهتم بالطعام واللباس في الدرجة الأولى. ويُوضح القديس يوحنا الذهبي الفم “لا يُطلب الخبز خلال قلق الروح بل تعب الجسد”. فحب المال يجعل الانسان عِوض الاهتمام بالحياة ذاتها ينشغل بالأكل والشرب. فالمال خادم جيّد وسيّد سيّء.
26أُنظُرُوا إِلى طُيورِ السَّماءِ كَيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها. أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟
تشير عبارة ” أُنظُرُوا ” الى التأمل في عجائب الرب كما ترنّم صاحب المزامير ” ما أَعظَمَ أَعْمالكَ يا رَبّ لقد صَنعتَ جَميعَها بِالحِكمة فاْمتَلأَتِ الأَرضُ مِن خَيراتِكَ…الجَميعُ يَرْجونَكَ لِتُعطِيَهم طعامَهم في أَوانِه، تُعْطيهم فيَلتَقِطون تَبسُطُ يَدَكَ فخيرًا يَشبَعون” (مزمور 104: 24-28)؛ اما عبارة ” أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟ ” فتشير الى قيمة الانسان الدى الله الذي تفوق طيور السماء. توضّح هذه الآية مدى رعاية الله بالكون خاصة بالإنسان وروحه وجسده وحتى بأكله وشربه وملبسه، واهتمامه أيضا بطيور السماء التي خلقها لأجل الإنسان. فإذا كان الله يهتم بالطيور ويرزقها طعامها، أتراه لا يهتم بأبنائه؟ ويعلق القديس ايرونيموس “إن كانت الطيور بلا تفكير والتي توجد اليوم ولا تكون غدًا يعولها الله بعنايته كم بالأحرى يهتم بالبشر الذين وعدهم بالأبديّة؟!”.
وقد اكّد الرب اهتمامه بالإنسان بقوله الى يشوع بن نون “لا أُهمِلُكَ ولا أَترُكُكَ” (يشوع 1: 5).
27ومَنْ مِنكُم، إِذا اهْتَمَّ، يَستَطيعُ أَن يُضيفَ إِلى حَياتِه مِقدارَ ذِراعٍ واحِدة؟
لا تشير عبارة ” حَياتِه ” باليونانية ἡλικία الى القامة بل الى العمر. اما عبارة “ذِراعٍ واحِدة؟” فتشير الى نصف متر تقريبا. وعليه فإن زيادة نصف متر الى قامة فلا معنى لها وليس بالأمر القليل (لوقا 12: 26)، أنما تدل على زيادة نصف متر لا على القامة بل على مسافة رحلة العمر. ومن هنا نستنج ان معنى قول يسوع أنكم لا يمكنكم أن تزيدوا إلى طول قامتكم او عمركم شيئا.
28 ((ولماذا يُهمُّكُمُ اللِّباس؟ إِعتَبِروا بِزَنابقِ الَحقْلِ كيفَ تَنمو، فلا تَجهَدُ ولا تَغزِل.
لا تشير عبارة ” زَنابقِ الَحقْلِ ” الى الزنبق بالمعنى الحقيقي فقط (هوشع 14: 6)، بل بالمعنى الجماعي أي الى عدة زهور حقلية، كزهر الربيع وغيرها. ويدل الزنبق على بياضها الذي يرمز للنقاء والكمال. وتبيّن هذه الآية الى اهتمام الله بالإنسان.
29أَقولُ لكُم إنَّ سُلَيمانَ نَفسَه في كُلِّ مَجدِه لم يَلبَسْ مِثلَ واحدةٍ مِنها.
تشير عبارة ” سُلَيمانَ ” الى الملك سليمان بن داود وغناه كما اشارت اليه ملكة سبأ “ورَأَت مَلِكَةُ سَبَأ كُلَّ حِكمَةِ سُلَيمان والبَيتَ الَّذي بَناه، وطَعامَ مائِدَتِه ومَسكِنَ مُوَظَّفيه وقِيامَ خُدَّامِه ولباسَهم وسُقاتَه ومُحرَقاتِه الَّتي كان يُصعِدُها في بَيتِ الرَّبّ، فلَم يَبقَ فيها رُوح” (1ملوك 10: 4). اما عبارة ” لم يَلبَسْ مِثلَ واحدةٍ مِنها” فتشير المشناة الى “الزنابق الملوكية”. ومن اسمها الملوكية أخذ المسيح المثل وقارن بينها وبين ملابس سليمان الملك.
30فإِذا كانَ عُشبُ الحَقْل، وهُوَ يُوجَدُ اليومَ ويُطرَحُ غداً في التَّنُّور، يُلبِسُه اللهُ هكذا، فما أَحراهُ بِأَن يُلبِسَكم، يا قَليلي الإيمان!
تشير عبارة “فإِذا كانَ “الى الاستنتاج وهو ان الله يهتم بالمخلوقات، أفلا يهتم بكم؟؛ اما عبارة “عُشبُ الحَقْل وهُوَ يُوجَدُ اليومَ ويُطرَحُ غداً” فتشير الى الحشائش الجافة والأشواك وفروع الأشجار الصغيرة التي كانت تستخدم كوقود بسبب ندرة الخشب؛ اما عبارة ” التَّنُّور ” فتشير الى الفرن الطيني التي يخبز بها الخبز، وفي في فلسطين يُسمَّى طابون؛ أما عبارة ” يا قَليلي الإيمان!” فتشير الى عبارة مأخوذة من أقدم التقاليد (لوقا 12: 28) التي أوردها متى الإنجيلي ليبيّن كيف ان التلاميذ الذين يتبعون المسيح معرّضون لعدم الايمان، والتلاميذ قليلي الايمان لا يحيون بالنور الذي يأتيهم من إيمانهم، وعليه فهم يتركون الهموم تستولي عليهم كما حدث مع بطرس الرسول لدى غرقه في بحيرة طبرية ” مَدَّ يسوعُ يَدَه لِوَقْتِه وأَمسكَه وهُو يقولُ له: ((يا قَليلَ الإِيمان، لِماذا شَكَكْتَ؟ ” (متى 14: 31).
31 ((فلا تَهْتَمُّوا فَتقولوا: ماذا نَأكُل؟ أو ماذا نَشرَب؟ أو ماذا نَلبَس؟
تشير عبارة ” فلا تَهْتَمُّوا” فتشير الى تعلق الفكر بشيء يتأمل فيه بغير استقرار. اما عبارة ” فَتقولوا: ماذا نَأكُل؟ أو ماذا نَشرَب؟ أو ماذا نَلبَس؟ ” فتشير الى ما ينقص التلميذ غير الطعام او الشراب، هو الايمان والثقة التامة بالله الذي يعرف ما نحتاج اليه، فيعطينا خبزنا حين نطلب ذلك، بل قبل ان نطلب؛ وهنا يتساءل بولس الرسول ” إنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إِلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟” (رومة 8: 32). وبالعكس إذاً قلقنا على اكلنا وشربنا ولبسنا، يكون اهتمامنا إهانة لأبينا السماوي وإقراراً منا بضعف ثقتنا به.
32فهذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه الوَثَنِيُّون، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إِلى هذا كُلِّه.
تشير عبارة ” الوَثَنِيُّون ” الى الأمم الوثنية كمثال للمسلك غير الروحي والعالمي. فهم ليسوا قادرين على النظرة الإيمانية الهادئة والواثقة في الله، فأفكارهم قاصرة عن الله وعنايته، ويطلبون ما يظنونه لسعادتهم أي الأكل والشرب والملبس. ولا ينبغي على تلاميذ المسيح ان يسلكوا كالذين لا يعرفون الله أباً لهم بل عليهم يعلموا ان الله يهتم بكل احتياجاتهم كما جاء في تعليم بولس الرسول “وَصِّ أَغنِياءَ هذِه الدُّنْيا بِألاَّ يَتعَجرَفوا ولا يَجعَلوا رَجاءَهم في الغِنى الزَّائِل، بل في اللهِ الَّذي يَجودُ علَينا بِكُلِّ شَيءٍ لِنَتَمَتَّعَ بِه ” (1طيموتاوس 6: 17).
33فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه.
تشير عبارة “اطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه” الى إحدى الفقرات الاساسية والمألوفة في الانجيل وتعني ان نبذل جهدنا للدخول في الملكوت بأنفسنا، ونجذب الآخرين اليه؛ أما عبارة ” أَوَّلاً” فتشير الى سلّم الأولويات. يريد يسوع منا الانتباه الى ما هو أساسي في جدول اعمال كل يوم دون أن يُبعدنا عن مسؤولياتنا وواجباتنا الأرضية، فلا يجوز الاهتمام برزق الحياة على حساب الله، ويعلق القديس أوغسطينوس ” فبقوله كلمة “أولًا” أشار إلى طلبنا هذه الأشياء، ولكننا لا نطلبها أولًا، لا من جهة الزمن بل حسب الأهمّية، فملكوت الله نطلبه كخير نسعى نحوه، أمّا الضروريّات فنطلبها كضرورة نحتاج إليها لتحقيق الخير الذي نسعى نحوه”؛ اما عبارة ” وبِرَّه” “فتشير الى برّ المسيح الكامل الذي ينسبه الى الله لكل مؤمن. كما جاء في تعليم بولس الرسول “هو بِرُّ الله وطَريقُه الإِيمانُ بِيَسوعَ المسيح، لِجَميعِ الَّذينَ آمَنوا” (رومة 3: 21-22)؛ أمَّا عبارة ” تُزادوا هذا كُلَّه” فتشير الى ضروريات الحياة فيما نشرب وما نأكل وما نلبس (متى 6: 25، 31) والتي يسهل ان ينشغل الانسان بها على حساب الله وملكوته. هذه الآية تدعو الى طلب ملكوت الله بخيره الروحي قبل خيرات هذا العالم. إذا كان الله قد أعطى الناس حياة الروح فهو كفيل ان يعطيهم ما هو دونها، حياة الجسد، وما يحفظها ويصونها. فلنعمل ونكد ونبحث عن القوت ولكن بدون قلق وهم، فالله هو الرازق كما يقول بطرس الرسول “أَلقُوا علَيه جَميعَ هَمِّكم فإِنَّه يُعنى بِكم” (1بطرس 7:5). السعادة والتطويبة لهؤلاء الذين يشعرون بحاجتهم ان يعتمدوا على الله لتيسير ضروريات الحياة الروحية ” طوبى لِفُقراءِ الرُّوح فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات”(متى 5: 3).
34لا يُهِمَّكُم أمرُ الغَد، فالغَدُ يَهتَمُّ بِنَفْسِه. ولِكُلِّ يَومٍ مِنَ العَناءِ ما يَكْفِيه.
تشير عبارة “لا يُهِمَّكُم أمرُ الغَد ” الى عدم حمل هموم المستقبل، والواقع “لم يقل لا يُهِمَّكُم أمرُ اليوم ” وذلك لضرورية العمل والجهاد من أجل قوتنا، كما جاء في قول بولس الرسول “ونَحنُ نَعمَلُ في اللَّيلِ والنَّهار لِئَلاَّ نُثَقِّلَ على أَحَدٍ مِنكم ” (1 تسالونيقي 2: 9). ويسمح الله لنا أن نهتم بالحاضر كيلا نقلق في المستقبل؛ ولكن ينذر يعقوب الرسول الأغنياء الذين يتكلون على أنفسهم دون الله ” يا أَيُّها الَّذينَ يَقولون: ((سنَذهَبُ اليَومَ أَو غَدًا إِلى هذه المَدينَةِ أَو تِلكَ فنُقيمُ فيها سَنَةً نُتاجِرُ وَنَربَح))، أَنتُم لا تَعلَمونَ ما تكونُ حَياتُكم غَدًا. فإِنَّكم بُخارٌ يَظهَرُ قَليلاً ثمَّ يَزول. هَلاَّ قُلتُم: ((إِن شاءَ الله، نَعيشُ ونَفعَلُ هذا أَو ذاك!” (يعقوب 4: 13-15)؛ أما عبارة ” العَناءِ ” فلا تشير الى شرّ الخطيّة، وإنما الى “التعب” والمشاكل التي نقابلها. فلا نهتم بما سنتعبه غدًا، إنّما يكفي أن نتعب اليوم ونجاهد، وكأن الله يمنعنا من القلق في المستقبل، ويحثّنا على الجهاد في الحاضر. وهذا ما حدث مع الشعب العبري في خروجه الى الصحراء وهو بحاجة الى الخبر “وقالَ لَهم موسى: ((لا يُبْقِ أَحَدٌ مِنه شَيئاً إِلى الصَّباح ” (خروج 16: 19). ويُعتبر قول يسوع مثلا مقتبسا من أمثال الحكمة الشعبية القديمة الذي ينص بعدم تكديس الهموم ليوم غدٍ، بل لنعش هموم اليوم الحاضر فقط، وسياتي الغد بهمومه. لكن يسوع أعطى هذه الحكمة بُعداً جديداً، فالإيمان بالله الآب يُخلص الانسان من قلق الغد، لن يكون الانسان غدا وحده، لان نعمته ستكفيه. نحيا يومنا ونترك غدنا لنعمة إلهنا. لذا من الخطأ ان نقلق او نرتبك بخصوص المستقبل. فالعبادة الحقيقية هي حياة بلا قلق كما يقول صاحب المزامير “أَلقِ على الرَّبِّ حِملَكَ وهو يَعوُلكَ ولا يَدَعُ البارَّ يَتَزَعزَعُ لِلأَبد” (مزمور 55: 23).
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 6: 24-34)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 6: 24-34)، نستنتج انه يتمحور حول العناية الالهية التي تتطلب من الانسان الثقة الكاملة والثبات في الأمانة. ومن هنا نتساءل ما هو مفهوم العناية الإلهية؟ وما هي متطلباتها؟
1) ما هو مفهوم العناية الالهية؟
يقدم لنا السيد المسيح شخص الله بصفات الآب الذي يسهر على خلائقه ويُوفِّر لها حاجاتها: يرزق الله الطيور مثلما يرزق البشر “أُنظُرُوا إِلى طُيورِ السَّماءِ كَيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها. أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟” (متى 6: 26). وتتلخص هذه الاعتبارات تتلخص بلفظ “العناية”. ويؤكد أيوب البار رعاية الخالق نحو خلائقه بقوله “حَياةً ونعمَةً آتيتَني وحَفِظَت عِنايَتُكَ روحي” (أيوب 10: 12).
والواقع لم ترد لفظ “العناية” في الكتاب المقدس في اللغة العبرية، أنما وردت في الترجمة السبعينية اليونانية بلفظ πρόνοια, . وقد وردت في سفر الحكمة “عِنايَتَكَ، أيها الآبُ هي الَّتي تَقودُه” (حكمة 14: 3). العناية الإلهية هي الوسيلة التي يحكم من خلالها الله كل شيء في الكون. لديه السيطرة التامة على كل شيء. وهذا يشمل الكون ككل (مزمور104)، والعالم المادي “يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار.”(متى 45:5)، وشؤون الأمم (مزمور 7:66) ، وميلاد البشر ومصائرهم كما صرّح بولس عن نفسه ” لَمَّا حَسُنَ لدى اللهِ الَّذي أَفرَدَني، مُذ كُنتُ في بَطْنِ أُمِّي, ودَعاني بنِعمَتِه” (غلاطية 15:1)، و نجاح البشر وفشلهم كما جاء في ترنيمة تعظم ” حَطَّ الأَقوِياءَ عنِ العُروش ورفَعَ الوُضَعاء.” (لوقا 52:1)، وحماية شعبه كما ترنمّ صاحب المزامير “قُمْ يا رَبِّ خَلِّصْني يا إِلهي فإِنَّكَ لَطَمتَ جَميعَ أَعْدائي وحَطَّمتَ أَسْنانَ الأَشْرار. (مزمور 8:3: 8) وتتعارض فكرة العناية الإلهي تماما مع فكرة أن الصدفة أو القدر يحكم الكون. والعناية الإلهية لا تدمر حريتنا. ولكن، تمكننا من استخدام هذه الحرية بشكل صحيح.
2) ما هي متطلبات العناية الإلهية
تقوم عناية الله بالإنسان على طريقة أب يطالب ابنه بان يكون شريكا له في العمل. وهذه الشراكة تتطلب من الانسان الثقة الكاملة والثبات في الأمانة:
ا) الثقة الكاملة
ما دام الله يعتني بالإنسان، يتوجب على الانسان ان يحيا في جو ثقة في الله. فالإنسان بحاجة الى ثقة في الله في مواجهته لمسئوليات الحياة ومخاطرها لكيلا يشله القلق، ولكي يثبت رغم التجارب، ولا يفقد الأمل في بلوغ هدفه. الله يدعو الانسان إلى أن يضع ثقته فيه تعالى وحده.
فقد كشف يسوع للبشر أبوة الله لهم، وما تتطلب عنايته الإلهية، فذكّر يسوع بضرورة الاختيار منذ البداية، الاختيار بين كنوز الأرض وكنوز السماء. بين الله والمال، والمال يعني هنا قوة استعباد. ولا يمكن ان نخدم إلا سيداً واحداً، وإلاّ يجد الانسان نفسه ممزقاً بين خدمة المال وخدمة الربّ. ومن هنا جاء قول الرب يسوع: “ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلزَمَ أَحَدَهُما ويَزدَرِيَ الآخَر. لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال” (متى 6: 24).
ومن هنا تكمن تجربة الانسان الكبرى في خلق “إله” على قياسه ومزاجه يكون ند الله الاله الحقيقي والوحيد وهو إله المال حيث يصرف جلَّ وقته يفكر فيه، ويجعله في المقام الأول، ويهتم به أكثر من اهتمامه بخالق الأشياء ومعطيها. فالعلاقة مع الله لا تصح الا بثقة كاملة به. اما إذا اتخذ الانسان المال كإله الذي يعطيه الأمان والحياة، عندئذ يستعبد المال الانسان فلا يصبح المال في خدمة الانسان، بل الانسان في خدمة المال. اذ يستملك المال على أفكاره وعواطفه ومشاعره وإرادته، فلا يعيش الانسان الاّ لهدف واحد وهو المال. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول ” أَلا تَعلَمونَ أَنَّ صداقَةَ العالَمِ عَداوةُ الله؟ فمَن أَرادَ أَن يَكونَ صَديقَ العالَم أَقامَ نَفْسَه عَدُوَّ الله” (يعقوب 4: 4).
ومن هنا نستنتج ان المال ليس إلها في ذاته، ولا هو شرّ نتجنّبه، إنّما يصير هكذا حينما يسحب القلب إلى الاهتمام به والاتكال عليه، فيفقده سلامه ويدخل به إلى ظلمة القلق. فيصبح المال سيد صعب ومخادع وذو قوة وسلطة ينتزع مكانة الله في حياتنا. إذ يجعل من يعبده يتخلى عن الله وعن ضميره وأحبائه جاريا وراء المال. ” حُبَّ المالِ أَصْلُ كُلِّ شَرّ” (1 طيموتاوس 6: 10). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم ” يُسمى حب المال سيدًا ليس بطبيعته الخاصة به، وإنما بسبب بؤس المنحنين له”؛ لذا ليس الله ضد المال، ولكن الله ضد أن نكون عبيداً للمال متكلين على المال كضمان للمستقبل كما صرّح يسوع للشاب الغني “يا بَنِيَّ، ما أَعسَرَ دُخولَ مَلَكوتِ الله!” (مرقس 24:10). ولا يمكن لأي قدر من المال ان يهب الانسان الصحة والسعادة والحياة الأبدية. فكم يكون أفضل لنا لو اتخذنا الله، لا المال سيدا لنا.
فمن الضروري ان لا نجعل من أنفسنا عبيداً للمال، بل نرفض كل سيد عدا ذاك الذي قدرته وحكمته وحبه الأبوي الذي يستوجب منّا ثقة مطلقة (متى 6: 24-34). حين نجعل ملكوت الله اهتمامنا الأول، فإنما نجعل يسوع سيدا وملكا على حياتنا وعملنا وممتلكاتنا وخططنا وعلاقاتنا. ويؤكد الحكماء أنه باطل الاعتماد على الغنى ” مَنِ اْتَكَلَ على غِناه يَسقُط” (أمثال 11: 28)، فجاهلٌ الانسان الذي يتكل على قلبه (أمثال 28: 26)، “وملعون الرجل الذي يتوكّل على البشر… ومبارك الرجل الذي يتوكل على الرب…” (إرميا 17: 5 و7).
ويدعو يسوع الانسان ان يضع ثقته فيه تعالى، مما يتطلب سلم الأولويات. من يثق بالله عليه ألا يضع الأولوية في الاكل والشرب واللبس والحاجات المادية التي وعد الله ان يمده بكل ما يلزم حياته، بل عليه ان يتكل عليه تعالى والله لا يهمل من يتكل عليه “ولماذا يُهمُّكُمُ اللِّباس؟ إِعتَبِروا بِزَنابقِ الَحقْلِ كيفَ تَنمو، فلا تَجهَدُ ولا تَغزِل. أَقولُ لكُم إنَّ سُلَيمانَ نَفسَه في كُلِّ مَجدِه لم يَلبَسْ مِثلَ واحدةٍ مِنها. فإِذا كانَ عُشبُ الحَقْل، وهُوَ يُوجَدُ اليومَ ويُطرَحُ غداً في التَّنُّور، يُلبِسُه اللهُ هكذا، فما أَحراهُ بِأَن يُلبِسَكم، يا قَليلي الإيمان”! (متى 6: 28-30).
في حين ان قلقنا بالغد يعرقل جهودنا لليوم ويقلل من قدرتنا على الاتكال على الله “أُنظُرُوا إِلى طُيورِ السَّماءِ كَيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها. أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟” (متى 6: 26)، والقلق يضر ولا يفيد “ومَنْ مِنكُم، إِذا اهْتَمَّ، يَستَطيعُ أَن يُضيفَ إِلى حَياتِه مِقدارَ ذِراعٍ واحِدة؟ (متى 6: 27) والقلق يدل على عدم الثقة والايمان بالله “فهذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه الوَثَنِيُّون، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إِلى هذا كُلِّه” (متى 6: 32).
وهناك تحديات يريدنا الله ان نواجهها، والقلق يعوقنا عن ذلك لذا يقول الرب ” فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه” (متى 6: 33). وان الحياة يوما بيوم، تحفظنا من ان يضنينا القلق “لا يُهِمَّكُم أمرُ الغَد، فالغَدُ يَهتَمُّ بِنَفْسِه. ولِكُلِّ يَومٍ مِنَ العَناءِ ما يَكْفِيه” (متى 6: 34). حسن ان نصرف وقتا في التخطيط للغد ولكن من الخطأ ان نعتمد على طرقنا دون الاتكال على الله الذي خلق الكون ويحبنا، ويعلم ما نريد، وما نحتاج اليه. أما الوقت الذي نصرفه في القلق على الغد، فهو وقت ضائع. فالتخطيط يستلزم تفكيرا مقدماً في الأهداف والخطوات وجدولة ذلك مع الاتكال على إرشاد الله.
ويدعو الله الانسان ان يضع ثقته فيه تعالى ايضا في كل ما يتعلق بالتمييز بين الخير والشر (تكوين 2: 17). فالإيمان بالكلمة الإلهية معناه أن نختار بين حكمتين. فالمطلوب أن نضع الثقة في حكمة الله، ونعدل عن الاعتماد على حكمتنا الذاتية كما يقول سفر الامثال “تَوَكَّلْ على الرَّبَ بِكُلِّ قَلبِكَ ولا تَعتَمِدْ على فِطنَتِكَ” (أمثال 3: 5)، لذا لا بد من الثقة بقدرة الخالق ضابط الكل، وبعنايته، لأن كل ما في السماء وعلى الأرض هو من صنع يديه (تكوين 1: 1). إنه يسهر على نظام العالم (تكوين 8: 22). ويضمن خصوبة الأرض (أعمال 14: 17)، ويطلع شمسه وينزل غيثه للجميع، أبراراً كانوا أم أشراراً (متى 5: 45)، ويُدبِّر كلّ شيء، بحيث يطلبه الجميع (أعمال 17: 24-28)، ويُسخِّر الشرّ في خدمة الخير كما اكّد يوسف ابن يعقوب ” فالآن لم تُرسِلوني أَنتُم إِلى ههُنا، بَلِ اللهُ أَرسَلَني، يقول يوسف لأخوته(تكوين 45: 8) واردف يوسف قائلا “أَنتُم نَوَيتُم عَلَيَّ شَرًا، واللهُ نَوى بِه خَيرًا، لِيَهَبَ الحَياةَ لِشَعبٍ كَثير” (تكوين 50: 20).وبحسب أقوال “الحكماء” أيضاً ” لِلإِنْسانِ إِعْدادُ القَلْب ومِنَ الرَّبِّ جَوابُ اللِّسان” (أمثال 16: 1). كما تقول الحكمة الشعبية ” الإنسان في التفكير والرب في التدبير. فعقل الإنسان يسعى في تخطيط طريقه والرب يوجه خطواته.
ونجد صدى هذا الثقة في صلاة المزامير. إنّ الله الذي يتسلط على خلقه ويمنح له الخصب (مزمور 65: 7-14)، ويحفظ شعبه في كل شيء وفي كل حين (مزمور 121) وبدونه، باطل هو مجهود البشر وباطلة حراستهم “إِن لم يَبْنِ الرَّبُّ البَيتَ فباطِلاً يَتعَبُ البَنَّاؤون. إِن لم يَحرُسِ الرَّبُّ المَدينة فباطِلاً يَسهَرُ الحارِسون” (مزمور 127: 1). وهو، كراع صالح، يقود نعاجَه مطمئنّة إلى قلب الظلمات نحو السعادة (مزمور 23). وعليه فإن صاحب المزامير يطلق نداءاته بثقة: ” وأَنا بائسٌ مِسْكين السَّيِّدُ يَهتَمُّ لي ” (مزمور 40: 18)، ” وأَنا توكَّلتُ على رَحمَتِكَ ” (مزمور 13: 6)، ” أمَّا المُتَوَكِّلُ على الرَّبِّ فالرَّحمَةُ تَحوطُه ” (مزمور 32: 10)، ” فطوبى لِجَميعِ الَّذينَ بِه يَعتَصِمون” (المزمور 2: 12). والمزمور 131 هو التعبير الصادق عن هذه الثقة المتواضعة، التي سوف يعطيها يسوع كمالها الأخير.
ويعطي يسوع الثقة كمالها فيطلب من تلاميذه ان يصلوا “يا أبانا، أُرْزُقْنا اليومَ خُبْزَ يَومِنا” (متى 6: 11)، وألاّ يقلقوا بالغد، ولا يخشوا على حياتهم، لاًن “أباكم يعلم ” كل ما تحتاجون إليه وكل ما يحدث (متى 6: 25-34). وفي الواقع، ان يسوع يدعو تلاميذه للانفتاح كأطفال لعطية الله “مَن لم يَقبَلْ مَلكوتَ اللهِ مِثْلَ الطِّفل، لا يَدخُلْه”(مرقس 10: 15)، حينئذ ستكون الصلاة الى الآب السماوي على يقين من نيل كل شيء ” اِسأَلوا تُعطَوا، اُطلُبوا تَجِدوا، اِقرَعوا يُفتَحْ لَكم. لأَنَّ كُلَّ مَن يَسأَلُ ينال، ومَن يَطلُبُ يَجِد، ومَن يَقرَعُ يُفتَحُ له. فأَيُّ أَبٍ مِنكُم إِذا سأَلَه ابنُه سَمَكَةً أَعطاهُ بَدَلَ السَّمَكَةِ حَيَّة؟ أَو سَأَلَهُ بَيضَةً أَعطاهُ عَقرَباً؟ فإِذا كُنتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعطوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكم، فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه “(لوقا 11: 9-13)؛ وباختصار: “فَوَضْ إِلى الرَّبَ طَريقَكَ وتَوَكَّلْ علَيه، وهو يُدَبّرُ أَمرَكَ ” (مزمور 37: 5). وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول: “وإِنَّنا نَعلَمُ أَنَّ جَميعَ الأشياءِ تَعمَلُ لِخَيْرِ الَّذينَ يُحِبُّونَ الله ” (رومة 8: 28، ولن يستطيع أي شيء أن يفصل المؤمن عن محبة الله له في ربنا يسوع المسيح كما يصرّح بولس الرسول “وإِنِّي واثِقٌ بِأَنَّه لا مَوتٌ ولا حَياة، ولا مَلائِكَةٌ ولا أَصحابُ رِئاسة، ولا حاضِرٌ ولا مُستَقبَل، ولا قُوَّاتٌ، ولا عُلُوٌّ ولا عُمْق، ولا خَليقَةٌ أُخْرى، بِوُسعِها أَن تَفصِلَنا عن مَحبَّةِ اللهِ الَّتي في المَسيحِ يَسوعَ رَبِّنا”(رومة 8: 31-39). تلاميذ المسيح يعلمون على مَن اتكلوا (2 طيموتاوس 1: 12). ه.
ب) الثبات في الأمانة
لا تتطلب العناية الإلهية الثقة الكاملة فحسب، إنما أيضا الثبات في الأمانة. إن هذه الثقة التي لا تتزعزع، هي أحد شروط الأمانة، كما جاء في تعليم بولس الرسول ” فقَد صِرْنا شُرَكاءَ المسيح، إِذا احتَفَظْنا بِالثِّقَةِ الَّتي كُنَّا علَيها في البَدْء ثابِتَةً إِلى النِّهاية، فلا نَدَعُها تَتَزَعزَع”(عبرانيين 3: 14)، لان عناية الله لا تقوم على طريقة قدر محتوم يؤدي بالإنسان الى سحق حريته، بل تتطلب منه ان يكون شريكا في العمل من خلال ثباته في الأمانة. يدبِّر الله حاجات من يدعوهم ليكونوا أبناءه، لكي يساعدهم على الثبات في الأمانة نحو دعوتهم كشهود لمحبته. ونرى صدى لهذا التصرف في حكمة صاحب المزامير: ” تَوَكَّلْ على الرَّبً ومارِسِ الإِحْسان” (مزمور 37: 3).
كشف يسوع للناس عن المحبة اللانهائية التي تعبّر عنها العناية الإلهية، وعلّمهم أيضاً، بمثله وكلامه كيفية التجاوب مع هذه العناية. فيكون هذا التجاوب في البحث، قبل كلّ شيء، عن محبة الله، ورفض الخضوع لأي سيد آخر غيره “فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه. (متى 6: 33).
ويقوم التجاوب مع العناية الإلهية في التوسل إلى الآب بأن تتم مشيئته على الأرض كما هي في السماء. ويقوم التجاوب أيضا على أن ننتظر من الله، خبزنا كفاف يومنا، وكل ما يحتاج إليه أبناء الله، لينفّذوا مشيئة أبيهم “لِيَأتِ مَلَكوتُكَ لِيَكُنْ ما تَشاء في الأَرْضِ كما في السَّماء.”(متى 6: 10).
ويحتاج أبناء الله، قبل كل شيء، إلى الثبات في الشدائد التي لمّا عانى منها يسوع نفسه الذي عرف شعور الخذلان من أبيه كما صرّح بعض الحاضرين عند الجلجلة “دَعْنا نَنْظُرُ هل يَأتي إِيليَّا فيُخَلِّصَه!” (متى 27: 46)، وإذ كان مطيعاً حتى الموت، أكّد ثقته البنوية بكلمته الأخيرة على الصليب: “يا أبتاه، في يديك أجعل روحي” (لوقا 23: 46). بهذه الأمانة المقترنة بالثقة، عبر يسوع المسيح الموت، وأعطانا الضياء الوحيد الذي يسمح لنا بأن نعبر ظلمات الشر والشقاء.
وباقتداء التلميذ بالمسيح، سيتبعٍ هو بدوره سبل العناية، ويحظى بفرح الشرف أن يكون شاهدا للحب الذي وضع ثقته فيه وشريكاً أميناً له في العمل كما أعلن بولس الرسول “إِنِّي على يَقينٍ مِن أَنَّ ذاكَ الَّذي بَدَأَ فيكم عَمَلاً صالِحًا سيَسيرُ في إِتمامِه إِلى يَوم المسيحِ يسوع (فيلبي 1: 6).
الخلاصة
يمكننا ان نبحث عن العناية الإلهية وندركها من خلال النظر والتأمل في كلمات يسوع ” أُنظُرُوا إِلى طُيورِ السَّماءِ كَيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها. أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟ (متى 6: 26)؛ وإذا نظرنا بإيمان سندرك ان الله الاب يعرف ما نحن بحاجة اليه. فإذا اعطانا ابنه الوحيد فكيف لا يمنحنا كل ما نحتاج اليه؟ ” إنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إِلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟” (رومة 8: 32). فلا داعي للقلق إنما يسوع يدعونا للتعزية، إذ لدينا آب في السماء يُفكّر فينا أكثر بكثير من تفكيره بزنابق الحقل وطيور السماء، ويدعونا أيضا الثبات والأمانة عن طريق صلاة الطلب ” فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه” (متى 6: 33).
دعاء
أيها الاب السماوي، يا من تُدبّر أمور جميع المخلوقات وتعتني بها، ساعدنا ان نبحث عنك قبل كل شيء، ونضع ثقتنا في عنايتك الإلهيّة، وخاصة أثناء الشدائد والاضطهادات فنثبت في الأمانة في سيرنا نحو ملكوتك، ملكوت بِرٌّ وسَلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُس” (رومة 14: 17). آمين.
قصة
يقول عصفورٌ لزميله العصفور: ” أريد أن أعرف لماذا يقلق البشر؟ فأجابه زميله: لا بد أنه ليس عندهم أب سماوي مثل أبينا السماوي!
لنتعلم من العصافير ان ننبذ القلق لأننا نؤمن ان أبانا السماوي ساهرٌ علينا كما يترنم صاحب المزامير “بِسلام أَضَّجعُ ومِن ساعَتي أَنام لأَنَّكَ وَحدَكَ يا رَبُّ في أمانٍ تُسكِنُني” (مزمور 4: 8)، فلا نتردد ان نسير على وصية صاحب رسالة العبرانيين “تَنَزَّهوا عن حُبِّ المال واقنَعوا بما لَدَيكم. قالَ الله: ((لن أَترُكَكَ ولَن أَخذُلَكَ)). فيُمكِنُنا القَولُ واثِقين: ” الرَّبُّ عَوْني فلَن أَخاف” (عبرانيين 13: 5-6).