العنصريّة العبريّة “الثيوقراطيّة” والمحبّة المسيحيّة الإنسانيّة!
الأب بيتر مدروس
(إرميا 1: 4-19، قورنثوس الأولى 13: 1-13، لوقا 4: 21 – 30)
يشدّد الله عزيمة نبيّه إرميا: ” لا تفزع أمامهم وإلاّ أفزعتُك أنا منهم”! يجب تفسير هذه العبارة والوزن الفعليّ “أفعلَ” (في العبريّة הפעיל “هفعيل”) المستخدمة هنا: لا تعني “سأجعلك تفزع” بل “سأتركك أو أدعك تفزع” – إذ لا تميّز الألسنة السّاميّة بين “جعل” و “ترك” (مثل الألمانيّة مع فعل “lassen”، بخلاف اللغات الأوروبية الأخرى). مثلاً في اشعيا 6: 9: “أغلِظ قلب هذا الشّعب השמן… وأذنيه أثقِل הכבד” (تخففها السبعينية في متّى 13: 15: “غَلُظَ … ثَقُلت). المقصود: طالما أنّك أنت، يا إرميا، طوعًا تخافهم، فأنا الله سأتركك تخاف، ولسان حال العزّة الإلهيّة المَثَل: “نهيتك فما انتهيت، سِر على ما اشتهيت”.
ومن غير التّطفّل على علماء الإسلام، يمكن أن يفهم المرء بهذا المعنى من العهد القديم أنّ الله “يُضلّ”، لا أنّ الله حاشى وكلاّ يُدخل الناس في الضلال أو “الطّاغوت” (حسب المعنى الكنعانيّ טעות) بل أنه تعالى يتركهم في ضلالهم الذي انتقوه بحريتهم. وفي الصلاة السيّديّة نطلب من أبينا السماويّ: ” لا تُدخلنا في التجارب”!
“الله محبّة” والمحبّة “كمال الشّريعة” وأعظم الفضائل! ( 1 قور 13 : 1-13)
يتكامل الوحي بين الكتّاب الملهمين والموحى إليهم: في الميثاق الجديد، يخبرنا الرسول الحبيب يوحنا: “الله محبّة”. ويأتي رسول الأمم الإناء المختار بولس ليعلّمنا سموّ المحبّة بأسلوب شعريّ ونبوغ مستمدّ من المكاشفة الإلهيّة بحيث لا تضاهي كلامه – الآتي بعد كلام الرب يسوع ومَثَلِه البطولي – له المجد، أيّة قطعة أدبيّة. واستوحى جبران خليل جبران، ابن لبنان البارّ، شيئًا من عبقريّة الرسول في كتاب “النّبيّ” وكتب عن المحبة سطورًا مأثورة: “إذا المحبة أومت إليكم فاتبعوها، المحبة تكلأكم (اي تعتني بكم) … وتصلبكم… المحبّة لا تعطي إلاّ ذاتها، المحبة لا تأخذ إلاّ من ذاتها”. أمّا المحبّة التي تعتني بنا فهي “محبّة المسيح التي تأخذ بمجامع قلوبنا”، والمحبّة التي تصلبنا هي محبّة يسوع الفادي: “ما من محبة أعظم من حبّ الّذي يبذل نفسه عن أحبّائه”.
المفهوم الحقيقيّ الصّحيح للمحبّة
من المؤسف فعلاً، “بصراحة ربّنا”، أنّ نفرًا من المسيحيين كثيرًا، وخصوصًا من الكاثوليك ولا سيّما الأعاجم، توهّموا أنّ المحبّة من غير معرفة هي المطلوبة منّا! وكانت الوالدة، طيّب الله ثراها ورحم روحها، تستشهد بمَثَل دارج: حنّيّة بلا دريّة”! وبولس الرسول ينبّهنا، وكأنّه يخاطبنا اليوم: “المحبّة لا تفرح بالظّلم بل تفرح بالحقّ”. الكلمة اليونانية الأصليّة هي “اليثيا αληθεια” أي الحقيقة. وبالتّوزان مع ما سبق أي بالتّضاد مع “الظُلم” والجور، نفهم أن المحبة تفرح بالحقّ، وجمعها “حقوق”.
آه، الحقّ والحقيقة! يتوهّم خلق كثير أنّ محبتنا المسيحيّة تعني الموافقة على كل الأفكار والمذاهب وتأييد كل العقائد “لأننا نحبّ إخوتنا واشقّاءنا في الوطن الواحد” أو “إخوتنا في المسيح”. ويشهد الداعي لإخوتنا المسلمين أنهم لا يتملّقوننا قَطّ ولا يجاروننا أي لا يسايروننا بشيء يخالف ديانتهم، في حين يتخطّى قوم منّا أو يخالفون مبادىء ديننا المسيحيّ في سبيل إرضاء بعض المسلمين. ولا عجب ألاّ يَرضوا، فالّذي لا يحترم ديانته لا يقدر أن يحترم دين غيره! وربّما يقوم بعضنا بتلك المسايرة- المخالفة لمبادىء عقيدتنا- من باب عقدة النقص أو مركّب “الأقليّة” أو من باب خوف غير مشروع أحيانًا بحيث “يُفزعنا الله”!
والمحبّة “لا تفرح بالظُّلم”. حلوة محبّة الشعب المسيحيّ الأوروبيّ في استقباله للاجئي سورية والعراق مثلاً (لا حكوماته التي لها أهداف سياسية واقتصادية والتي تريد إحداها تنقية صفحتها بعد تاريخ نازيّ بشع)، ولكن أحلى من استقبالي كلاجيء مساعدتي سياسيًّا وإنسانيًّا للعودة إلى بلدي ووطني، فهذا هو العدل بدل أن أكون “ساكنًا” من الدرجة الثّانية، عالة على دول وشعوب أخرى، غريبًا مهما فعلت وطالما حييت!
المحبّة المسيحيّة: إنّ سينودس الأساقفة للشّرق الأوسط والبابوات منذ بولس السادس والبابا الحاليّ بشكل خصوصيّ، طالبوا ويطالبون بحقوق المسيحيين وعلى رأسها “الحرّيّة الدينيّة”. بها طالب الحبر الأعظم البابا فرنسيس الرّئيس الإيرانيّ “روحاني” في بلد “ثيوقراطيّ” أزال من الوجود قبل سنوات “مؤتمر الاساقفة الكاثوليك في إيران” ويحرّم تبديل الدين فقط على المسلمين.
لا نقدر بذريعة المحبّة والضعف أن نعدل عن حقوقنا (أو كما تقول العامّة “أن نتنازل” عنها) لأنها أي حقوقنا الدينية والاجتماعية والفردية مبنيّة على واجباتنا نحو الله ونحو أنفسنا ونحو القريب.
اصطدام يسوع بالعنصريّة العبريّة المعاصرة! (لوقا 4: 21- 30)
يتحدّى أهل النّاصرة يسوع: “اعمل عندنا في وطنك المعجزات التي قمتَ بها في كفرناحوم!” الكلمة ملغومة! كفرناحوم نعم بلدة جليليّة ولكنّ فيها عددًا من الوثنيين ولا سيّما من الرومان والكنعانيين: يمرّون من “طريق البحر” Via Maris للتجارة أو السياحة. يعني الناصريّون أنّ الأقربين أولى بالمعروف، ولكنّ في دعوتهم هذه استفزازًا للمسيح وابتزازًا. ومثل بعض البشر، ينسون أو يتناسون أنّ معجزات يسوع ليست تحت الطّلب وأنّ لها شروطًا من أبسطها التواضع والإيمان به. يريدون الامتياز من غير الالتزام. أو يريدون ما يتوهّمون أنه لهم من غير تتميم ما عليهم.
ويجيبهم يسوع بكلام يغيظهم لأنّه يبيّن أنّ الله نفسه، “إله يسرائل”، أحيانًا يمنح ال”جويم” أي “الوثنيين” المساخيط “الأنجاس” إنعامات ما منّ بها على شعبه المختار! “معقول يا ناس”؟ من كلّ الأرامل اليهوديات لا يختار الله ولا واحدة بل يبدو أنه تعالى ينبذهنّ ولا “يجبر خاطر” إلاّ ارملة كنعانية فينيقيّة من صرفت صيدا، على يد النبي إيليّا، وهو النبي المحبوب الشعبيّ الذي يترك له اليهود حتّى أيّامنا كرسيًّا فارغًا تحسّبًا لعودته! ومن كل البرص اليهود الذين تزيد على مرضهم وهمومهم ومصيبتهم تعقيدات الربابينيين “الشرعية” وألف وصيّة ووصيّة ليبتعدوا عن المدن والقرى ويدقّوا جرسًا ويصيحوا “نجس نجس”، ما اصطفى الله أحدًا ليبرّئه تعالى ويطهّره، بل أبرص وثنيًّا “نعمان السّوريّ” الذي شفاه الله عن يد أليشاع. والطّريف في الأمر أنّ نعمان المذكور أعلاه ما كان أقلّ من اليهود عنصريّة إذ استشاط غضبًا (وكأنّك تقول باللهجة الصّعيديّة “كان هيطقّ من الغيظ”) عندما أمره نبي الله أن يذهب ويغتسل في نهر الأردنّ! اليوم، نهر الاردن، تحت الجسر الخشبيّ، قطرتان ونصف، وفي المقاييس الاوروربية أو الأمريكية ليس أكثر من “سيل”. لنفرضنّ أنّ هذا النهر كان وقتها أغزر مياهًا! ولكنّ السوريّ المختال الفخور يصرخ في استياء واستنكار واستهجان : “أليس نهرا دمشق، ابانا وفرفر، افضل من كلّ مياه يسرائل؟”
يريد يسوع أن يكسر شموخ العبرانيين (وشموخنا أيضًا) ! يعلّمنا محبة جميع الشعوب، ولكن بحفظنا لمحبة وطننا. ويشكو – بحبه لموطنه وقومه- أن “لا كرامة لنبي في وطنه”.
خاتمة
صدق بولس الرسول في الأمور السامية الشاهقة التي كتبها في المحبة التي ليست صحيحة إن لم يرافقها العدل والحقّ! اصاب عندما كتب في الثانية إلى القورنثيين أنّ “محبّة المسيح تأخذ بمجامع قلوبنا” ( 2 قور 5: 14) إذ يعني الفعل اليوناني συνέχειν أنّ محبة المسيح لنا ومحبتنا للمسيح وللقريب تجمع ولا تفرّق، تضمّ ولا تُقصي، تفهم وتستفهم ولا تستهتر ولا تستهين، تحاور وتعانق وتشمل فلا تستنفر ولا تستبعد ولا تستثني. ويا ليتنا نكون أكثر فأكثر بناة “حضارة المحبّة”، ملحًا للأرض ونورًا للعالم”، لنكون “قدّيسين وبلا عيب، في المحبّة” (أفسس 4: 1)، بمحبة “لا عيب فيها” (أي عيب الجهل والسذاجة والبلاهة) ” محبة بلا رياء” (عن رومية 12: 9) “نعمل للحقّ في المحبّة” (أفسس 4: 15) “مُقدَّسين في الحقّ” (عن يوحنّا 17: 17).