Liturgical Logo

المشي على الماء (متى 14: 22-33)

الأب لويس حزبون

يُسلط إنجيل الاحد الأضواء على مشي يسوع على الماء (متى 14: 22-33) لينقذ تلاميذه في وسط العاصفة فيستعيد ثقتهم به ويشدّد ايمانهم من خلال بطرس حيث تؤكد هذه الحادثة حضور الرب وقوته معهم وشفاء لإيمانهم الضعيف أمام تجارب العالم. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الانجيلي (متى 14: 22-33)
22وأَجبَرَ التَّلاميذَ لِوَقتِه أَن يَركَبوا السَّفينَةَ وَيَتَقَدَّموهُ إِلى الشَّاطِئِ المُقابِل حتَّى يَصرِفَ الجُموع.
تشير عبارة “أجبر التلاميذَ الى أنّ يسوع يحافظ على مسافةٍ بينه وبين تلاميذه، حيث يُضطرّ التلاميذ إلى الاعتماد على أنفسهم، من ناحية، ومن ناحية أخرى اراد يسوع ان يضع حدا لحماس الجماهير الوارد في انجيل يوحنا “وعَلِمَ يسوعُ أَنَّهم يَهُمُّونَ بِاختِطافِه لِيُقيموهُ مَلِكاً” (يوحنا 6: 15) بعد ان تحمّست الجموع عندما أشبعها يسوع من الخمس ارغفة والسمكتين (يوحنا 6: 13-21)، ويسوع يعرف ان تلاميذه يؤيدون مثل هذا الاقتراح، فهم يفكرون في قيام مملكة المسيح حيث سيشغلون فيها المناصب الأولى؛ ولكن يسوع لا يطلب ملكه الخاص بل ملكوت الله. اضطر يسوع ان يصرفهم في الحال وان ينصرف هو الى مكان منفرد للصلاة. وجد يسوع نفسه يواجه مشاكل عويصة كهذه بمفرده إزاء الجميع. ومن جانب آخر قد تشير العبارة أن يسوع أَجبَرَ التَّلاميذَ أن يدخلوا السفينة، وكأنهم إذ سلَّموا حياتهم في يديه بكامل حريتّهم، فكان يدفعهم إلى وسط البحر، ليختبروا حضرته كسِرّ سلامهم عند هياج العاصفة ضدّهم. حين يُلقي الإنسان بنفسه في يد يسوع بكامل حريّته يلزمه السيّد بالسلوك حسبما يريد. اما عبارة ” لِوَقتِه” في اليونانية εὐθέως فتشير الى على الفور أي بعد معجزة الخبز والسمك الأولى (متى 14: 13-21 (؛ اما عبارة “الشَّاطِئِ المُقابِل ” فتشير الى الارض الوثنية حيث يطعمهم يسوع من خبز الله (15/23-39) كما أطعم اليهود. وهكذا تشبع البشرية كلها. واما في انجيل مرقس فالشاطئ المقابل يدل على بيت صيدا، وهي مدينة تقع على الضفة الشمالية لنهر الأردن، قبل ان يصب في بحيرة طبرية (مرقس 6: 45). ويعلق العلامة أوريجانوس “هذا هو عمل تلاميذ يسوع، أقصد أن يذهبوا إلى الجانب الآخر، ويعبروا وراء الأمور المنظورة والماديّة الزمنيّة، وينطلقوا إلى الأبديّات غير المنظورة”؛ اما عبارة “يَصرِفَ الجُموع” فتشير الى رفض يسوع تولي مُلك ارضي كما يفهمه الجمع لان “لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم” كما أعلن يسوع أثناء الدعوى الرومانية (يوحنا 18: 36). ورد ذكر الجموع أربعين مرة في إنجيل متّى.
23ولمَّا صرَفَهم صَعِدَ الجَبَلَ لِيُصَلِّيَ في العُزلَة. وكانَ في المساءِ وَحدَه هُناك.
تشير عبارة “صَعِدَ الجَبَلَ لِيُصَلِّيَ في العُزلَة ” الى علامة صلته بالآب. وصلاته في العزلة تسبق او تتبع الاعمال المهمة في رسالته (متى 26: 36). اما مضمون صلاته فنجده في الصلاة الربِّية او الصلاة في بستان الجسمانية. فصلاته لا تعني هروبًا من الخدمة وإنما تأكيدًا للحياة التأمّليّة وخدمة الجماهير باللقاء السرّي مع الآب. اما عبارة ” العُزلَة ” فتشير الى اعتزال يسوع قبل ان يمضي الى تلاميذه الذين يواجهون الصعاب لتشجيعهم بحضوره وإظهار لهم ذاته. ويعلق لقدّيس برونو، مؤسّس الرّهبنة الكرتوزيّة ” أهرب يا أخي، من كلّ تلك الهموم، واعبُر من عاصفة هذا العالم إلى راحة المرفأ الهادئة والأكيدة.” الرب يسوع يمضي وقته كله مع الناس، يشفي، يستمع، يُكثّر الخبز، يتحدث إلى الناس، يجلس معهم طوال النهار؛ وعندما يكون مع التلاميذ يحدّثهم، لا يرتاح… ولكنه، بين حين وآخر، “يستبعد” التلاميذ والناس، لكي يختلي ويصلّي. هل عِلمنا بحاجتنا المُلحّة إلى الصلاة سواء من أجلنا، أو من أجل الآخرين؟

24وأَمَّا السَّفينَةُ فَقَدِ ابتَعَدَت عِدَّةَ غَلَواتٍ مِنَ البَرّ، وكانتِ الأَمواجُ تَلطِمُها، لأَنَّ الرِّيحَ كانت مُخالِفَةً لَها.

تشير عبارة “السفينة” الى الكنيسة لأنها تحمل جميع التلاميذ الاثني عشر الذين دعاهم يسوع رسلا. اما عبارة “الغلوة ” فتشير الى وحدة قياس تساوي 185 مترا؛ اما عبارة ” ابتَعَدَت عِدَّةَ غَلَواتٍ مِنَ البَرّ فتشير الى “بَعدَ ما جَذَّفوا نَخوَ خَمسٍ وعِشرينَ أَو ثَلاثينَ غَلَوة، أي نحو كلم ” كما اوضّح ذلك يوحنا الانجيلي (يوحنا 6: 19)، فهم في وسط البحيرة علما ان عرض بحيرة طبرية نحو 12 كلم. اما عبارة “الأَمواجُ ” فتشير الى الشرور التي تمثل الامواج المخالفة كأنها تريد ان تبتلع السفينة. اما عبارة “الريح” فتشير الى الضيق والاضطهاد. يسوع غائب عن جماعته اللذين هم في السفينة. ولكنه يصلي لأجلها. فيجب عليها ألاّ تخاف الأمواج (الشر) والرياح المخالفة (ضيق والاضطهاد) (متى 8: 23-27). ان الكنيسة تسير باستمرار عكس التيار. لقد ترك يسوع التلاميذ يختبرون أنهم بدونه عاجزون، وأنهم أحوج ما يكونون اليه في ساعات الظلمة والضيق. اما عبارة “الرِّيحَ كانت مُخالِفَةً لَها ” فتشير الى هبوب رياح مسبِّبة ارتفاع الأمواج بشدة، وذلك لانخفاض مستوى بحيرة طبرية عن مستوى سطح البحر نحو 197 م، ويصل عمقها الى نحو 45 م وتحوطها الجبال من جميع الجهات. يصف متى الإنجيلي ان” الريح كانت مخالفة للسفينة” في حين مرقس الإنجيلي يصف ان الرياح كانت مخالفة للتلاميذ “، لأَنَّ الرِّيحَ كانت مُخالِفةً لَهم” (مرقس 6: 48). وهذه هي الحادثة الثانية التي يواجه التلاميذ فيهما عاصفة أثناء عبورهم بحيرة طبريّا، اما المرّة الأولى وردت سابقا في إنجيل متى ( 8: 23-27).

25فعِندَ آخِرِ اللَّيل، جاءَ إِليهِم ماشِياً على البَحْر.

“عِندَ آخِرِ اللَّيل” في اليونانية τετάρτῃ δὲ φυλακῇ ومعناها في الهزيع الرابع او في الهجعة الرابعة من الليل وتدل على ما قبل الفجر بين الساعة 3 والساعة 6 في الصباح حسب التوقيت الروماني (متى 28:1). وهذا يدل على أن التجربة استمرت فترة طويلة. اما عبارة ” اللَّيل ” فتشير الى غياب يسوع (يوحنا 21: 3) كما يدل على آلامه في جبل الزيتون (متى 26: 36)؛ اما عبارة “جاءَ إِليهِم” فتشير الى حضور يسوع ليسندهم بعد غيابه عن التلاميذ وكأنه يريد ان يختبرهم. أما عبارة “ماشِياً على البَحْر” فتشير الى احدى خصائص الله “السَّائِرُ على مُتونِ البَحْر” (أيوب 9: 8) كما يترنَّم صاحب المزامير ” يَسكُنُ عَجيجَ البِحار وهَديرَ الأَمواجِ ” (مزمور 65: 8)؛ التلاميذ يعرفون يسوع، ويعرفون هيئته ومشيته، لكن كيف يمشي على الماء؟ فظنوه خيالا. اما عبارة “البحر” فتشير الى عالم الشر، وموطن الخطيئة والمسيح يسيطر عليه (مزمور 77: 20). هذه المعجزة تثبت لاهوت المسيح. وتُظهر سلطانه على البحر والهواء، بل كان فيه درس للتلاميذ وشفاء للإيمان الضعيف أمام تجارب العالم.
26فلَمَّا رآه التَّلاميذُ ماشِياً على البَحْر، اِضطَرَبوا وقالوا: ((هذا خَيَال!)) ومِن خَوفِهم صَرَخوا.
تشير عبارة “رآه التَّلاميذُ” الى ان جميع التلاميذ راوا يسوع فلم يكن في الامر توهم او هلوسة من جانبهم. اما انجيل مرقس فيقول يسوع رأى التلاميذ “ورآهم يَجهَدونَ في التَّجديف، لأَنَّ الرِّيحَ كانت مُخالِفةً لَهم، (مرقس 6: 48). اما عبارة ” ماشِياً على البَحْر ” فتشير الى انتصار يسوع على الشر والموت ويصل إلى تلاميذه. اما عبارة “الاضطراب ” فتشير الى خوف من مجهول لا يدركه التلاميذ. اما عبارة ” هذا خَيَال!” باليونانية φάντασμα الى شبح او ظهور كما ظن الرسل حين رأوا يسوع بعد القيامة امام شبح (لوقا 24: 37) وهذا هو اعتقاد الغنوسيّين الذين يظنون ان جسد يسوع هو وهْم وخيال. يبدو أنّ حضور يسوع زاد من خوفهم، في بداية الأمر، لأنّه صعب عليهم التعرّف عليه.
27فبادَرهم يسوعُ بِقَولِه: ((ثِقوا. أَنا هو، لا تَخافوا! ))
تشير عبارة “بادَرهم بقوله” في اليونانية εὐθὺς δὲ ἐλάλησεν أي تكلم “لوقته” الى تكرار “لوقته” أي حالا للمرة الثانية. وهي تدل على أنّ الخلاص يحدث فور صراخ الإنسان إلى الربّ؛ اما عبارة ” ثِقوا” في اليونانية Θαρσεῖτε ومعناها تشجّعوا؛ فتشير الى عبارة “أنا هو” الى الاسم الالهي كما أوحى الله اسمه لموسى النبي ” أَنا هو مَن هو ” (خروج 3: 14) يُعرف يسوع نفسه ” أنا هو” وباستعمال اللقب الإلهي الوارد في سفر الخروج يلقي ضوءً على منزلة يسوع الإلهية، وهذا اللقب يدل على لاهوت المسيح (يوحنا 8: 28)، وتعني ايضا في ضوء القيامة: أنا هو، انا الرب، كما ورد في انجيل يوحنا (8: 58). اما مرقس فقد رأى في هذه العبارة تجلي كيان يسوع الذي هو الله (مرقس 6: 50). أما عبارة ” لا تَخافوا ” فتشير الى الثقة التي هي نتيجة حضور يسوع في وسط الاخطار التي يمثلها البحر.
28فأَجابَه بُطرس: ((يا رَبِّ، إِن كُنتَ إِيَّاه، فمُرني أَن آتِيَ إِلَيكَ على الماء)).
تشير عبارة ” يا رَبِّ، إِن كُنتَ إِيَّاه ” الى طلب بطرس برهانًا من يسوع كي يؤمن أنّه هو. لكن الإيمان هو مسألة ثقة. كلّ البراهين الموضوعيّة لا تمنح الإيمان. وحدها الثقة بالله هي التي تمنحه. أما عبارة “فمُرني أَن آتِيَ إِلَيكَ على الماء” فتشير الى طبع بطرس المندفع المتسرع. وينفرد متى الانجيلي برواية هذا الحدث الذي يتعلق ببطرس كما ينفرد في حدث شهادة بطرس في قيصرية (متى 16: 13-20) وحدث يسوع يؤدي الجزية الى الهيكل (متى 17: 24-27).
29فقالَ لَه: ((تَعالَ!)) فنَزَلَ بُطرُسُ مِنَ السَّفينَةِ ومَشى على الماءِ آتِياً إِلى يسوع.
تشير عبارة “تَعالَ!” الى دعوة الرب الى بطرس. لا يجرؤ بطرس على النزول من السفينة إلاّ بعد أن يقول له الرب “تعال”، كما كان الحال في الصيد العجيب عندما ألقى بطرس الشباك في البحر بناءً على قول الرب (لوقا 5: 5). عندما يدعوك الله لا بد من الاستجابة. وفي هذا الصدد قال زولر الحاخام الأكبر في روما الذي ظهر له السيد المسيح “لا يختار المرء لحظة تحوّله بل يتحوّل عند تلقّيه دعوةً من الله. لذا لا يوجد أمام المرء سوى شيء واحد بإمكانه القيام به وهو: الطّاعة. لا وجود لتحضيرات أو خطط مسبقة. إنها هي خطوة ناجمة عن المحبّة ونابعة من مصدر الحبّ اللامتناهي” . اما عبارة “مَشى على الماءِ آتِياً إِلى يسوع” الى انه لم يكتف يسوع فقط بالمشي على الماء، إنما جعل القديس بطرس الرسول يمشي أيضًا معه على الماء اما عبارة ” فنَزَلَ بُطرُسُ مِنَ السَّفينَةِ” فتشير الى ايمان بطرس بدعوة يسوع. والعجيب أن السيّد لم يهدِّئ الأمواج لكي يسير بطرس على المياه، ان نزول بطرس من السفينة هو تلبية لدعوة يسوع وبرهان على ايمانه.
30ولكِنَّه خافَ عندَما رأَى شِدَّةَ الرِّيح، فَأَخَذَ يَغرَق، فصَرَخ: ((يا رَبّ، نَجِّني! ))
تشير عبارة ” خافَ “الى ان الخوف هو عكس الايمان، فالإيمان يمنع من الغرق أمام الصعوبات والاضطهادات؛ اما عبارة ” يَغرَق ” فتشير الى شك بطرس في أمر المسيح، فأخذ يغرق في الماء ولم تفِدْه معرفته بالسباحة. لقد حوَّل بطرس عينيه عن الرب يسوع الى الامواج العالية حوله، فاهتزّ إيمانه. والشيء الّذي يجعلنا نغرق هو قلة الإيمان؛ اما عبارة “نجّني يا رب” تشير الى استدراك بطرس الشك بصلاة التي اصبحت صلاة الكنيسة. وأصبح بطرس مثال التلميذ في شكَّ في إيمانه.
31فمَدَّ يسوعُ يَدَه لِوَقْتِه وأَمسكَه وهُو يقولُ له: ((يا قَليلَ الإِيمان، لِماذا شَكَكْتَ؟ ))
تشير عبارة “مَدَّ يسوعُ يَدَه لِوَقْتِه ” الى يد الله في العهد القديم التي تدل على قدرته التي تنتزع من الهاوية صفيّه كما جاء في ترنيمة صاحب المزامير ” يُرسِلُ مِن عَلْيائِه فيأخُذُني ومِنَ البِحارِ يَنتَشِلُني ” (مزمور 18: 17)؛ اما عبارة “لِوَقْتِه εὐθέως في اليونانية فتشير الى تكراراها للمرة الثالثة وهي تدل على أنّ الخلاص يحدث فور صراخ الإنسان إلى الربّ معبّراً عن عجزه الشخصي وعن ثقته الشخصيّة. اما عبارة ” لِماذا شَكَكْتَ؟ ” تشير الى الارتياب مما يدل على قلة الايمان. هذا ما حدث لتوما الرسول، ولكن الرب جاء فبدّد شكه (يوحنا 2: 24-25).
32ولمَّا رَكِبا السَّفينةَ، سَكَنَتِ الرِّيح، 33فسجَدَ لَه الَّذينَ في السَّفينةِ وقالوا: ((أَنتَ ابنُ اللهِ حَقّاً! )).
تشير عبارة ” رَكِبا السَّفينةَ ” الى ركوب يسوع وبطرس السفينة حيث الجماعة الصغيرة التي تمثل الكنيسة، فعاد اليها السلام بعد الاضطراب والخوف. ان حضور يسوع يوصلنا الى الشاطئ بأمان، ويحمينا من هجمة الشر والبحر؛ اما عبارة ” سَكَنَتِ الرِّيح ” فتشير الى سلطان يسوع على البحر والرياح والأمواج مما يذكِّرنا بقول المزمور مَن مِثلك أيها الرّب إِله القوات؟ أَنت قوِي يا ربُّ وأَمانتُك مِن حَولك. مُتَسَلِّطٌ أَنتَ على طُغْيانِ البِحار وأَنتَ تُسَكِّنُ أَمْواجَها عِندَ اْرتفاعِها” (مزمور89: 9-10). اما عبارة ” فسجَدَ لَه ” فتشير الى خضوع عبادة التلاميذ الى يسوع كإله وربٍ له القدرة والسلطة وملء العظمة على البحر والمياه والرياح. اما عبارة “أَنتَ ابنُ اللهِ حَقّاً! ” فتشير في الآرامية בֶּן־אֱלהִים אָתָּה الى الاعتراف بألوهية يسوع. انه هتاف ذو طابع طقسي، فيسوع هو ابن الله، بكونه ينتزع من الهاوية (مزمور 18: 17) اولئك الذين في السفينة، ولا شك انها تمثل الكنيسة في نظر متى الانجيلي (8/23-27). وهذه العبارة ترددت بفم بطرس (متى16: 16) وبفم رئيس الكهنة (متى 26: 73)، وبفم قائد المئة ورجاله، وهي تعني في المفهوم اليهودي: الملك الذي اختاره الله وتبنّاه كما جاء في سفر المزامير ” الآن عَلِمتُ أَنَّ الرَّبَّ يُخَلِّصُ مَسيحَه مِن سَماءِ قُدْسِه يَستَجِيبُ لَه بِمَآثِرِ يَمينه الخَلاصِيَّة “(مزمور 20/7). اما في المسيحية فتعني في ضوء القيامة أن يسوع هو ابن الله الذي يسجد له الرّسل. وعليه نستنتج ان يسوع ليس خيالاً، بل هو الحقيقةُ عينُها، وهو ليس حقيقةً إنسانيّةً فحسبُ، بل حقيقة إلهيّة أيضاً، وهذا ما عبّر عنه التلاميذ عندما قالوا له: ” حقّاً أنت ابنُ الله “. فيسوع هو إلهٌ وإنسانٌ معاً. وهو حقيقةٌ واقعيّة يعيش اليومَ بينَنا، ويُرافقنا. قال لنا ذلك بصراحة: ” وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم “(متى 28: 20). هذا هو إيمان الكنيسة، وإيمان كلِّ مسيحيٍّ مؤمن.

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 14: 22-33)

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 14: 22-33)، نستنتج انه يتمحور حول دعوة الى الايمان وعدم الخوف

1) دعوة الى الايمان

يهدف متى الإنجيلي في روايته عن يسوع الذي يمشي على الماء الى دعوة التلاميذ الى الايمان. وبلوغ الإيمان لا بد من التغلب على قلة الايمان والشك

(ا) الايمان
ان الايمان بالرب هو ليس مجرد الايمان بقانون الايمان الذي يشمل 12 عقيدة ايمانية مثل الثالوث الاقدس والتجسد، ولاهوت المسيح …، إنما ينبغي ان يكون للمؤمن حياة ايمان يعيشها، ويثمر ثمر الروح ” أَمَّا ثَمَرُ الرُّوح فهو المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ والوَداعةُ والعَفاف” (غلاطية 5: 22-23). وأكد ذلك صاحب الرسالة الى العبرانيين “بِغَيرِ الإِيمانِ يَستَحيلُ نَيلُ رضا الله، لأَنَّه يَجِبُ على الَّذي يَتَقَرَّبُ إلى اللهِ أَن يُؤمِنَ بِأَنَّه مَوجود وأَنَّه يُجازي الَّذينَ يَبتَغونَه” (العبرانيين 11: 6). وعليه فإن الايمان هو حالة من الاستعداد العقلي لتوقّع ما يعمله الله، وعندما نحيا بهذا التوقع يمكننا ان نتغلب على مخاوفنا.

وبيّن متى الإنجيلي علاقة الايمان بالمعجزة، فالإيمان لا يأتي بعد المعجزة، بل يسبقها، وهذا الايمان يدفع الانسان الى التقرب من يسوع بالرغم من العقبات التي تعترضه. وجسِّد بطرس سير الايمان في قلب الانسان. لأنه يؤمن، لكن إيمانه لا يزال ضعيفا، ويعبر عن هذا الايمان في الحوار، بشكل صلاة ترفع الى الرب “((يا رَبّ، نَجِّني! ” (متى 17: 30)، وهي صلاة يليها يسوع بصنع المعجزة، لتثبت الايمان الذي يخلص “فمَدَّ يسوعُ يَدَه لِوَقْتِه وأَمسكَه وهُو يقولُ له: ((يا قَليلَ الإِيمان، لِماذا شَكَكْتَ؟)) (متى 17: 31). ان يسوع يستجيب اليوم أيضا الى دعاء الايمان: تلك هي الرسالة التي وجّهها متى الإنجيلي اليوم إلينا.

وكان من شان المعجزة طرح هذا السؤال: ” من هذا؟ “مَن تُرى هذا حتَّى تُطيعَه الرِّيحُ والبحر؟” (مرقس 4: 41). لقد كان هذا السؤال امتحان الى يوحنا المعمدان (متى 11: 2-3) وعثرة للفريسيين (متى 12: 22-28) فالإيمان لم يعطِ الآ إجابة جزئية، وهي الاعتراف بقدرة يسوع على البحر والرياح (متى 8: 27). على ان الإجابة الصحيحة التي يقدِّمها بطرس: أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ ” (متى 16: 16). تنتهي رواية المشي على الماء بشهادة إيمان “سجَدَ لَه الَّذينَ في السَّفينةِ وقالوا: ((أَنتَ ابنُ اللهِ حَقّاً! ” (متى 14: 33). وهذا الايمان بيسوع يوحّد من ساعته بينه وبين التلاميذ، وفيما بينهم، ويجعلهم يشتركون في سر شخصه (متى 16: 18-20).
ان انجيل متى يُعرض لنا خاصة نموذجا عمّا علينا اليوم ان نعلمه في تلك السفينة (الكنيسة) أي علينا أن نرى في شخص يسوع ابن الله. فبالإيمان يشعر الانسان بأنه مرتبط بالمسيح. وتبدو المعجزة لتغذي ايماننا، لا من أجل تأسسه. نحن نؤمن بيسوع، لأنه يُبدِّل حياتنا، ولان اعلان المسيح القائم من الموت يضفي معنى جديداً على كل ما نعيشه.

(ب) قلة الايمان

يتبين لنا ان الايمان الذي يُضرب به المثل هو إيمان الآخرين: المرأة المنزوفة (متى 9: 20-22)، وموظف الملك في كفرناحوم (متى 8: 5-13) والنجس الممسوس في ناحية الجراسيين (متى 8: 28-34)، في حين أنه ليس في التلاميذ غالبا الا ” ايمان قليل ” كما أوضح يسوع في حواره مع بطرس بقوله له “يا قَليلَ الإِيمان، لِماذا شَكَكْتَ؟ (متى 17: 31).

ان عدم الايمان له درجات مختلفة في صفوف المؤمنين، فالبعض يُظهرون أنهم ” قليلو الايمان”، مثل التلاميذ عندما اعتراهم الخوف من الأَمواجُ التي تَلطِمُ سفينتهم والرِّيحَ المُخالِفَةً ” (متى 14: 24) والامواج المتحركة (متى 14: 31) وأثناء العاصفة (متى 8: 26)، الاَّ ان الصلاة تستطيع ان تعالج قلة الايمان.

بطرس هو اول من آمن، وكان إيمانه عظيمًا إذ ألقى بنفسه في البحر لكنه عاد للسلوك بالعيان لا بالإيمان، فضعف إيمانه. ونحن يجب أن نسلك بالإيمان لا بالعيان. وعلاج ضعف الإيمان يكمن في تثبيت النظر على المسيح دائمًا دون النظر لكمية المخاطر التي نتعرض لها. فلو ركزنا أنظارنا على حجم المشكلة يتزعزع إيماننا كما حصل مع بطرس، أما لو ركزنا أنظارنا على المسيح يثبت إيماننا. وهو إذا فكر في يسوع وحده، كان قويا، وإذا عاد وأدرك وضعه البشري، غرق. ولكن ما يجعلنا نغرق هو قلة الإيمان. فقلة ايمانه ليست رفضا للإيمان، بل توقفاً وتقصيراً في السير وراء يسوع. وإن قلة إيمان بطرس تقوّى بالنظر الى الرب حيث ان الايمان يفترض القفز في المجهول والمخاطرة على غرار بطرس والثقة العمياء بالله وحده. يسوع الذي عاتب بطرس على قلة إيمانه كان قد صلى في موضع آخر من أجل ان يثبت بطرس على إيمانه “لكِنَّي دَعَوتُ لَكَ أَلاَّ تَفقِدَ إِيمانَكَ. وأَنتَ ثَبَّتْ إِخوانَكَ متى رَجَعْتَ (لوقا 22: 32) وما عمله يسوع في الماضي على الارض، لا يزال يعمله اليوم

(ج) الشك
إنّ الشكّ أمراً صحّياً. أنّ الإيمان دون شكّ لا طائل منه وهو لا يُغيّر قلبنا. لأنّ الشكّ يؤدّي إلى الفهم والمواجهة واخيرا الى الايمان. وهذا ما حدث مع بطرس. بطرس هو أول من شك، وأول من تغلّب على الشك والخوف؛ في الحقيقة، لقد نال بطرس البرهان، ومشى على الماء، ولكنّه شكّ. والشكّ يفقدنا كلّ قوانا، بالشكّ نفسّر الخير شرًّا، والأمانة احتيالاً، والوفاء مواربةً وتمثيلاً. بالشكّ فقد بطرس أبسط إمكانيّاته، وهي السباحة. لم يعد يثق حتّى بنفسه وبقدرته على السباحة؛ فغرق. لقد بدا بطرس يغرق عندما حوّل عينيه عن يسوع الى الأمواج العالية حوله، فاهتز إيمانه ولما اهتز إيمانه، أمام الشك في الإيمان، وأمام عواصف الحياة، فإنّ التلميذ مدعوّ الى النظر الى يسوع. وهكذا لجأ بطرس الى المسيح الوحيد الذي يقدر ان يعين، لقد خاف وشك ولكنه مع ذلك نظر الى المسيح وثبت نظره عليه، لا على ضعفه وشكه.
نتغلب على الشك بالإيمان. قد لا نمشي على الماء، ولكننا نواجه مواقف عسيرة، فإذا ركزنا أبصارنا على أمواج الظروف الصعبة حولنا، فقد يهتز ايماننا ونتعرض للشك واليأس والغرق. وليس معنى هذا بالضرورة أننا قد فشلنا، فعندما اهتز إيمان بطرس، لجأ الى المسيح، الوحيد الذي يقدر أن يعين. لقد خاف ولكنه مع ذلك نظر الى المسيح. فعندما ندرك المتاعب التي تحيط بنا، ونشك في حضور المسيح معنا، او في قدرته على معونتنا، علينا ان نتذكر أنه هو الوحيد الذي يستطيع ان يعين. لذلك لنحتفظ بإيماننا في وسط المواقف الصعبة، ولنثبِّت نظرنا على المسيح وقوته، لا على ضعفنا. فظهور السيد المسيح ماشيا على الماء وحثه لبطرس، يدفعنا الى الثقة بقوة الله وسط أمواج الحياة التي تهدِّد إيماننا وحياتنا المسيحية. ومتى نجد نفوسنا في “المياه العميقة” لنذكر ان الرب يسوع يعرف ما نحن فيه من صراع فيهتم بنا.

2) دعوة الى عدم الخوف

يهدف متى الإنجيلي في روايته عن يسوع الذي يمشي على الماء ليس فقط دعوة التلاميذ الى الايمان، بل أيضا دعوتهم الى عدم الخوف. “لَمَّا رأى التَّلاميذُ يسوع ماشِياً على البَحْر، اِضطَرَبوا وقالوا: ((هذا خَيَال!)) ومِن خَوفِهم صَرَخوا. فبادَرهم يسوعُ بِقَولِه: ثِقوا. أَنا هو، لا تَخافوا!”(متى 14: 26-27)، فالشعور المضاد للخوف هو الثقة بالله. والثقة هي توجيه سير الانسان نحو إيمان أعمق. فالخوف هو عكس الايمان، والايمان يمنع من الغرق أمام الصعوبات والاضطهادات. فالمسيح لا يريد إرهاب التلاميذ حتى عندما يظهر لهم، بل بالعكس، يطمئنهم “ثِقوا. أَنا هو، لا تَخافوا!”(متى 14 24). هكذا يكون الايمان بالمسيح مصدر طمأنينة، يزيل حتى مجرد الخوف البشري. ويردد يسوع على مسامع الرسل، الذين ينتظرهم الاضطهاد، الاّ يخافوا أولئك الذين يقتلون الجسد (متى 10: 26-31).

الانسان المؤمن يثق في عناية الرب وفي حفظه وقدرته غير المحدودة، ويثق في مواعيد الرب؛ من تعلق به ينجيه كما أعلن صاحب المزامير ” أُنجيه لأَنَّه تعَلق بي أَحْميه لأَنَّه عَرَفَ اسْمي. يَدعوني فأُجيبُه أَنَّا معه في الضِّيقِ فأُنقِذُه وأُمَجِّدُه” (مزمور 90: 14-15).

الانسان المؤمن لا يخاف. الايمان يحرر الانسان من الخوف من العالم، والخوف من المرض، والخوف من الموت، والخوف من الآلام والضيقات، والخوف من البشر وما يفعلون. فلنصرخ مع القديس بطرس “نجِّنا يا رب”. علينا ان ندرب نفوسنا على الثقة وعدم الخوق من العالم كما اوصانا الرب ” عانونَ الشِدَّةَ في العالَم ولكن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم “(يوحنا 16: 33).

يتغلب المرء على الخوف بالثقة: علمنا يسوع الثقة وعدم الخوف: “ثقوا. أنا هو، لا تخافوا (متى 14/27) “تُعانون الشدّة في العالم ولكن ثقوا إنّي قد غلبت العالم” (يوحنا 16/ 33). وهذا ما يؤكده صاحب المزامير
الانسان المؤمن لا يخاف بل يثق بالرب لأنه كما يقول صاحب المزامير “جعَلتُ الرَّبَّ كُلَّ حين أَمامي إِنَّه عن يميني فلَن أَتَزَعزَع” (مزمور 16: 8) ويضيف “الرَّبُّ نوري وخَلاصي فمِمَّن أَخاف؟ الرَّبّ حِصْنُ حَياتي فمِمَّن أَفزَع؟ ” (مزمور 27: 1) ” إِنِّي ولَو سِرتُ في وادي الظّلمات لا أَخافُ سُوءًا لأَنَّكَ مَعي ” (مزمور 23: 4)، لأنه الرب يقول “أُنجيه لأنّه تعَلق بي أحْميه لأنه عَرَفَ اسْمي. يَدعوني فأُجيبُه أَنَّا معه في الضِّيقِ فأُنقِذُه وأُمَجِّدُه. بِطولِ الأيامِ أُشبِعُه وأُريه خلاصي.” (مزمور 91: 14-16). فلنعتمد على ثقتنا بالله، فيزول من قلوبنا كل خوف ” إِنِّي ولَو سِرتُ في وادي الظّلمات لا أَخافُ سُوءًا لأَنَّكَ مَعي. عَصاكَ وعُكَّازُكَ يُسَكِّنانِ رَوعي.” (مزمور 23: 4). يتدخل الله في زمن العواصف، عندها يدرك الإنسان أنّه لا يستطيع الاعتماد على قواه الذاتيّة، ولا يملك، في نهاية المطاف، سوى الثقة بالله.

وفي هذا الصدد يوجّهنا العلامة القدّيس فرنسيس دي سال” فإذا أردتم أن تركبوا بحر هذا العالم الهائج فلا تغيّروا من أجل ذلك لا شراعاً ولا سارية ولا مرساة ولا ريحاً. اتخذوا الرّب يسوع المسيح لكم كهدف وليكن صليبه سارية سفينتكم وعلى هذا الصّليب تنشرون قراراتكم كما لو كانت هي الشّراع؛ ولتكن مرساتكم الثقة العميقة به وانطلقوا في السّاعة المناسبة. ولتنفخ ريح الإلهامات السّماوية على الدّوام في شراع مركبكم حتى يصل بكم بسعادة إلى مرفأ الحياة الأبديّة… ”

وأخير يدعونا يسوع الى الصلاة في العزلة، فقد جعل الرب وقتا في برنامجه لينفرد فيه مع الآب. صلاة يسوع علامة صلته بالآب. ونحن نصلي لتكون لنا صلة بالله، الصلاة تحفظنا في سلام وسط العالم المضطرب لكن المسيح يشرح أهمية الخلوة والصلة مع الله وسط الضيقات. بفضل الصلاة التي رفعها الرّب يسوع إلى أبيه، لم يلحق التلاميذ أيّ أذى في البحر.

فقضاء وقت مع الله في الصلاة، ينشئ علاقة حيوية، ويؤهلنا لمواجهة تحديات الحياة وصراعاتها. قد يبدو لنا أحيانا ان الله قد يتركنا او قد يتغيب عنا، وأن الامر لا يعنيه. لكن الرب حاضر فينا، ويصلي من اجلنا. اختبر التلاميذ انهم بدون يسوع عاجزون، وانهم أحوج ما يكونون اليه في ساعات الظلمة والضيق. فلنخصص وقتا منفردا مع الله، فيساعدنا هذا على ان ننمو روحيا، ونزداد تشبها بالمسيح.

الخلاصة

نكتشف من خلال معجزة يسوع يمشي على الماء سلطته على قوى الشر. وجسّد بطرس الجماعة التي تشك وتخاف فتظن المسيح بعيداً، وبالتالي تطلب معجزات لكي تستعيد ثقتها بربّها. ولهذا احتاجت الى دفع جديد لتجد قوة بها تجابه الرياح المضادة.

انتهت مسيرة يسوع في القيامة وظهوره لتلاميذه، وابتدأت مسيرة الكنيسة التي يمثلها بطرس. فيتوجب على المؤمنين ان يمشوا على الماء، ويتغلبوا على الشر، على مثال معلمهم، ولكنهم لا يستطيعون ان ينطلقوا في مسيرتهم الا إذا ناداهم الرب، على مثال بطرس الذي مشى على الماء.

دعاء
أيها المسيح الهنا، يا من تُسيطر على الأحداث، ندعوك ان تقوّي إيماننا خاصة عندما يهتز في الظروف الصعبة التي نعيشها، والضيقات التي نعانيها. فلا نشكُّ في حضورك وقدرتك على معونتا، خفِّف علينا همومنا، كلما ثقلت، وأخمد فينا أهوائنا، كلما عصفت، وثبّت على بحر الحياة سفينتنا، كلما جنحت، وهبنا القوة والسكينة، فلا نخشى معك غرقا، فنحفظ ثقتنا فيك، ونسبّح اسمك على الدوام ونحمدك على كلّ حال وفي كلّ حال ومن أجل كلّ حال. وإننا نصرخ اليك “يا رب نجنا إننا نهلك” فيا رب امدد يدك ويمنك وانتشلنا فلا نغرق. آمين.