الناصرة ترفض يسوع. لماذا ؟ (لوقا 4: 21-30)
الأب لويس حزبون
يصف لوقا الإنجيلي ان يسوع بدأ رسالته في الجليل بالتبشير في مجمع الناصرة. لكن أهلها رفضوه، وساقوه إلى حَرْفِ الـجَبَلِ لِيُلقوُه عَنه. وهذا الرفض صورة سابقة للرفض الذي قاوم به قسم من اليهود رسالة سيدنا يسوع المسيح بالخلاص. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.
أولا: وقائع نص الإنجيلي (لوقا 4: 21-30)
21فَأَخَذَ يَقولُ لَهم: ((اليوم تَمَّت هذه الآيةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم)).”: كان اليهود يحتفلون بالسبت بقراءة كتب الشريعة والانبياء، تتبعها عظة، وكان يجوز لكل يهودي ان يُلقي الكلام، لكن سلطات المجمع كانت تعهد في ذلك الى المُتضلعين من الكتب المقدسة (اعمال الرسل 13:15). فلا عجب ان نجد يسوع يُفسّر الكتاب المقدس ويطبَّقه على رسالته. وتشير عبارة “اليوم” الى يوم الخلاص الحاضر بحضور يسوع (لوقا 2:11) كما أعلنه النبي. اما عبارة “اليوم تَمَّت هذه الآيةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم” فتشير الى ان HGمجيء هو قدوم عهد النعمة الذي أنبا به النبي اشعيا “روحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَليَّ لِأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنى وأَرسَلَني لِأُبشِّرَ الفقراء وأَجبُرَ مُنكَسِري القُلوب وأُنادِيَ بِإِفْراجٍ عنَ المَسبِيِّين وبتَخلِيَةٍ لِلمَأسورين لِأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرّبّ” (اشعيا 61: 1-2) قد تمّ اليوم به. فجعل يسوع من نص اشعيا ينبوع تعليمه وعمله الخلاصي، وكل هذا بفعل الروح الذي حلّ عليه في العماد. ويعلق القديس كيرلس الكبير على هذه الآية بقوله “نطق المسيح المتجسِّد بهذه الكلمات لأنه إله حق من إله حق، وتجسَّد بدون أن يتغيَّر أي تغيير ومُسِح بدُهن الفرح والابتهاج، ونزل عليه الروح القدس على شكل حمامة. وإننا نعلم أن الملوك والكهنة مُسِحوا في الزمن القديم حتى تقدَّسوا بعض التقديس، أما المسيح فتمّ دهنه بزيت التقديس الروحي، متسلِّمًا هذه المسْحة ليس من أجل نفسه، بل من أجلنا لأنه سبق أن حُرم الناس من الروح القدس، فخيَّمت سحابة الحزن والكآبة على وجّه الأرض.”. نادى يسوع بسَنة مقبولة، هي علامة مجيئه الأول، ورسالة خلاصه.
22وكانوا يَشَهدونَ لَه بِأَجمَعِهِم، ويَعجَبونَ مِن كَلامِ النِّعمَةِ الَّذي يَخرُجُ مِن فَمِه فيَقولون: ((أَما هذا ابنُ يوسُف؟))”: تشير عبارة “كانوا يَشَهدونَ لَه بِأَجمَعِهِم” الى موافقة واستعداد السامعين الطيبة (اعمال الرسل 6: 3). أمَّا عبارة ” كَلامِ النِّعمَةِ” فتشير الى الكلام الذي ينبع من النعمة ويحمل النعمة (اعمال الرسل 14: 3) اما عبارة “يَعجَبونَ” فتشير الى ان تعليم يسوع غير تعليم علماء الشريعة. فهؤلاء يستندون في تعليمهم على اقوال القدماء، اما تعليم يسوع فيستند على الآب السماوي. اما عبارة “أَما هذا ابنُ يوسُف؟” فتشير ان يسوع هومن أبناء الناصرة وعامل مثل سائر العمال، فمن اين له هذه الحكمة؟
23فقالَ لَهم: ((لا شكَّ أَنَّكم تَقولونَ لي هذا المَثَل: يا طَبيبُ اشفِ نَفسَكَ. فاصنَعْ ههُنا في وَطَنِكَ كُلَّ شَيءٍ سَمِعْنا أَنَّه جَرى في كَفَرناحوم)). : تشير عبارة “وَطَنِكَ” الى الناصرة، وطن يسوع حيث عاش يسوع صبيا وشابا وتربّى فيها، لكنه وُلد في بيت لحم. اما عبارة “كَفَرناحوم” فتشير الى مدينة شمال غربي بحيرة طبرية. ومنها إنطلق يسوع من اجل رسالته في الجليل. أما عبارة “يا طَبيبُ اشفِ نَفسَكَ” فتشير الى مَثل مألوف لدى اليهود ويُطلق على جماعة الأطبَّاء والحُكماء، فإذا أصاب طبيبًا مرضًا قالوا له: “أيها الطبيب اشف نفسك”. ومعناه الطبيب الذي يدَّعي قدرته على شفاء المرضى، بينما يُعاني هو نفسه من المرض. فبيّن المسيح لليهود أنهم يطلبون إليه أن يجري أمامهم مختلف المعجزات، خصوصًا وأن بلدته التي تربَّى فيها أحَق من غيرها بهذه القوَّات والعجائب، إلا َّأن المسيح أفهمهم أن المألوف منبوذ. بدليل أنه بعد سماعهم كلمات الحكمة والنعمة التي نطق بها امتهنوه بالقول: أليس هذا ابن يوسف؟
24وأَضاف: ((الحَقَّ أَقولُ لكم: ما مِن نَبِيٍّ يُقبَلُ في وَطنِه”: تشير عبارة “وطن” في اليونانية πατρίς إمّا على أرض الآباء في مجملها (يوحنا 4: 44)، وإما على مسقط الرأس، على المدينة او القرية التي تقيم فيها العائلة، وهذا هو المعنى هنا. اما عبارة “ما مِن نَبِيٍّ يُقبَلُ في وَطنِه” فتشير الى عدم الترحيب بيسوع في وطنه، ونبذه من قبل شعبه (متى 13: 57). وبكلمة أخرى تبيّن هذه الآية ان أهل الناصرة استقبلت يسوع استقبالا سيئاً على مثال الشعب اليهودي ككل الذي حكم عليه في اورشليم. فقد رفض اهل الناصرة يسوع بالرغم من انه ابن بلدهم، لأنهم ظنوا انهم يستطيعون ان يعرفوه دون ان يؤمنوا به (متى 5: 29). فأصبح لهم سبب شك وعثار.
25((وبِحقٍّ أَقولُ لَكم: ((كانَ في إِسرائيلَ كَثيرٌ مِنَ الأَرامِلِ في أَيَّامِ إِيلِيَّا، حينَ احتَبَسَتِ السَّماءُ ثَلاثَ سَنَواتٍ وسِتَّةَ أَشهُر، فأَصَابَتِ الأَرضَ كُلَّها مَجاعَةٌ شديدة،”: تشير عبارة ” إِيلِيَّا ” الى النبي إيليا الذي شفع للشعب بصلاته فكان شخصا شعبيا في التقليد اليهودي (ملاخي 3: 23). اما عبارة “في أَيَّامِ إِيلِيَّا” فتشير الى قصة إيليا حيث يدور الكلام على ثلاث سنوات قحط (1ملوك 18: 1). أما هنا فالمحنة تدوم ثلاثة أشهر إضافية (يعقوب 5: 17). للدلالة على المحنة المسيحانية كما وردت في نبوءة سفر دانيال “يَتَكَلَّمُ بِأَقْوالٍ ضِدَّ العَلِيّ ويَبتَلِي قِدِّيسي العَلِيّ وَينْوي أَن يُغَيِّرَ الأَزمِنَةَ والشَّريعَة وسيُسلَمونَ إِلى يَدِه إِلى زَمانٍ وزمانَينِ ونِصفِ زَمان” (7: 25)
” 26ولَم يُرسَلْ إِيليَّا إِلى واحِدَةٍ مِنهُنَّ، وإِنَّما أُرسِل إِلى أَرمَلَةٍ في صَرْفَتِ صَيدا. 27وكانَ في إِسرائيلَ كَثيرٌ مِنَ البُرْصِ على عَهدِ النَّبِيِّ أَليشاع، فلَم يَبْرأْ واحِدٌ مِنهُم، وإِنَّما بَرِئ نُعمانُ السُّوريّ)).”: تشير هاتان الوقعتان الى انه كما رفض شعب إسرائيل مرسل الله (إيليا واليشاع) فذهب كل منهما الى الوثنيين، هكذا سيكون الامر الى يسوع في حالة رفضه من قبل اليهود (لوقا 10: 13-15). وعليه فان عدم الايمان يُبطل الى حد ما قدرة يسوع على صنع المعجزات (متى 14: 2). والواقع لم يستطع يسوع اجراء المعجزات لعدم ايمان الحاضرين (مرقس 6: 5) ليس هناك علاقة نفسية، كما لو كانت ثقة المريض شرطا لنجاح علاجه. فان لم يكن هناك إيمان، خلت المعجزة من كل معنى ولا يجوز ان يُقال ان هناك معجزة، كثيرا ما يَطلب يسوع الايمان قبل ان يتدخل (مرقس 2: 5) أو يربط بعد المعجزة بين شفاء المريض وإيمانه (مرقس 5: 34 و10: 52).
28فثارَ ثائِرُ جَميعِ الَّذينَ في الـمَجمَع عِندَ سَماعِهِم هذا الكَلام.”: تشير هذه الآية الى أهل الناصرة الذين غضبوا كثيرا، لأنَّ يسوع حكم على موقفهم، وأثنى على موقف الأمم. فقد فضَّل عليهم أهل كفرناحوم وهم من الأميّين غير اليهود. اما عبارة “الـمَجمَع” فتشير الى مكان اجتماع اليهود لقراءة الكتب المقدسة والصلاة والتعليم. في المجمع علّم يسوع ومثله فعل بولس الرسول (اعمال الرسل :13: 15).
29فَقاموا ودَفَعوه إِلى خارِجِ الـمَدينة وساقوه إلى حَرْفِ الـجَبَلِ الَّذي كانَت مَدينتُهم مَبنِيَّةً علَيه لِيُلقوُه عَنه”: تشير عبارة “حَرْفِ الـجَبَلِ” الى جبل القفزة بحسب تقليد صليبي، وهناك تقليد آخر تشير الى المكان بالقرب من الكنيسة المارونية الواقعة في البلد القديمة قرب كنيسة البشارة في الناصرة.
30ولَكِنَّه مَرَّ مِن بَينِهم ومَضى.”: تشير هذه الآية ان يسوع، بقوة شخصيته، جاز في وسطهم لان ساعته لمم تكن قد أتت بعد (يوحنا 7: 30)؛ وساعته هي في اورشليم كما صرّح جليا: “يَجِبُ عَلَيَّ أَن أَسيرَ اليَومَ وغَداً واليومَ الَّذي بَعدَهما لِأَنَّه لا يَنبَغي لِنَبِيٍّ أَن يَهلِكَ في خارِجِ أُورَشَليم.” (لوقا 13: 33). يعلّق القديس كيرلس الكبير على هذه الآية بقوله “المسيح في وسطهم ومضى إلى سبيله، ليس خوفًا من الألم، وإنما لأن ساعته لم تكن قد أتت بعد. كان المسيح في بدء عمله التبشيري، ولا يُعقل أن يترك ميدان العمل قبل نشر كلمة الخلاص والحق.”
ثانياً: تطبيقات نص الإنجيلي (لوقا 4: 21-30)
بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (لوقا 4: 21-30) نستنتج انه يتمحور حول رفض اهل أهل الناصرة ليسوع ابن بلدهم. وهنا نتساءل لماذا الرفض، وهي عواقبه؟
1) لماذا رفض اهل الناصرة يسوع؟
يروي انجيل لوقا أن يسوع بدأ رسالته في الجليل بمدينة الناصرة بلدته الاصلية، وانتهت بحادثة التجلي. فعندما وصل يسوع الى الناصرة التي كان قد نشأ فيها، شرع في التعليم في المجمع بالقوة التي تلقاها عند عماده. وكان يقرأ من اشعيا (61: 1-2) وطبّق النبوءة على نفسه وقد شهد أهل الناصرة لرسالته الفائضة بالنعمة وتفوّقه بكل ما سمعوه منه بأنفسهم في مجمعهم، وما سمعوه أنه صنع في كفرناحوم من معجزات كثيرة في المرضى والموتى والذين بهم مسّ من الشيطان، ومن تحويل الماء الى خمرٍ في قانا الجليل. وبالرغم من كل ذلك رفضوه بسبب الحسد وعدم إيمانهم
الحسد
إن حسد أهل الناصرة ليسوع نابع من أنه مواطن متفوق ومن رسالته العالمية. رفض اهل الناصرة ليسوع لمجرد أنه من موطنهم، فانطبق عليهم المثل “ما مِن نَبِيٍّ يُقبَلُ في وَطنِه “. وقد عبّر اهل الناصرة عن رفضهم بتصريحهم المدهش ” أَما هذا ابنُ يوسُف؟ كان يسوع واحدا من أبناء مدينتهم ونشأ بينهم فكيف تظهر عليه مثل هذه النعمة ويقوم بمثل هذا التعليم؟ كيف يكون “ابن يوسف” هذا الذي يعرفونه جيداً، على هذا المستوى الرفيع من القول والعمل؛ انه ليس أفضل منهم، فهو واحد منهم. وكان يغيظهم أن آخرين يتأثرون به ويتبعونه. لقد رفضوه لأنه كان واحداً نظيرهم. ظنوا أنهم يعرفونه. يوسف هو أبو يسوع، هو النجار (مرقس 6:3) لكنهم تناسوا من هو يوسف، مع انه من نسل داود، وتناسوا من هو يسوع الذي يجري كل المعجزات. توقَّفوا عند الوجه البشري ليسوع، وما استطاعوا ان يتجاوزوه ليروا فيه حامل كلمة الله. فكرتهم المسبقة، جعلت من المستحيل عليهم ان يقبلوا رسالته. وعليه فإنه مطلوب ان لا ندع الآراء المسبقة تعمينا عن الحق، بل ان نجتهد ان نرى يسوع على حقيقته.
ثارت ثائرة الحسد في اهل الناصرة، ولم يمكنهم ان يفهموا ان أحد اهل قريتهم تكون له رسالة من السماء، وان رسالته العالمية مقدّمة ليس فقط ليهود بل للوثنيين أيضا. رفض اهل الناصرة يسوع رفضاً وغضباً حين ذكر يسوع الحالات التي أظهر الله فيها احسانه للأمم غير اليهودية، فامتلأوا غضبا وحاولوا التخلص منه. ان أهل الناصرة غضبوا على يسوع، لان يسوع يقول ان الأمم أي الشعوب الوثنية غير اليهودية يهتمون بأخبار الله السارة أكثر من اليهود، وانَّ خيرات الله لم تكن يوما وقفاً على الشعب اليهودي، بل من أجل جميع شعوب الأرض.
عدم إيمان
يركز لوقا الإنجيلي على رفض اهل الناصرة ليسوع الناصري وعدم الترحيب به لعدم إيمانهم، رفضوا العلاقة التي يريد الله أن يقيمها مع الإنسان من خلال يسوع المسيح ابن بلدهم. وعبّروا عن هذا الرفض بالشك في حضوره تعالى الفعال في مجرى التاريخ فتسالوا “((أَما هذا ابنُ يوسُف؟)). بالرغم من يسوع كان يعلم بكل حكمة وقوة، ولكن أهل الناصرة لم يروا فيه سوى “ابن يوسف”. عرفوا نسبه وسلالته البشرية ويعرفه اهله ويعلموا انه طاف في الجليل وكان يفسّر التوراة بأسلوب جديد مبتكر يختلف عن أسلوب الكتبة وعلاوة على ذلك كان يجترح المعجزات. كانوا يعرفونه معرفة بشرية، ولكنهم لم يتخطوا هذه الظاهرة البشرية ليعرفوا حقيقته انه ابن الله وان آبيه السماوي ارسله لخلاص البشرية.
وقد أعلن أنجيل مرقس سبب رفضهم وهو عدم إيمانهم ” كانَ يَتَعَجَّبُ يسوع مِنْ عَدَمِ إِيمانِهم”(مرقس 6: 6). لم يستطع اهل الناصرة إنكار حكمة يسوع وقوته، لكنهم كانوا في شك في ان مصدرهما كان من الله. والمعنى الضمني هو انه إذا لم يكن ما هو خارق للطبيعة آتيا من الله فلا بد انه صادر عن الشيطان. هذا هو أساس عدم الايمان، انه الإمعان في رفض قبول البيِّنات والاعتراف بوجود الله وقوته في المسيح يسوع.
وجاء يسوع إليهم كنبي، لكنه لم يكن مقبولا كنبي في وطنه (لوقا 4:24). ولم يستطع اهل الناصرة ان يستمعوا لرسالته الخالدة، لأنهم لم يستطيعوا النظر الى ما وراء الانسان. ولم يستطيعوا أن يؤمنوا برسالته. فأشار يسوع الى عدم الإيمان، مثلهم مثل أهل مملكة إسرائيل الشمالية في أيام إيليا واليشاع. ولم يكن يسوع اول نبي يُرفض في وطنه، فقد سبق ان اختبر إرميا رفض اهل وطنه له، بل ورفض أفراد عائلته له (إرميا 12: 5-6). وقد ذكّرهم يسوع بإيليا واليشاع كيف لم يؤمن بهما إلا الارملة في صرفت صيدا، ونعمان السوري الابرص.
ويقوم عدم إيمانهم على عدم الاعتراف بان يسوع هو المسيح (1يوحنا 2: 22-23)، وفي رفضهم تجسد ابن الله وعمله الفدائي وبالتالي نبذ ألوهية المسيح، وعدم الاعتراف بآيات “كلمة” الله” وعدم طاعته. وإن وجود غير مؤمنين في أهل الناصرة شكّل حجر عثرة للمؤمنين. وإبدائهم عدم الإيمان تجاه يسوع المسيح كان لا بدّ أن يسبّب “ألماً ملازماً” في قلب كل مسيحي كما صرّح يوما بولس الرسول “إِنَّ في قَلْبي لَغَمًّا شَديدًا وأَلَمًا مُلازِمًا. (رومة 9: 2).
بما ان اهل الناصرة لم يؤمنوا، لم يصنع يسوع معجزات كثيرة. وليس أمر كعدم الايمان يمنع إظهار قوة الله كما جاء في تصريح مرقس الإنجيلي ” لَم يَستَطِعْ أَن يُجرِيَ هُناكَ شَيْئاً مِنَ المُعجزات” (مرقس 6: 5-6). فالمعجزة ترتبط بالإيمان الذي هو جواب الانسان على مبادرة الله المجّانية. ومع ان الله قادر على كل شيء الا انه في سلطانه لا يعمل معجزة إذا كان الانسان رافضا وثائرا. كان في إمكان يسوع أن يصنع معجزات في الناصرة، لكنه لم يشأ بسبب كبرياء اهلها وعدم إيمانهم بانه من الله ولم يقبلوا رسالته، لذلك توجّه يسوع الى الوثنيين غير اليهود الذين يتجاوبون مع معجزاته ورسالته.
2) ما هي عواقب الرفض؟
يقود عدم الأيمان الى القساوة (اشعيا 6: 9-10) وعُمى الصيرة (اشعيا 42: 19) التي تجعل صاحبها لا يطيق الاستماع الى كلام يسوع (يوحنا 8: 43-44) وبالتالي رفض السيد المسيح. وإن عواقب رفض سيدنا يسوع المسيح هي العقاب والرحمة.
العقاب: نتيجة الرفض عقاب الانسان، ولكن الرحمة تبقى من قِبل الله. إن افتقاد الله في يسوع لم يكن في مجيء يبهر العيون، ومن ثم فإنه قد يُرفَض. ذلك هو الوجه المؤلم لهذا الافتقاد، كما يبرزه الإنجيل “جاءَ إِلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه” (يوحنا 1: 11). إن عدم الاعتراف الآثم هذا، سيحوّل النعمة إلى وعيد بالعقاب. ويل لمن لا يفطنون إلى معرفة “زمن الافتقاد”، ويل لأورشليم ” يُدَمِّرونَكِ وأَبناءَكِ فيكِ، ولا يَترُكونَ فيكِ حَجَراً على حَجَر، لِأَنَّكِ لم تعرِفي وَقتَ افتِقادِ اللهِ لكِ “(لوقا 19: 44)، ويل لمدن البحيرة. إن رفض اليهود هذا، يقدم كخاتمة مأساة لسلسلة طويلة من الرفض ومن عدم الاكتراث المتكرر لافتقاد الرب. إن العقاب سيكون فظيعاً للذين سوف يرفضون الترحيب بابن الملك المرسل من قبل أبيه “ليأخذ ثمار” الكرمة (متى 21: 33-46). إن خراب أورشليم الذي كان نهاية العالم اليهودي (القديم)، هي علامة بيّنة لدينونة الله، سوف يشكل مقدمة منظورة لهذه الدينونة لدى مجيء ابن الانسان في المجد (متى 25: 31-46).
الرحمة: الإنسان الذي لم يعترف بعد بربّه (عاموس 4: 6-11)، فليستعدّ لقبول العقاب النهائي (4: 12)، لأنه حينئذ يتعرّض لخطر قساوة القلب. ولكنّ الله من جهته لا يتمسك برغبة المعاقبة؛ إنه دائماً على استعداد لكي “يتحول” عن قراره، ويغيّر إرادته كما جاء في الكتاب المقدس “فعَدَلَ الرَّبُّ عنِ الإِساءَةِ الَّتي قالَ إِنَّه يُنزِلُها بِشَعبِه”(خروج 32:). إنه يسرّ بأن يرى ” المنافق يَتوبَ عن طرقِه فيَحْيا “(حزقيال 18: 23). فالله لم يرذل شعبه، بل يبقى أميناً على وعوده (رومة 9: 6-29). ولا بد ان تتمَّ السيطرة يوما على عدم الايمان “إذا كنا خائنين، يظل الله وفياً”(2 طيموتاوس 2: 13) ويُظهر للجميع رحمته تعالى غير المحدودة (رومة 11: 1-32). وعلى هذا النحو، فإن الله لا يزال الآن وعلى الدوام يُعرب عن رحمته. إن سلطان يسوع يبدو مقيّد بعدم الإيمان (لوقا 4: 23)، إلا أن عدم الإيمان هذا، قد يغلبه الآب السماوي الذي هو منبع الإيمان، إذ يكشف يسوع سر جاذبية الآب (يوحنا 6: 44). فالآب يخفي سر يسوع عن أعين الحكماء (متى 11: 25-26)، ويكشفه للأطفال الذين يصنعون مشيئته (متى12: 46-50).
خلاصة:
لا يكفي امتيازات اهل الناصرة من مواطنتهم وجوارهم ليسوع فقط ليعرفوه حق المعرفة لا بد من الإيمان به. فموقف أهل الناصرة مع يسوع هو موقفنا بالحقيقة معه في أيامنا الحاضرة. فكثيرون لا يقبلون المسيح في اوساطهم ربا ونبياً. وكثيرون يعتبرونه بشرا سويا فقط. وتعود الأسباب الى حسد وجهل وكبرياء وعمى وكلها تعود الى مصدر واحد هو “عدم ايمان”.
وإنسان اليوم مضطرب وضائع. فهو بحاجة الى معرفة الحق. ومعرفة المسيح هي معرفة الحق (لوقا 4: 22) فإن أردنا عالم اليوم ان يعرف الحق، علينا ان نُريه الحق الذي فينا ووسطنا من خلال اقوالنا واعمالنا. وعالم اليوم بحاجة الى شهادة عمل قبل التعليم. “فمن لا يقدر أن يعلِّم نفسه ويحاول أن يصلح من شأن الآخرين يجد الكثيرون يسخرون منه. بالحري مثل هذا لا يكون له القدرة على التعليم مطلقًا، لأن أعماله تنطق بعكس أقواله” (يوحنا ذهبي الفم).