الوصايا الكبرى
البطريرك بيتسابالا
لطالما أراد الفريسيون إحراج يسوع (متى ٢٢: ١٨ ـ ٣٥). وكانت الوسيلة الأكيدة لإحراجه هي في مجال تفسير الشريعة، الذي كان موضوعاً معقداً.
لقد فُسّرت الشريعة القديمة في سلسلة لا حصر لها من الوصايا الدقيقة التي شملت أصغر التفاصيل. فكانت متاهة يصعب الخروج منها.
لطالما أفضى السؤال حول “الوصية الكبرى” إلى إثارة الجدل: هل لجميع الوصايا القيمة نفسها؟ كيف يمكن فهمها؟ وما هي أهمها؟
لاحقاً، في الفصل ٢٣ من إنجيل متى، يوبّخ يسوع الفريسيين لعدم فهمهم: “الوَيلُ لَكم أيّها الكَتَبَة والفرّيسيّون المراؤون، فإنكم تُؤدونَ عُشْرَ النَعنَع والشُّمرة والكَمّون، بَعدما أهمَلتُم أهمّ ما في الشريعة: العَدل والرَحمة والأمانة. فهذا ما كان يَجبُ أن تَعملوا بِه مِن دون أن تُهمِلوا ذاك. أيّها القادةُ العُميان، يا أيّها الذين يُصفّون الماء من البَعوضة ويَبتلِعون الجَمَل” (متى ٢٣: ٢٣– ٢٤)
في عظة الجبل (متى ٥: ١٧ – ١٩)، تطرّق يسوع مسبقاً إلى هذه المسألة، عندما قال أنه لم يأتِ ليُبطل الشريعة بل ليُكمّلها، بطريقة يُعدّ فيها من خالف أصغر الوصايا صغيراً في ملكوت السموات.
بعد ذلك، تكلّم يسوع عن بعض الوصايا الكبرى، أي الوصايا العشر، التي عدّلها بطريقة ما، إذ أعاد إليها معانيها الأصلية وممارستها اليومية. وعليه، كان يسوع يساعد الناس على فهم أنه من أجل عيش الوصايا، كان لا بد أن يملك المرء قلباً جديداً لا يحترم الوصايا فحسب بل يضطلع بمنطقها العميق: “سَمِعتم أنّه قيل… أما أنا فأقول لكَم” (متى ٢١ – ٤٨). هنالك برّ أعظم (متى ٥: ٢٠) علينا أن نعيشه من الآن وصاعداً. ليس هذا البِرّ مجرد طاعة خارجية بل عطاءً مستمراً للذات.
طرح معلّم الشريعة سؤالاً دقيقاً: “يا مُعلّم، ما هي الوصِيّة الكُبرى في الشريعة؟” (متى ٢٢: ٣٦).
يجيب يسوع بأسلوب أكيد: الوصية الكبرى هي “أَحبِب الرب” (متى ٢٢: ٣٧ – ٣٨، راجع تثنية ٦: ٤). يذهب المسيح إلى أبعد من ذلك: هنالك الوصية الكبرى والأولى: أن تحب الله، والوصية الثانية مثلها: “أَحبِب قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسكَ” (متى ٢٢: ٣٩).
يبدو كما لو أن الوصية الأولى وحدها لا تكفي: إن حب الله لا يُخبرنا الحقيقة الكاملة عن الإنسان. إن من يحب الله وحده لا يملك ملء الحياة. لماذا؟
لأن قلب الإنسان، في الحقيقة، هو واحد وله دعوة واحدة وهي المحبة. فإن كان حبّه جزئياً، حتى ولو كان موجّهاً نحو الله، من دون حبّه لأخيه، فإن حياته أيضاً ستكون جزئية وغير ممتلئة. ذلك لأن المحبة الحقيقية في حد ذاتها لا تستطيع استثناء أحد، وإنما تحتضننا وتوحّدنا جميعاً. وإلا فستكون محبة ذاتية محجوبة.
يُخبرنا يسوع أن الوصية الثانية هي مثل الأولى، لأننا لا نتكلم عن موضوع آخر. فالمحبة واحدة ولا يوجد لها وجهان؛ إن حب الله أمر حقيقي ونبيل وجميل بقدر حب القريب. يأتي حب الله أولاً لأن الله يأتي قبل كل شيء، كما وتنبع مقدرتنا على المحبة منه، كجواب على محبته المجانية. ولكن ليس هنالك ثان من دون أول.
انطلاقا من هاتين الوصيتين فقط، نستطيع أن نفهم ونفسر ونعيش الوصايا الأخرى. لا بل أفضل من ذلك: لا توجد وصايا أخرى. هنالك الوصية الأولى والثانية وضرورة ترجمتها بالأفعال في مجالات الحياة مع كل تعقيداتها، بحيث تتحول الى نهج حياة يتغلب على الانانية وينفتح على الآخرين.
إذاً، الشريعة الوحيدة هي المحبة. لا تقف المحبة بجانب الشريعة كأمر إضافي قادر على التخفيف من حدتها والتقليل من عبئها. لا! لا يوجد أي تعليم آخر غير المحبة. لا يوجد أمر وجب اتباعه غير المحبة.
هنالك أمر أخير يثير الاهتمام: يتطلب حب القريب حباً للنفس (متى ٢٢: ٣٩). هذا يعني أنه باستطاعتنا، نحن الذين غالباً ما نكون أنانيين ولا نفكر إلا بأنفسنا، أن نتخذ من حبنا لأنفسنا مقياساً لحبنا للآخرين.
نحن أمام مفاجأة. لا يطلب منا الرب ألا نحب أنفسنا كي نحبّ الآخرين، بل يطلب منا – نظراً للحب الذي يسكن في قلوبنا – أن نتذكرذلك حينما نقابل أخاً لنا.
وعليه، ستُهدم كل العقبات والجدران الفاصلة وسنتحلّى بالعطف والحنان وسنتعلّم أن نرى الآخرين من نفس منظور رؤيتنا لأنفسنا.
إن يسوع هو أول من قام بذلك: في جسد يسوع يتلاقى الحبّان، حب الله والإنسان، ولا يتعارضان إذ يصبحان سر الحب الواحد والفريد.
+ بييرباتيستا