الوَصِيَّةُ الكُبرى: محبة الله ومثلها محبة القريب (متى 22: 34-40)
الأب لويس حزبون
يُسلط إنجيل هذا الاحد الأضواء على سؤال الثالث الذي طرحه الفرِّيسيّون والصدوقيون اورشليم على السيد المسيح: “ما هي الوَصِيَّةُ الكُبرى في الشَّريعة؟ (متى 22: 34-40)، وذلك ليحرجوه ويضمرون له شراً؛ وهذا السؤال هو اساس الدين المسيحي، ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 22: 34-40)
34بلَغَ الفِرِّيسيِّينَ أَنَّهُ أَفحَمَ الصَّدُّوقِيِّين فَاجتَمَعوا مَعاً”
تشير عبارة “الفِرِّيسيِّينَ” الى حزبٍ يهوديٍ دينيٍ يُشددّ أعضاؤه على الناموس وعلى التقوى الشخصية والدين، وأُطلق عليهم هذا الاسم “فريسيون” عبرية הַפְּרוּשִׁים معناها منفصل أو مفروز او منعزل، لأنهم يُنادون بالفصل بين اليهود والوثنيين وكل من يُشَك في انه يتعامل معهم. وبالتالي فهم في عداء مع الصدوقيين الموالين للوثنيين الرومان. اما عبارة الصَّدُّوقِيِّين “فتشير الى حزبٍ ديني سياسي مُوالٍ للسلطة الرومانية، وهم ينكرون وجود الملائكة والارواح والقيامة، ويخالفون الفريسيين في تفسير شريعة موسى. اما عبارة ” أَفحَمَ ” باليونانية ἐφίμωσεν (حرفيا أبكم) فتشير الى ان يسوع اسكت بالحجة الصدوقيين الذين سألوه عن قيامة الاموات (متى22: 23-33). ويعلق العلامة أوريجانوس “فقد أصيب الصدّوقيّون بالبُكْم كعلامة فشل، لم يجدوا بعد كلمة يُمكنهم أن ينطقوا بها ضدّ الحق”؛ اما عبارة “اجتَمَعوا مَعاً” فتشير الى اتفاق الفريسيين والصدوقيين معاً وبالرغم العداء بينهم ضد يسوع؛ إذ شعروا بمهابة السيِّد المسيح وخشوا أن يلتقوا به فرادى.
35فسأَلَه واحِدٌ مِنهم لِيُحرِجَه: 36 يا مُعلِّم، ما هي الوَصِيَّةُ الكُبرى في الشَّريعة؟
تشير عبارة ” فسأَلَه واحِدٌ مِنهم” باليونانية ἐπηρώτησεν εἷς ἐξ αὐτῶν [νομικὸς] (حرفيا معناها سال واحد من علماء الشريعة) فتشير الى أحد الكتبة الذين ينسخون الشريعة (لوقا 10: 21). اما عبارة “يُحرِجَه” فتشير الى محاولة الايقاع بيسوع ووضعه في مأزق، لان يسوع جعل وصية محبة القريب قبل الطقوس المتعلقة بالله، فيما جعل علماء الشريعة الطقوس والشعائر الدينية في المرتبة الأولى قبل المحبة. فالمحبة أعظم من كل الذبائح، وذلك في خط الأنبياء “أَحسَنتَ يا مُعَلِّم، لقد أَصَبْتَ إِذ قُلتَ: إِنَّه الأَحَد ولَيسَ مِن دونِه آخَر، وأَن يُحِبَّه الإِنسانُ يِكُلِّ قلبِهِ وكُلِّ عَقلِه وكُلِّ قُوَّتِه، وأَن يُحِبَّ قَريبَه حُبَّه لِنَفْسِه، أَفضَلُ مِن كُلِّ مُحرَقَةٍ وذبيحَة” (مرقس 12: 33)، ويُبرهن يسوع على ذلك في مثل السامري الرحيم (لوقا 10: 25-37). اما عبارة “الوَصِيَّةُ الكُبرى” فتشير الى وصايا أدبية ووصايا طقسية (مرقس 12: 33)، بالإضافة الى ذلك قسّم الربِّيون فرائض الناموس الى “ثقيلة” و” خفيفة” بحيث وصلت عدد الوصايا نحو 613 وصية، منها 365 (بحسب عدد ايام السنة) و248 (بحسب عدد عظام الانسان). وهكذا فُرضت الوصايا على المؤمن كل ايام السنة وبكل كيانه وطاقاته. وكان جدال بين الفريسيين والصدوقيين حول أكبر هذه الوصايا وأعظمها. اما عبارة “يا مُعلِّم، ما هي الوَصِيَّةُ الكُبرى في الشَّريعة ” فتشير سؤال طرحه أحد الفريسيين على يسوع المعلم רַבִּי الرابي. لأنهم اختلفوا بذلك فمنهم من قال إنها حفظ السبت ومنهم من قال تقديم الذبائح ومنهم من قال إنها الختان؛ فالمسألة الكبرى التي كانت قائمة بين فِرق الصدُّوقيين والفرِّيسيين هي ” الأمانة للشريعة”. فلقد كان هناك العديد من الواجبات الى جانب الممنوعات التي لا تحصى. فما هي الوصايا الأكثر أهمية من غيرها؟ سألوه لكي يُبين جهله، او لكي يقول رأيا يعارض المعلمين الرابيين الكبار فيخلق العداوة حوله.
37″فقالَ له: أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ
تشير عبارة “أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ” الى جواب يسوع عن سؤال الفرِّيسي مستشهداً بثنية الاشتراع الذي يُشدد على محبة الله ” فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بكُلِّ قَلبكَ كلِّ نَفسِكَ كلِّ قُوَّتكَ “(تثنية 6: 5). وتعبّر هذه الكلمات على محبة الله بجميع الطاقات الحيويَّة جسداً ونفسا؛ وهذه الصلاة هي שְׁמַע (أي اسمع) التي يتلوها اليهود الاتقياء يوميا مرتين في الصباح والمساء. اما في انجيل لوقا فإن الفرِّيسي المحاور هو الذي يُدلي بالجواب ” أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ، وكُلِّ نَفسِكَ، وكُلِّ قُوَّتِكَ، وكُلِّ ذِهِنكَ وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ “(لوقا 10: 27)؛ ويحرص لوقا الانجيلي ان يُظهر هنا كيف ان العهد القديم مهَّد للعهد الجديد. اما عبارة ” بِكُلِّ قَلبِك” فتشير الى تمسُّك المرء في داخله بكمال هذا الحب وأفكاره وأعماله؛ اما عبارة “وكُلِّ نَفْسِكَ” فتشير إلى استعداد المرء أن يبذل نفسَه من أجل الخدمة لله الذي خَلق كلَّ شيء عندما يتطلّب ذلك نشر كلمته؛ اما عبارة “وكُلِّ ذِهِنكَ ” فتشير الى تفكير المرء في المرتبة الأولى في الله والإلهيّات؛ اما عبارة ” أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ ” فتشير الى محبة الله من خلال أفعال عبادة وطاعة كما ورد في التوراة ” إِن سَمِعتُم لِوَصايايَ التي أَنا آمُركم بِها اليَومَ، مُحِبِّينَ الرَّبَّ إلهَكم وعابِدينَه بكُلِّ قُلوبِكم وبِكُلِّ نُفوسِكمَ” (تثنية الاشتراع 11: 13)؛ وتتطلب محبة الله اختيارا جذرياً وتضحية كاملة (تثنية الاشتراع 4: 15-31). وهذا الحب يتجاوب مع حب الله لشعبه ” أَحَبَّ آباءَكَ واختارَ نَسلَهم مِن بَعدِهم وأَخرَجَكَ بحَضرَته وبِقُوَّته العَظيمة مِن مِصرَ” (تثنية الاشتراع 4: 37)، ويتضمن مخافة الله وخدمته وحفظ وصاياه. ووصية المحبة هذه لا ترد صراحة خارج تثنية الاشتراع، ولكن لها مُعادل في سفر الملوك (2ملوك 23/ 25) وفي الاسفار النبوية لا سيما هوشع (6/6) وفي سفر ارميا والمزامير. اما عبارة ” بِكُلِّ” باليونانية ὅλῃ وفي العبرية כָל فتشير الى كُلية الانسان البشري. يجب ان تملآ محبة الله كل كياننا بمعنى لا يجوز ان نحبَّه جزئيا بإعطائه تعالى جزءً من حياتنا ووقتنا.
38 تِلكَ هي الوَصِيَّةُ الكُبرى والأُولى
تشير عبارة ” الوَصِيَّةُ الكُبرى والأُولى” الى الواجب نحو الله، وهو اول واجب على الانسان، فمحبة الله التي هي أسمى المواهب وأكبر الوصايا لان “الله محبة” (1 يوحنا4: 8)، ولان “مَحَبَّةَ اللّه أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحَ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا” (رومة 5: 12)، وهي رباط الذي يوحِّد المؤمنين ويحثهم على المحبة “لأَنَّ مَحبَّةَ المسيحِ تَأخُذُ بِمَجامٍعِ قَلْبِنا” (2 قورنتس 5/14). فما هي المحبة؟ المحبة كلمة مشتقة من اللاتيني Amore وهي عبارة من جزئيين A – Mortis أي لا للموت، لن أدعك تموت. الحب هو ما يُحييك ويجعلك تعيش أفضل مما أنت عليه؛ الله هو الحب، لأنه هو الوحيد القادر أن يقول: “معي لن تموت أبدا” وكما تقول القديسة تريزا للطفل يسوع “الحب قوي، قوي جداً، أقوى من الموت”.
“39والثَّانِيَةُ مِثلُها: أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ”
تشير عبارة “الثَّانِيَةُ” الى الوصية ” أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ” وقد اقتبسها السيد المسيح من سفر الاحبار “أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ” (الاحبار 19: 18)، وهي تُشدِّد على محبة القريب. في العهد القديم اكتملت وصية محبة الله بالوصية الثانية، ولكن لم تعطَ لهذه الوصية الاهمية التي أُعطيت للوصية الاولى (الاحبار 19/1-37). اما عبارة ” مِثلُها” باليونانية ὁμοία(حرفيا شبيهة) فتشير الى التماثل التي لا تدل على شبه في المحبة ولا على نوعية هذه المحبة ولا على التطابق بين الوصيتين، بل على التساوي في الأهمية بين هاتين الوصيتين اللتين لا تنفصلان، كما تدل أيضا على ضرورة إظهار المحبة التي تعني تكريسا مطلقا لصالح الآخرين، كما جاء في تعليم بولس الرسول “فالمَحبَّةُ لا تُنزِلُ بِالقَريبِ شرًّا، فالمَحبَّةُ إِذًا كَمالُ الشَّريعة”(رومة 13: 10). فليست الوصيتان قابلتين للتبادل، كما لو كانت محبة القريب هي محبة الله، والعكس بالعكس لكن يسوع ربط الوصية الثانية بالوصية الأولى ووحَّد بينهما حيث ان محبة القريب هي امتداد لمحبة الله. فقد جاء قوله واضحا: “الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه “(متى 25: 40). يسوع جعل محبة القريب هامة مثل محبة الله. ويقدم محبة القريب كامتدادٍ لمحبة الله وعلامة عن صدق محبتنا لله. وحبُّ الله لا يصحّ الاَّ بحبِّ القريب، وحبُّ القريب لا يصح الا بحبَّ الله؛ ومحبة القريب هو مقياس ايماننا ” إِذا قالَ أَحَد: إِنِّي أُحِبُّ الله، وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه.” (1 يوحنا4: 20). وعليه فان يسوع قد أجاب بطريقة مميزة وفريدة، جامعاً ما بين محبة الله ومحبة القريب، فالربط بين محبة الله ومحبة القريب تضع الانسان ليس امام مجموعة من الأوامر والنواهي الصادرة عن الشريعة، انما امام موقف الانسان بكامله أمام الله نفسه. وفعلًا تتفق إجابة المسيح مع أن الوصايا العشر المقسمين للوحين، الأول يختص بالله والثاني يختص بالإنسان. اما عبارة “أَحبِبْ قريبَكَ ” فتشير الى ان حبَّ القريب التي هي الموهبة العظمى في المواهب كلها كما جاء في تعليم بولس الرسول “أَعظَمَها المَحبَّة” (1 قورنتس13: 13). للمسيحي واجب أساسي: محبة القريب ويوضحه بولس الرسول بقوله ” لا يَكوَننَّ علَيكم لأَحَدٍ دَيْنٌ إلاَّ حُبُّ بَعضِكُم لِبَعْض، فمَن أَحَبَّ غَيرَه أَتَمَّ الشَّريعة ” (رومة 13: 8). إذا كانت محبة القريب تُعد تمام العمل بالشريعة كلها، فلانّ الشريعة لم يكن لها غاية أخرى. “لأَنَّ تمامَ الشَّريعةِ كُلِّها في هذهِ الكَلِمةِ الواحِدة: أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ ” (غلاطية 5: 14). أما الشريعة الانجيلية كلها فموجودة في وصية يسوع الجديدة “أْعطيكم وَصِيَّةً جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً” (يوحنا13: 34) وان نحب بعضنا كما احبنا الله “وصِيَّتي: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً كما أَحبَبتُكم ” (يوحنا 15: 12). اما موقف اللامبالاة او العداء نحو الغير فيُعد إهانة موجّهة لله (تكوين 3: 12، 4: 8). ولا يستطيع المرء ان يُرضي الله بدون احترام سائر البشر وخاصة المنبوذين والمهمشين والفقراء والمساكين وبدون اجراء الحق والعدل كما تُوصي الشريعة (خروج 20: 12-17) وكلام الانبياء (ارميا 22: 15-16). ولم يركز يسوع على النواهي أي عمَّا لا يجب ان نفعله، إنما ركَّز على ما يجب ان نفعله لإظهار محبتنا لله وللآخرين. اما عبارة ” قريبَكَ” فتشير الى ” إنسان مثلي على صورة الله، يليق بي أن أُحبّه كما أُحِب نفسي… يلزمني أن أهتم به كما بجسدي ودمي، وأتعامل معه بالحب واللطف والحنو، غافرًا له أفكاره كما أغفر لنفسي أفكاري، وكما أشتاق إلى العفو من الآخرين عن ضعفي” كما يعلق الأب يوحنا من كرونستادت ؛ أمَّا عبارة “حُبَّكَ لِنَفْسِكَ” فلا تشير الى توصية حب النفس أولا للوصول الى محبة القريب بعدئذ او بالقدر نفسه إنَّما تشير الى انه يجب حبَّ القريب حبا تاما، بكل القلب أي محبة لا حدود لها، وغير مشروطة، تُلزم الانسان كله. وهنا نتذكر القاعدة الذهبية “فكُلُّ ما أَرَدْتُم أَن يَفْعَلَ النَّاسُ لكُم، اِفعَلوهُ أَنتُم لَهم” (متى7: 12). ويوضح بولس الرسول ذلك بقوله ” لأَنَّ تمامَ الشَّريعةِ كُلِّها في هذهِ الكَلِمةِ الواحِدة: أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ ” (غلاطية 5: 14). ويضيف انجيل مرقس على لسان أحد الكتبة الذي حاور يسوع: ((أَحسَنتَ يا مُعَلِّم، لقد أَصَبْتَ إِذ قُلتَ: إِنَّه الأَحَد ولَيسَ مِن دونِه آخَر، وأَن يُحِبَّه الإِنسانُ يِكُلِّ قلبِهِ وكُلِّ عَقلِه وكُلِّ قُوَّتِه، وأَن يُحِبَّ قَريبَه حُبَّه لِنَفْسِه، أَفضَلُ مِن كُلِّ مُحرَقَةٍ وذبيحَة” (مرقس12: 33).
40″بِهاتَينِ الوَصِيَّتَينِ تَرتَبِطُ الشَّريعَةُ كُلُّها والأَنِبياء ”
تشير عبارة ” الشَّريعَةُ ” الى الناموس او التوراة، وهي اسفار موسى الخمسة حيث ان الصدوقيين لم يكونوا يؤمنون إلا بهذه الاسفار لا غير. والشريعة تتناول العبادة والذبائح تجاه الله؛ اما عبارة ” تَرتَبِطُ ” فتشير الى جمع كل الوصايا في هاتين الوصيتين وربطهما ببعض وإعطاء الأهمية نفسها للوصيتين، وهو الأمر الجديد في تعليم السيد المسيح. اما وصية محبة لله ومحبة القريب فهي معروفة من العهد القديم (احبار 19: 18 وتثنية الاشتراع 6: 5). كان في إمكان الربانيين، ان يستشهدوا بكليهما الواحد بعد الآخر، ولكنه من المستبعد ان يولُّوا للثاني ما يولونه للأول من أهمية. اما في نظر سيدنا يسوع المسيح فالله والقريب متقاربان كالشريعة والانبياء. فبحفظ هاتين الوصيتين، يحفظ الانسان سائر الناموس وكلام الانبياء، فهما خلاصة الوصايا، وكل الشرائع الادبية في العهد القديم، لان الوصايا أعطيت لكي تساعدنا ان نحب الله ونحب الآخرين كما ينبغي. وعليه فإنَّ الوصايا العشر يجب أن تشرح في ضوء هذه الوصية المزدوجة الواحدة، وصية المحبة، كما يوضّح القديس بولس الرسول: “ان من أحب القريب قد أتم الناموس. فإِنَّ الوَصايا الَّتي تَقول: ((لا تَزْنِ، لا تَقتُلْ، لا تَسْرِقْ، لا تَشتَهِ)) وسِواها مِنَ الوَصايا، مُجتَمِعةٌ في هذِه الكَلِمَة: أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ. فالمَحبَّةُ لا تُنزِلُ بِالقَريبِ شرًّا، فالمَحبَّةُ إِذًا كَمالُ الشَّريعة” (رومة 13: 9-10). وقد أوضح لنا بولس الرسول طبيعة المحبة وعظمتها (1 قورنتس 13)، وأكَّد لنا ان لا شيء له قيمة بدون محبة الله ومحبة القريب (1قورنتس 13: 4-6) التي تجعل الانسان كاملا في يوم الرب (فيلبي1: 9-11). وقد ركز يسوع المسيح الشريعة كلها في إطار المحبة. وهكذا أعاد يسوع كل شيء الى المحبة، لان الله محبة (1 يوحنا 4: 8). وهذا يدعونا الى نظرة جديدة الى العهد، الى قراءة التوراة كوحدة لا تتجزأ. اما عبارة “الانبياء ” فتشير الى الاسفار التي ندعوها تاريخية ونبوية في اسفار العهد القديم (متى 5: 17)، ويؤمن بها الفريسيون. قد زاد يسوع في جوابه ” الأنبياء” على “الشريعة”. فالأنبياء لا يقدّرون كثيرا الذين لا يتحدّثون الاّ عن الشريعة أي العبادة والذبائح ولا يهتمون بالحق والعدل فهم يتكلمون عن الحق والعدل تجاه القريب. الله والقريب هما اخوان متشابهان كالشريعة والانبياء. فالوصيتان متساويتان في الأهمية وتلخصان كل الوصايا الأخرى في المحبة. ورسالة يسوع مؤسسة على هذه الوصية، وصية المحبة.
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 22: 34-40)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 22: 34-40)، نستنتج انه يتمحور حول أهمية وصية المحبة: محبتنا لله ومحبتنا لنفوسنا ومحبتنا للقريب. ليست وصايا الله حملا ثقيل في عددها او تفصيلها، فقد لخّصها يسوع بوصيتين: محبة الله ومحبة القريب وهما خلاصة الشريعة والانبياء، وهاتان الوصيتان تتلخصان في كلمة واحدة هي “محبة”، أولا نحو الله وثانيا نحو القريب فالمحبة ليست بالمعنى العاطفي، بل كمبدأ فعّال يشمل كل نواحي الشخصية” بِكُلِّ قَلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ” (متى 22: 37). المحبة هي جوهر الانجيل والحياة الانجيلية، ومن هنا نتناول ثلاث نقاط: محبة الله ومحبة القريب، ومحبة الانسان لنفسه:
1) محبة الله: أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ (متى 22: 37)
كشف الله عن نفسه لشعب العهد القديم على انه الوحيد:” اِسمَعْ يا إِسْرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو رَبٌّ واحِد فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بكُلِّ قَلبكَ كلِّ نَفسِكَ كلِّ قُوَّتكَ” (تثنية الاشتراع 6 :4-5). وعن طريق الأنبياء دعا الله جميع الامم الى التوجه نحوه، هو الوحيد كما جاء في نبوءة اشعيا ” تَوجَّهوا إِلَيَّ فتَخلُصوا يا جَميعَ أَقاصي الأَرض فإِنِّي أَنا اللهُ ولَيسَ مِن إِلهٍ آخر” (اشعيا 45: 22-24). ودعا بولس الرسول الله “إِلهَ المَحبَّةِ” (2قورنتس 13: 11).
الله احبنا اولاً بكشف ذاته. والوصايا “الكلمات العشر” تشرح جواب المحبة المطلوب من الانسان تأديته له تعالى. ومن هنا جاء التفسير التطبيقي في التعليم المسيحي الكاثوليكي” ان نحب الله لأجل الله ونحبه فوق كل شيء وبسببه نحب من يحبه الله” (بند 201). يقول القديس العلامة توما الأكويني أن مبعث المحبة، محبة الله ومحبة القريب ومحرّكها الأول إنما هو كمالات الله. نحن نحب الله لأجل كمالاته، ونحب كل ما تتجلَّى فيه كمالاته. وتتجلّى كمالات الله في مخلوقاته، ولاسيما في الإنسان الذي جعله على صورته ومثاله وأقرب المخلوقات إليه تعالى. فعندما نحبّ الله يتوجب علينا أن نحب القريب الذي تظهر فيه كمالات الله”. يجب ان تملأ محبة الله كل كياننا وكل طاقاتنا؛ ولا يجوز ان نحب الله جزئيا بمعنى ان نعطيه جزءاً من حياتنا ووقتنا وهذا ما تعنيه الوصية “أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ”.
ونحن نستطيعُ أن نحبَّه أولا بالصلاة لأنه بادرنا بمحبته، والمحبةُ المطلوبة منا، هي إذن جوابٌ على محبة الله لنا، لذا لنتوجه إليه تعالى بالثقة نفسها التي كان يسوع يُناديه بها: ” أبا” أيها الآب. نحنُ ايضاً نستطيعُ، مثل يسوع، أن نتحدث غالباً إلى الآب طارحينَ حاجاتنا وقراراتنا ومشاريعنا أمامه، من خلالِ الصلاةِ التي هي عبارة عن حوار ومشاركة وعلاقة صداقة عميقة معه؛ بالصلاة نستطيعُ أن نعبِّر عن محبتنا ونسجد لله مُتجاوزينَ حُدود المخلوق، ونُمجِّده هو الحاضر في كل الكون، ونعبدهُ ساكناً في أعماقِ قُلوبنا، أو حياً في بيت القربان، ونفكر به أينما وُجدنا، في البيت أو في المكتب، وحيدين كنا أو مع آخرين.
يُعلمنا يسوع ايضاً سبيلاً آخر لمحبة الله، وهي العمل بإرادته الإلهية حيث يتوجب علينا ان نضع في تصرفهِ فكرنا وقلبنا وطاقاتنا وحياتنا بكليتها؛ أن نحب يعني أن نعمل بمشيئة الشخص المحبوب، بالمقياس الكامل وبكل كياننا: ” بكل قلبك، وبكل روحك، وبكل ذهنك “، والمحبة بنظر يسوع لا تقتصرُ على العاطفة وحسب، فهو يوبّخ من يحب بالكلام فقط ” لِماذا تَدعونَني: يا رَبّ، يا رَبّ! ولا تَعمَلونَ بِمَا أَقول؟ ” (لوقا 6: 46).
وعليه فأننا نعيش وصية المحبة الله بالمحافظة على علاقة بنوّةٍ وصداقةٍ مع الله وخصوصاً بالعمل بما يُريد، حيث ينبغي علينا في هذا المجال ان نهب الله كل شيء، كل قلبنا، كل روحنا، كل ذهننا، ومعنى ذلك أن نقوم بما يطلبهُ منا على أكمل وجه، ونكون على أهبة الاستعداد لَما يُطلب منا في اللحظة الحاضرة حتى نتمكن من القول في كل دقيقةٍ من نهارنا: ” نعم يا رب في تلك اللحظة وفي ذلك العمل، أحببتك من كل قلبي ومن كل ذاتي”.
ويقوم العمل بإرادة الله بتجنب الخطيئة. ويقول القديس افرام السرياني “إنّ محبة الربِّ تنقذنا من الموت، ومحبّة الإنسان تبعدُ عنّا الخطيئة لأنّ ما من أحدٍ يُخطئُ بحقّ من يُحبّه”. وفي هذا الصدد ينص التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية “الخطيئة المميتة تقضي على المحبة في قلب الانسان بتعدٍ كبيرٍ لشريعة الله. وتصرف الانسان عن الله الذي هو غايته القصوى وسعادته بتفضيل خير أدنى عليه”(بند 1855). لنتأمل في محبّة الله، محبّة هذا الحبّ الذي خلق الإنسان ليكون سعيدًا.
2) محبة القريب: أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ
تصدر محبة القريب عن الوصية ” أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ” (متى 22: 39)؛ وهذه الوصية تنبع من وصية محبة الله (متى 22: 37)، وفي هذا الصدد يقول البابا العلامة بندكتس السادس عشر ” الله يحرّك فينا المحبَّة ويفتح حياتنا على الآخر، فلا تعودُ محبّتُنا للقريب وصية مفروضة، إذا جاز التعبير، من الخارج، بل نتيجة نابعة من إيماننا العامل في المحبّة”. وتدل محبة القريب على صدق محبتنا لله ” إِذا قالَ أَحَد: ((إِنِّي أُحِبُّ الله)) وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه” (1 يوحنا 4: 20)؛ إذ لا يمكننا أن نحب الله غير المنظور خارج حبّنا لإخوتنا المنظورين. فالفصل بين هاتين الوصيتين بات مُستحيلاً لمن يريد إتباع يسوع، تماماً كما يستحيل فصل الشجرة عن جُذورها، فكلما زادت محبتا، زادت محبتنا لإخوتنا، وكلما أحبننا إخوتنا تعمَّقت فينا محبة الله. فلا عجب ان وجعل بولس الرسول محبة القريب الموهبة العظمى في المواهب كلها “أَعظَمَها المَحبَّة” (1قورنتس 12: 13).
والقريب في ضوء الكتاب المقدس هو مخلوق على صورة الله ومفتدى بدم المسيح وابن الله ومدعو للتبني الالهي (1 يوحنا 4: 20). فتظهر محبة القريب متجسِّدة في محبة المسيح على الصليب فهي محبة مجانية شاملة لكل طبقة او جنس او لون او عرق او مذهب وبدون تمييز اجتماعي او عنصري “لَيسَ هُناكَ يَهودِيٌّ ولا يونانِيّ، ولَيسَ هُناكَ عَبْدٌ أَو حُرّ، ولَيسَ هُناكَ ذَكَرٌ وأُنْثى” (غلاطية 3: 28).
واما مميزات وصية محبة القريب فإنها وصية كمحبة الانسان لنفسه، وصية جديدة، ومحبة شاملة ومحبة تصفح ومحبة تهب ذاتها ومحبة في هي خدمة للجميع:
ومحبة الانسان لقريبة يجب ان يحبه حبّه لنفسه أي نحبه بلا حدود لها. وعليه فان محبة القريب ليس شفقة عليه او تنازل إنما نابعة من العدالة والتضامن، وتتضمن حبا غير مشروط يُلزم الانسان كله. هنا نتذكر القاعدة الذهبية ” فكُلُّ ما أَرَدْتُم أَن يَفْعَلَ النَّاسُ لكُم، اِفعَلوهُ أَنتُم لَهم: هذِه هيَ الشَّريعَةُ والأَنبِياء” (متى 7: 12). فهناك للمسيحي واجب اساسي أهم: محبة القريب كما جاء في تعليم بولس الرسول “لا يَكوَننَّ علَيكم لأَحَدٍ دَيْنٌ إلاَّ حُبُّ بَعضِكُم لِبَعْض، فمَن أَحَبَّ غَيرَه أَتَمَّ الشَّريعة” (رومة 13: 8).
فقد جعل يسوع من محبة القريب وصية جديدة ” أُعْطيكم وَصِيَّةً جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً” (يوحنا 13: 34)؛ انها جديدة لان يسوع جعل هذه الوصية شرطا جوهريا لدخول في الجماعة المسيحية الاخيرية، وهي جديدة أيضا بقدر ما تقتضي تواضعا ورغبةً في الخدمة يحملان على اختيار المكان الأخير وعلى الموت في سبيل الآخرين. وان الحياة في المحبة الأخوية هي الدليل المثالي على حضور محبة الله في حياة الناس” إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي “(يوحنا 13: 35).
وهذه المحبة هي محبة شاملة لا تزدري أحد “إِذا أَقَمتَ مَأَدُبَة فادعُ الفُقَراءَ والكُسْحانَ والعُرْجانَ والعُمْيان” (لوقا 14/ 13) بل أكثر من ذلك فهي تطالب بمحبة الأعداء “أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم” (متى 5/43-47). والله ينهانا عن بغضهم والانتقام منهم والحكم عليهم فنحن لا نحب الشر فيهم بل الانسان.
ولا تعرف محبة القريب اليأس فهي تتميّز بالصفح والغفران بدون حدود كما قال يسوع لبطرس “لا أَقولُ لكَ: سَبعَ مرَّات، بل سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات عليك ان تغفر لأخيك” (متى 18/21-22) كما تتميز بالمبادرة الطيبة نحو الخصم كما يأمر الرب: “سارعْ إِلى إِرضاءِ خَصمِكَ ما دُمْتَ معَه في الطَّريق” متى 5/25)؛ وتتميز ايضا بالصبر وبمقابلة الشر بالخير كما يوصي القديس بولس الرسول “بارِكوا مُضطَهِديكم، بارِكوا ولا تَلعَنوا … لا تُبادِلوا أَحَدًا شَرًّا بِشَرّ … إِذا جاعَ عَدُوُّكَ فأَطعِمْهُ، وإِذا عَطِشَ فاسقِه” (رومة 12/14-21) . ولا ننسى ان الله سبحانه تعالى يعالمنا كما نحن نعامل قريبنا ” فإِن تَغفِروا لِلنَّاسِ زلاتِهِم يَغْفِرْ لكُم أَبوكُمُ السَّماوِيّ 15 وإِن لَم تَغفِروا لِلنَّاس لا يَغْفِرْ لكُم أَبوكُم زلاَّتِكُم ” (متى 6: 14-15).
اما في العائلة تتخذ المحبة شكل الهبة الكاملة على مثال ذبيحة المسيح “أَيَّها الرِّجال، أَحِبُّوا نِساءَكم كما أَحَبَّ المسيحُ الكَنيسة وجادَ بِنَفسِه مِن أَجْلِها” (أفسس 5: 25-32)
واخيرا المحبة هي خدمة متبادلة للجميع كما جاء في رسالة بولس “بِفَضلِ المَحَبَّةِ اخدِموا بَعضُكم بَعضًا، لأَنَّ تمامَ الشَّريعةِ كُلِّها في هذهِ الكَلِمةِ الواحِدة: ((أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ)). (غلاطية: 5 13-14)، وهذه المحبة تتطلب انكار المرء ذاته مع المسيح المصلوب كما كان لسان حال بولس الرسول” مِن أَجْلِ المسيح خَسِرتُ كُلَّ شَيء وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفايَة لأَربَحَ المسيحَ”(فيلبي 3: 1-11). فهي خاضعة لقانون التضحية والموت وذلك بان نضحي في سبيل مساعدة القريب على خلاص نفسه وتحسين حالته “وإِنَّما عَرَفْنا المَحبَّة بِأَنَّ ذاكَ قد بَذَلَ نفْسَه في سَبيلنِا. فعلَينا نَحنُ أَيضًا أَن نَبذُلَ نُفوسَنا في سَبيلِ إِخوَتِنا (1 يوحنا 3/16). فلا عدالة وتضامن لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصاد والسياسة التي يتخبط بها مجتمعنا بدون محبة. ولا محبة دون تضامن وعدالة. ان جعلنا المحبة شفقة على الناس وتنازلا شوهنا المحبة التي تشمل على العدالة والتضامن.
فما هو المطلوب من إنسان اليوم؟ المطلوب من الانسان اليوم هو أن يحب الرحمة ويُحيي العدل ويسلك متواضعاً أمام الله، وبكلمة تتلخص كل فلسفة الحياة المسيحية بعبارة القديس أوغسطينوس “أحب وافعل ما تشاء”. وهذا هو صلب العقيدة المسيحية ان حب الله وحب القريب وصيتان مترابطتان، حبُّ الله لا يصحُّ إلا بحبِّ القريب، وحبُّ القريب لا يصحُّ إلا بحبِّ الله، لذلك قال القديس يوحنا الرسول “إذا قالَ أَحَد: ((إِنِّي أُحِبُّ الله)) وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه” (1 يوحنا 4: 20). ويعلق العلامة أوغسطينوس قائلا “إذا كنت تريد أن تعرف إذا كان فيك روح الله، فاسأل قلبك. فإذا كنت تحب أخاك فكن في اطمئنان، لأنه لا محبة حقيقية إذا لم تتوطّد في الله”. لنتأمّل في محبّة الآخرين، الذين يعطون ذواتهم مجانًا، الذين أعطوني وسيعطونني.
3) محبة الانسان لنفسه:
العدل يقضي ان يبدأ الانسان بمحبة نفسه. ولم يكن هناك بحاجة وصية صريحة بذلك، لانَّ الانسان مطبوع على محبته لذاته، لكن السيد المسيح رفع هذه المحبة الى المستوى الروحي. فالنفس تكرست لله بإقامته فيها كما جاء في تعليم يسوع المسيح “إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً”(يوحنا 14/23)، والجسد أصبح هيكلا للروح القدس (1 قورنتس 3: 16)؛ لذلك على الانسان ان يُحبَّ الله أكثر من نفسه، إذ انه مصدرها ولا قيمة للنفس إزاء قيمة الله.
ولكن عليه ان يحب نفسه أكثر مما يحب قريبة، فيهتم بتقديسها لان محبته لنفسه هي الاساس الذي تبنى عليه محبة القريب. ولان الله يطلب منه ان يخلص نفسه “ماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟ ” (متى 16: 26).
ومحبة الانسان لذاته هي طلب الخير الحقيقي المفيد لنفسه وجسده واجتناب ما يضرهما. ان الانسان هو هيكل الله وروح الله يسكن فيه كما يقول القديس بولس “أَما تَعلَمونَ أَنَّكُم هَيكَلُ الله، وأَنَّ رُوحَ اللهِ حالٌّ فيكم؟ مَن هَدَمَ هَيكَلَ اللهِ هَدَمَه الله، لأَنَّ هَيكَلَ اللهِ مُقدَّس، وهذا الهَيكَلُ هو أَنتُم” (1 قورنتس3: 16-17)، فلنحافظ على أجسادنا لأجل خير نفوسنا، ولنحافظ على نفوسنا لأجل خير حياتنا الابدية، ولنحافظ على الحياة الابدية لأجل مجد لله غايتنا وسعادتنا. ويصف بولس الرسول هذه السعادة هكذا يقول القديس بولس مستوحياً من إشعيا: ” ما لم تَرَهُ عَيْنٌ ولا سَمِعَت بِه أُذُنٌ ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَر، ذلكً ما أَعدَّه اللهُ لِلَّذينَ يُحِبُّونَه” (1 قورنتس 2: 9). لنتأمل في محبّتي لنفسي، الوقت الذي أخصّصه مع ذاتي، لأنمو وأحيا أكثر.
وفي هذا الصدد يتساءل البابا فرنسيس “ما هي شريعة شعب الله؟ إنها شريعة المحبة، محبة الله ومحبة القريب وفقًا للوصية الجديدة التي تركها لنا الرب (يوحنا 13: 34). ولكن المحبة ليست بمثابة عاطفة عقيمة، أو شيء مبهم، بل هي التعرف على الله كالرب الوحيد لحياتنا، وفي ذات الوقت، قبول الأخر كأخ حقيقي، بتخطي الانقسامات، والمنافسات، وسوء الفهم، والأنانية”.
خلاصة:
يجيب سيدنا يسوع المسيح على سؤال من أسئلة الربانيين وهو “ما هي الوَصِيَّةُ الكُبرى في الشَّريعة؟”. وبيَّن لهم ان الدين علاقة حب، إذا كنا حقيقة نحب الله ونفوسنا وقريبنا، فإننا نحفظ الوصايا. حفظ الوصايا علامة لمحبة للمسيح ” إذا كُنتُم تُحِبُّوني، حَفِظتُم وَصاياي” (يوحنا 14/15). فالوصايا العشر تعلن مطالب محبة الله والقريب. الثلاث الاولى تتعلق أكثر بمحبة الله، والسبع الاخرى تتعلق بمحبة القريب، وكلها يجب ان تشرح بنظرة ايجابية أي في ضوء الوصية المزدوجة الواحدة، وصية المحبة. وفي هذا الصدد كتب الكاتب الروسي تولستوي الى غاندي قائلا “هذه الشريعة أعلنها حكماءُ الكون جميعًا، رومانًا كانوا أم إغريقًا أم يهودًا أم صينيين أم هندوسيا. وأعتقد أن أجلى صياغة لهذه الشريعة جاء بها المسيح، الذي أكد حتى إنها تلخِّص الناموس والأنبياء”.
يجب ان نركز على كل ما نستطيع ان نفعله لإظهار محبتنا لله وللآخرين بدلا من القلق عما لا يجب ان نفعله، هذه الوصية واحدة تتخذ وجهتين: الله والقريب حيث لا حب من دون الآخر. إذ كل من يحب الله، يجب أن يحبّ إخوانه في الإنسانية أيضاً، لأن محبة الإنسان لله تُترجم بمحبته لإخوانه بني البشر، وبدون محبتنا بعضنا لبعض كما أوصانا الله، تكون محبتنا ناقصة وإيماننا غير كامل. ويؤكد الكتاب المقدس ذلك بقوله ” أَيُّها الأحِبَّاء، فلْيُحِبَّ بَعضُنا بَعضًا لأَنَّ المَحَبَّةَ مِنَ الله وكُلَّ مُحِبٍّ مَولودٌ لله وعارفٌ بِالله، مَن لا يُحِبّ لم يَعرِفِ الله لأَنَّ اللّهَ مَحبَّة”(1يوحنا 4: 7). تقوم محبتنا بالمحافظة التامة على الوصايا (يوحنا 14: 15، 21، 23). وإِلهُ المَحبَّةِ والسَّلامِ يَكونُ معَكُم.
نجد ان الناس في أيامنا يشدّدون على المحبة للناس او الاحسان إليهم ولكنهم ينسون واجب المحبة لله. والرب يربط الاثنين في الأهمية، فعمل الخير لا يعتبر بديلا للديانة، بل يجب ان يصدر عنها. فالحياة تتكوّن من الممارسة لأعمال المحبة. يدعونا يسوع الى ان نحب الله وإخوتنا. فبحفظ الانسان هاتين الوصيتين يحفظ الانسان عشر الوصايا، فهما خلاصة الوصايا العشر وكل الشرائع الأدبية في العهد القديم.
الدعاء
أيها الآب السماوي، انت الذي تدعونا من خلال ابنك يسوع المسيح، أن نحبَّك ونحبَّ إخوتنا بكل قلوبنا ونفوسنا، وبكل ذهننا وطاقاتنا. هبنا النعمة ان نحبَّ الآخرين كما احببتنا لنكون امثلة حيّة لمحبتك لنا. وأجعلنا يا رب ان نختارك كمثالٍ أوحدٍ في حياتنا، ونضعك في المرتبة الأولى بعيشنا إرادتك بشكل كامل، في اللحظة الحاضرة، ليتسنى لنا أن نقول لك بصدق: ” انت إلهي وكل شيء لي”، ” احبك”، ” كلي لك”، ” انت إلهي، وأنت إلهنا، إله المحبة اللامتناهية، وإذا لم أكن أحبّك، أنت ربّي وإلهي، فمن تراني أحبّ؟ أمين.