“ربّ المجد” مصلوب مطعون
الأب بيتر مدروس
(زكريا 12: 10 – 11، غلاطية 3: 26-27، لوقا 9: 18- 24)
يبدو هذا العنوان كفرًا للعقليّة اليهودية والإسلاميّة. لذا يحتاج إلى توضيح. ينطلق من سفر زكريا، أحد الأنبياء “الصغار”: الرب يهوه يتكلّم: “ينظرون إليّ أنا الذي طعنوا” أو حرفيًّا “إليّ الذي طعنوا”. وأدرك القدّيس يوحنا الإنجيلي أنّ كلمات العزّة الإلهية تمّت في يسوع الناصري المصلوب الذي طعنته حربة الجندي الروماني. وفي “التفات” مثير ينتقل النبي إلى صيغة الغائب ليطلب أن “يبكوه كما يبكى البكر ويناح عليه كما يناح على الابن الوحيد”.
لا تكفر المسيحيّة عندما تقول هذا الكلام كلّه لأنّ الألم والموت من شؤون الطبيعة البشرية في المسيح لا الطبيعة الإلهية، وإن كان بولس الرسول يؤكّد وحدة الطبيعتين في آية بليغة هي “لو عرفوا لما صلبوا رب المجد” ( 1 قور 2: 8). وقصده أنّ المسيح واحد في طبيعتيه بحيث ينسب إلى الواحدة (أي الإلهيّة) ما حدث للبشريّة (أي الصلب). وهذا دحض للبدع التي فصلت كيانيًّا بين “كلمة الله” و “المسيح الإنسان”، وأنفت أن يتجسّد الكلمة من سيّدة عذراء ، وفرضت أن “روح القدس” أمّه (و “روح” في العبرية والآرامية مؤنّثة). بهذا المعنى يفهم قوم النص القرآني: “يا “عيسى” …أأنت قلت للناس اتّخذوني وأمّي إلهين من دون الله؟”
معنويّاً نطعن الله بخطايانا خصوصًا آثام الخيانة! وما أكثرها وما أعمقها جرحًا في جسد المسيح!
“أنتم الذين بالمسيح اعتمدوا، المسيح قد لبستم” (غلاطية 3: 26 ت)
تزيل المعمودية الفرق الذي أوجده الختان بين ذكر وأنثى، وبين يهودي ووثني أممي. وتحلّ المعمودية محلّ الختان شاملة الكلّ من غير تمييز، وقد منحها الرسل والتلاميذ الأوّلون الصغار والكبار، لأنها “ميلاد جديد” (يوحنا 3، أعمال 3، ثم 10 ثم 16 ثم 18). وهذه الحرية الروحانية من الخطيئة قادت المسيحية إلى القضاء على العبودية. وفعلاً، لا عبودية في أي بلد مسيحي في أيامنا. ولا يمّيز شرع الزواج المسيحي بين “الحرائر” أي بنات الأحرار الحرّات وملكات اليمين أي الجواري أو السبايا.
أمّا قول مار بولس هنا “جميعنا أبناء الله” – الذي ردّده مؤخرًا قداسة البابا فرنسيس وهو يشكو الحروب الدينية عبر التاريخ،- فهو تعبير لا يقبله اليهود. العبرانيون يعترفون (بخلاف نصوص تلمودية مهينة) بأنّ كلّ البشر – حتى الوثنيين – “خُلقوا على صورة الله” ولكن كعبيد وعباد، في حين أنّهم هم وحدهم أي اليهود “أبناء الله” ، ولهم وحدهم يحق أن يخاطبوا الله بقولهم “أبانا الذي في السماوات”. أتى يسوع وعمّم هذه الأبوّة الإلهيّة والبنوّة الإنسانيّة والعالم العبري يغلي غيظًا. أمّا العالم الإسلامي فيرفض فكرة “أبناء الله” وعن المسيح “ابن الله” لربطه الأبوّة والبنوّة بالتناسل الطبيعي الجسدي. وترفض المسيحيّة أبوّة جسديّة لله.
“انت مسيح الله” (لوقا 9: 18-24)
ما إن اعترف الرسل وعلى رأسهم بطرس بمشيحانيّة يسوع، حتى راح المعلّم الإلهي ينذر بآلامه. ويأسف المرء أن يجد بين المفسرين حتى الشرقيين نفرًا يرون أن نبوات يسوع عن آلامه “زيدت لاحقًا”. لا ! فكلّ هذه النصوص واردة في أقدم المخطوطات. ومعنويا منطقيا كتابيا بيبليا كان ضروريا للمسيح أن يبيّن آلامه لئلاّ تنهار عزائم رسله، وتتميما للنبوات. وقال أحد المفكّرين، من غير سند ولا دليل: ” يسوع ما كان يعرف بأية طريقة سيموت ولكنه لذكائه كان يشعر بدسائس خصومه وائتمارهم به”. يا سلام! يسوع الذي يعرف كلّ شيء لا يعرف بأية طريقة سيموت! قطعًا كان يسوع يعلم والعذراء كانت تتوقّع، منذ كان يسوع طفلاً بين يدي سمعان الشيخ! قرأ يسوع المزامير ولا سيّما الثاني والعشرين واستشهد به وهو على الصليب، ليدلّ أنّ مضمون هذا المزمور يتمّ فيه عن ثقب يديه ورجليه واقتسام ثيابه والاقتراع على ردائه و”تعليقه”، فأعلن مرارًا عن “ارتفاعه عن الأرض جاذبًا إليه الكلّ” (يوحنا 12 : 32). وقرأ يسوع مليًّا أشعيا 53…
كان ضروريًّا أن ينبه يسوع تلاميذه ويحذّرهم ويدرّبهم على “طريق الصليب الملوكية” ويقضي على العقلية الإمبريالية الاستعمارية الاستيطانية المشيحانية العبرية الشعبوية، المبنيّة على السيطرة والنفوذ والعنجهية والنرجسية القومية والعنصرية الفوقية (المتمثلة في الختان) والسيادة المبنية على القوة العسكرية وقوافل الحريم وأكياس الذهب والفضة وغياهب السياسة وخدع الدبلوماسية والحروب.
خاتمة
“أنت المسيح” ونحن مسيحيّون نحمل اسمك وصليبك.