عظة الأحد الثاني للفصح (ج)

الأب لويس حزبون

في الاحد الثاني للفصح يصف يوحنا الانجيلي ظهور يسوع للتلاميذ ولتوما الرسول (يوحنا 20: 19-31) لحثِّ قرائه على الايمان بالمسيح القائم حتى وان كانوا بين أولئك الذين “لم يروا”. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع نص ظهور المسيح وميزات ظهوره.
اولا: وقائع النص الانجيلي (يوحنا 20: 1-9)
19 “وفي مَساءِ ذلك اليَومِ، يومِ الأحد، كانَ التَّلاميذُ في دارٍ أُغْلِقَتْ أَبوابُها خَوفاً مِنَ اليَهود، فجاءَ يسوعُ ووَقَفَ بَينَهم وقالَ لَهم: السَّلامُ علَيكم!”: تشير عبارة “يوم الاحد” الى شعور التلاميذ المجتمعين أنَّ يسوع حاضراً في مساء يوم الاحد. وذكر يوحنا اجتماع الاحد مرتين؛ هكذا كان يجتمع المؤمنون وما زالوا. اما عبارة “فجاءَ يسوعُ” فتشير الى مجيء المسيح القائم من الموت المتكرر بين خاصته (يوحنا 14: 3، 16: 16، 1: 9). أمَّا عبارة “أُغْلِقَتْ أَبوابُها” فتشير الى ان جسد المسيح لم يُعد خاضعاً لنفس قوانين الطبيعة كما كان قبل موته، فكان يخترق الجدران والحواجز (يوحنا 20: 26). وهو غير مقيّد بحدود الزمان والمكان، وغير مقيّد بالحاجات الماديّة والبيولوجيّة، ولا بقوانين الطبيعة كالجاذبيّة الأرضيّة؛ بل أصبح ممكناً له الدخول، والأبواب مغلقة. إلاَّ أنه لم يكن شبحاً او خيالاً بل جسماً روحياً كما دعاه بولس الرسول (1 قورنتس 15: 44). وهذه الأبواب المغلقة ستُفتح يوم العنصرة بحلول الروح القدس؛ وبكلمة أخرى يؤكد يسوع المسيح حضورَه في كلّ مكان، حضورًا غير خاضع لشريعة المكان والزمان؛ أما عبارة “خَوفاً مِنَ اليَهود” فتشير الى ملاحقة اليهود للتلاميذ كما لاحقوا يسوع قبلاً؛ اما عبارة “جاءَ يسوعُ” فتشير الى ان المسيح القائم من الموت لا يتردد بالمجيء بين خاصته والرجوع إليهم ليقودهم ويرافقهم كما يرافق الراعي خرافه (يوحنا 14/3-18)، هو يبادر فيأتي اولاً الينا، ونحن نذهب الى لقائه، ومجيئه يملأ القلوب تعزية وشجاعة؛ أما فعل “وقف” فمعناه الرمزي وقفة القيامة. وأما عبارة “السَّلامُ علَيكم!” فتشير الى إتمام وعُود يسوع في كلامه الأخير “سَلامي أُعْطيكم” (يوحنا 14: 27). وهي تحية سلام يحتاجون اليه بعد خوف يوم الجمعة العظيمة.
20 “قالَ ذلك، وأَراهم يَدَيهِ وجَنبَه ففَرِحَ التَّلاميذُ لِمُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ”: يُشدِّد يوحنا الإنجيلي في عبارة “أَراهم يَدَيهِ وجَنبَه” على الصلة القائمة بين يسوع الذي تألم، يسوع الناصري التاريخي، ويسوع القائم من بين الاموات – يسوع الايمان الذي معهم للابد. وفي هذا الصدد صرّح صاحب الرسالة الى العبرانيين “قَدِ ابتُلِيَ هو نَفسُه بِالآلام، فهو قادِرٌ على إِغاثَةِ المُبتَلَين” (عبرانيين 2/18)؛ اما عبارة: مُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ” فتشير الى أنَّ لقاء المسيح القائم من الموت هو مصدر الفرح للتلاميذ كتتميم لوعده “لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامّاً” (يوحنا 15: 11). وقد سبق أن كلّمهم يسوع عن هذا الفرح في العشاء الأخير: ” سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم” (يوحنا 16: 22).
21 “فقالَ لَهم ثانِيَةً: السَّلامُ علَيكم! كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً”: يسوع يرسل تلاميذه الى العالم. فتشير عبارة “إ السَّلامُ علَيكم ” الى السلام الذي يجلبه يسوع لتلاميذه كثمرة قيامته؛ هذا السلام الذي قد وعدهم به والذي يبدّد كل اضطراب أحدثه رحيله عنهم، هو سلام إبن الله المنتصر على العالم والموت، إنه السلام الذي لا يستطيع العالم أن يمنحه. اما عبارة “كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً” الى ان رسالة التلاميذ قد نشأت عن حدث الفصح، وهي رسالة متأصلة في رسالة يسوع كما يظهر في صلاته الكهنوتية: “كَمَا أَرسَلَتني إِلى العالَم فكَذلِكَ أَنا أَرسَلتُهم إِلى العالَم” (يوحنا 17: 18). فيسوع يُخبر تلاميذه باي سلطان قد أتمَّ عمله، ويُوكل إليهم نشر خبر الخلاص في كل العالم.
22 “قالَ هذا ونَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: خُذوا الرُّوحَ القُدُس”: يُشير فعل “نَفَخَ فيهم” في اللغة اليونانية ” ἐνεφύσησεν الى خلق الانسان في البدء (تكوين 2/7)، ويُوحي بخلق جديد، أمام قيامة حقيقية (رومة 4/17). كما نفخ الرب الحياة في الخلق الاول، هكذا ينفخ في الخلق الثاني أي القيامة. كما في الخلق الاول نفخ الله في الانسان نسمة الحياة، هكذا بنفخة نسمة المسيح ينال الانسان من الله الحياة الابدية. واما عبارة “خُذوا الرُّوحَ القُدُس” فتشير الى ان الروح القدس قوة الخلاص لغفران الخطايا والذي يمكّن التلاميذ من ان يشهدوا للمسيح: “مَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي وأَنتُم أَيضاً تَشهَدون لأَنَّكُم مَعي مُنذُ البَدْء” (يوحنا 15: 26-27). وكان هذا امتلاءً خاصاً من الروح القدس للتلاميذ كعربون لِمَا سيختبره المؤمنين في يوم العنصرة (اعمال الرسل 2).
23 “مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم”: ان الاختلاف في تفسير هذه الآية لا يدور حول طبيعة السلطان الذي يمنحه يسوع لتلاميذه (متى 16/19) بقدر ما يدور حول تحديد الذين يمارسون هذه السلطان. فالسلطة الممنوحة هي اعلان المغفرة على اساس موت المسيح الذي حمل الخطايا. اما فيما يتعلق فيمن يمارسون هذه السلطة فالتقليد الكاثوليكي يعتقد ان المقصود هم الكهنة. وقد مُنحوا السلطة بفضل شركتهم الوثيقة معه ان يتصرفوا باسمه، كوكلاء في غفران الخطايا او امساكها اي منحهم السلطان الكهنوتي لمغفرة الخطايا؛ واما التقليد البروتستانتي فيعتقد بان المقصود “الذي هو أداة الروح القدس”. بحسب ما جاء في قول بطرس الرسول “بِأَنَّ كُلَّ مَن آمَنَ بِمسيح يَنالُ بِاسمِه غُفرانَ الخَطايا” (اعمال الرسل 10: 43).
24 “على أَنَّ توما أَحَدَ الاثَنْي عَشَر، ويُقالُ له التَّوأَم، لم يَكُنْ مَعَهم حِينَ جاءَ يسوع”. : تشير عبارة “توما” الى اسم آرامي ومعناه “توأم”، وهو أحد الاثني عشر رسولاً (متى 10: 3)؛ وقد قام توما بدور على جانب من الأهمية في انجيل يوحنا؛ فحباً بيسوع كان مستعدا للذهاب معه حتى الموت (يوحنا 11: 16). ويعتقد أنَّ الرسول توما بشَّر في الهند، ومات هناك شهيداً.
25 “فقالَ لَه سائِرُ التَّلاميذ: رأَينا الرَّبّ. فقالَ لَهم: إِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه، لن أُومِن”: رفض توما تصديق أقوال الآخرين عن رؤيتهم للمسيح، رفض أنْ يثق بشهادةِ الجماعة الرسوليّة. إنه يطلبُ بُرهاناً خاصّاً به. ويريد أن يختبرَ بنفسه ويطلب أن يرى ويلمس. إنّه يطلب دليلا على ذلك. وهو يُمثل جميع الذين شكَّوا ويشكُّون بقيامة يسوع، ويريدون ان يروا ويلمسوا كي يؤمنوا. توما شكَّ وما آمن قبل ان يرى. ويقول أوغسطينوس ان “توما شكَّ على انه لا يجب ان نشكَّ نحن”. الواقع يحتاج البعض الى الشك قبل ان يؤمنوا. فان أدَّى الشك الى سؤال، والسؤال الى جواب، وكان الجواب مقبولا، فالشك يعمّق الايمان. اما إذا أصبح الشك عناداً وصار العناد اسلوب حياة، فالشك هنا يضر بالإيمان.
26 “وبَعدَ ثَمانِيةِ أَيَّامٍ كانَ التَّلاميذُ في البَيتِ مَرَّةً أُخْرى، وكانَ توما معَهم. فجاءَ يسوعُ والأبوابُ مُغلَقَة، فوَقَفَ بَينَهم وقال: السَّلامُ علَيكم!”: تشير عبارة ” ثَمانِيةِ أَيَّامٍ” ان التلاميذ عاشوا القيامة اسبوعا كاملا، فهي بداية جديدة بعد سبعة ايام. وعليه فإنه يجب ان لا يبقى لديهم أي مجال للشك.
27 “ثُمَّ قالَ لِتوما: هَاتِ إِصبَعَكَ إِلى هُنا فَانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي، ولا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِناً”: وقف يسوع أمام توما، وكشف له أدلة آلامه في يديه وجنبه. فلم يكن يسوع شبحا او طيفا او خيالا. بل كان ممكنا لمسه وكان يأكل. إن قيامة الرب يسوع قيامة حقيقية ومادية، فيسوع القائم هو ليس روحا غير مجسَّدة. بل “جَسَدِ مَجيد بما لَه مِن قُدرَةٍ يُخضِعُ بِها لِنَفْسِه كُلَّ شيَء” (فيلبي 3: 21). وأطلق عليه القديس بولس “جسماً روحياً” (1قورنتس 15: 44). يتفرّد الإنجيليّ يوحنا بظهور يسوع لتلاميذه ولتوما. في هذا النصّ يشدّد الإنجيليّ على حقيقة الظهور وواقعه التاريخيّ. فيسوع العائد هُوَ نفسه الذي مات في الأمسِ مُسَمَّراً ومطعونا بحربة في جنبه.
28 “أَجابَه توما: رَبِّي وإِلهي!”: فانتقل توما من أقصى الشكِّ إلى أقصى الإيمان واليقين. نحن أمام أعظم اعتراف ايماني بلاهوت المسيح يُنشد في الليتورجيا. فذاك الذي هو ربنا يسوع المسيح هو ايضا الله. وهو يجمع بين لقبي “رب” “إله” (يوحنا 1/1 و18). ولكن إيمان توما مبني على مشاهدة أدلة ملموسة لآلام يسوع. رأى في يسوع آثار الصلب فآمن بألوهيّته، وكان هذا الاعتراف آخر شهادة في انجيل يوحنا. فالإيمان المسيحي مرتكز على الإيمان بقيامة يسوع “الربّ وإله “، ومنها يستمدّ قوّته بوجه كلّ الصعاب.
29 “فقالَ له يسوع: أَلِأَنَّكَ رَأَيتَني آمَنتَ؟ طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا”: يُعلن يسوع ان الادلة الحسِّية ليست كافية للإيمان “طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا”. وعليه فان الايمان لا يقوم بعد اليوم على العيان او الرؤية، بل على شهادة الذين عاينوا ورأوا. طوبى للذين يصدقون شهادة الذين رأوه وقد اختارهم هو لكي يكونوا شهوداً له كما جاء في أعمال الرسل ” فيَسوعُ هذا قد أَقامَه اللّه، ونَحنُ بِأَجمَعِنا شُهودٌ على ذلك” (أعمال الرسل 2: 32). وبهذا الايمان يدخل المسيحيون في اتحاد وثيق بالمسيح القائم من الموت (يوحنا 17: 20). وهنا نتذكر الشهادة في الانجيل الرابع “جاءَ يوحنا شاهِداً لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس” (يوحنا 1:7). قد يظن البعض انهم سيؤمنون بيسوع إذا رأوا علامة او معجزة محددة. أما يسوع فيقول “طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا”. فلدينا كل برهان نطلبه، وذلك عبر كلمات الكتاب المقدس وفي شهادة شهود عيان القيام والكنيسة. وفي هذا الصدد كتب بولس الرسول إذ قال عن إبراهيم: “هو أَبٌ لَنا عِندَ الَّذي بِه آمَن، …آمَنَ راجِيًا على غَيرِ رَجاء فأَصبَحَ أَبًا لِعَدَدٍ كَبيرٍ مِنَ الأُمَمِ … فلِهذا حُسِبَ لَه ذلِك بِرًّا. ولَيَس مِن أَجْلِه وَحدَه كُتِبَ ((حُسِبَ لَه بل مِن أَجْلِنا أَيضًا نَحنُ الَّذينَ يُحْسَبُ لَنا الإِيمانُ بِرًّا لأَنَّنا نُؤمِنُ بمَن أَقامَ مِن بَينِ الأَمواتِ يسوعَ ربَّنا الَّذي أُسلِمَ إِلى المَوتِ مِن أَجْلِ زَلاَّتِنا وأُقيمَ مِن أَجْلِ بِرِّنا ” (رومة 4: 17-25). فالإنسان يستطيع ان يلتقي يسوع من خلال تعليم وشهادة جماعة التلاميذ أي الكنيسة. إنَّ يسوع لم يُظهر ذاته لتوما عندما كان خارج جماعة التلاميذ بلْ أظهر ذاته له عندما كان مُجتمعاً معهم. فمن أراد أنْ يؤمن به فليؤمن بكنيسته. علّق القديس إيريناوس على إيمان الكنيسة ” فهي تحفظ هذا الإيمان بكل دقّة كأنها تعيش في مكان واحد، وتؤمن إيماناً واحداً، لها قلباً واحداً وروحاً واحداً. وباتّفاقٍ تام تبشّر بهذا الإيمان وتعلّمه وتمنحه، كأنها تملكُ للنطق به فماً واحداً”. فالإيمانُ المسيحيُّ المَبني على الشهادة لا على العيان، لا يقلُّ بشيءٍ عن إيمانِ الرُّسل أنفسهم. ومَن أراد كنيسة بلا عيب بقيَ دون كنيسة. هذا ما كان يردِّدُه اللاهوتيّ الأب إيف كُونغار قائلاً: ” فإن كنّا نبحث عن كنيسة معصومةٍ من الهَفوات حتى نلتزمها، فلن نلتزم”. فعلى الرّغم من صُعوبة إيمان توما بالقيامة، بقي توما في جماعة الرُّسلِ ولم ينفصل عنها، وهذا ما قاده إلى الإيمان بيسوع قائلاً: “ربِّي وإلهي”. وقد سُؤلَ مرّة عالمٌ في الرياضيات والفلك: هل تعتقد أن الكون لا نهاية له؟ أجاب: بالتأكيد. قيل له: وما الذي يؤكّد لك ذلك؟ أجاب: لأني أؤمن وأصدّق ما تعلّمته.
30 “وأتى يسوعُ أَمامَ التَّلاميذ بِآياتٍ أُخرى كثيرة لم تُكتَبْ في هذا الكِتاب”: هذه الآية كانت خاتمة الانجيل. لم يذكر الانجيل “آياتٍ أخرى” بل اختار فقط سبع آيات، وكان أولها معجزة الخمر في عرس قانا الجليل كما أكّد ذلك يوحنا الانجيلي: “هذِه أُولى آياتِ يسوع أَتى بها في قانا الجَليل، فأَظهَرَ مَجدَه فَآمَنَ بِه تَلاميذُه” (يوحنا 2:11).
31 “وإِنَّما كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه”: تشير هذه الآية الى هدف الانجيل وهو الدعوة الى الايمان والتقدم في الايمان عند الذين تمّ انتماؤهم الى جماعة المؤمنين. أما عبارة “لِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه” فتشير الى ان الايمان في جوهره يدور حول المسيح المعترف به في منزلته ابن الله، وفي رسالته، لأنه المسيح، وهو الذي يهب الذين يؤمنون حقاً الحياة الابدية بالاتحاد به “فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة” (يوحنا 3: 16). الايمان بيسوع يقوم على ان يسوع هو المسيح وابن الله (مرقس 1:1) وهذا الايمان بيسوع يقود الى الحياة. وبعبارة أخرى يقول يوحنا إنّ ما دوّنه في إنجيله ليس سوى القليل من أحداث كثيرة جرت في حياة يسوع على الارض. لكن ما كتب هو كل ما نحتاج معرفته لنؤمن بأن يسوع هو المسيح ابن الله الذي به نلنا الحياة الابدية.
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي
يمكن ان نستنتج من وقائع نص انجيل يوحنا (20: 19-31) مفهوم ظهور المسيح القائم من بين الاموات وميزات ظهوره.
1) مفهوم ظهور المسيح القائم
الظهور هو وسيلة من وسائل التعبير عن وحي الله، الذي بواسطتها تصبح الكائنات غير المنظورة بطبعها حاضرة بشكل منظور. والظهورات تختلف عن الرؤيا. فالرؤيا تركز على المجد وتكشف عن الأمور السرية والأمور السماوية وتعرض مشاهد خارقة. إن أقدم قائمة لظهورات يسوع القائم من بين الاموات يقدّمها لنا القديس بولس في سنة (55 م)، انطلاقاً من تقليد كان قد تسلّمه قبل ذلك. فطبقاً لاعتراف الإيمان القديم هذا، ظهر المسيح لبطرس وللاثني عشر، ولأكثر من خمسمائة أخ، وليعقوب، ولكل الرسل وأخيراً الى بولس الرسول (1 قورنتس 15: 35) .
إلاّ أَنَّ الأناجيل لا تورد من هذه القائمة إلا الظهورين الأولين لسمعان (لوقا 24: 34)، وللأحد عشر (يوحنا 20: 19-29) الذين انضَمً إليهم بعض التلاميذ الأَخرين (لوقا 24: 33-50). ومع ذلك، تذكر الاناجيل ظهورات أخرى لبعض الأفراد: لمريم وللنسوة (يوحنا 20: 11-18)، ولتلميذي عمّاوس (لوقا 24: 13-35)، ولسبعة رسل على شاطئ البحيرة (يوحنا 21: 1-23). وقد تندرج هذه الظهورات المختلفة تحت نوعين: عامة وخاصة. العامة هي ظهورات رسمية لجماعة الرسل أو التلاميذ بصفة عامة تستهدف بيان رسالة لتأسيس الكنيسة، اما الظهورات الخاصة تدور روايتها حول التعرّف على الشخص الذي ظهر أي المسيح.
لم تكن الظهورات ضرورية للرسل والتلاميذ يكفي أن يكونوا قد أخبروا من قبل وبرهنوا على ذلك لما “رَجَعا تلميذا عمواس وأَخبرَا الآخَرين، فلَم يُصَدِّقوهما (مرقس 16: 13). وكان جدير بفهمهم للكتب المقدّسة أن يقودهم نحو الإيمان بالقيامة (يوحنا 20: 9). فالظهورات تستجيب لاحتياجات إيمان ما زال ناقصاً.
ومع ذلك، فمن ناحية أخرى، كانت الظهورات ضرورية. فالذين كانوا قد عاشوا مع يسوع الناصري، كان ينبغي أن يكونوا الشهود الوحيدين والمختارين ليسوع المسيح، وأن تنغرس بصورة تاريخية نقطة الانطلاق في الإيمان المسيحي وفي الكنيسة. لذلك يمكن القول بأن التلاميذ رأوا الربَ حيّاً في اختبار تاريخي. فإيمانهم نوع ما نتيجة لرؤية العين.
2) عناصر ظهور المسيح القائم
هناك تلاث ميزات لظهورات يسوع القائم من الاموات لتلاميذه، وهي: المبادرة والتعرف وحمل الرسالة.
المميزة الاولى: مبادرة يسوع القائم: إن يسوع هو الذي يبادر ويتقدم بين أو وسط أناس لا يتوقّعون ظهوره. إن موضوع المبادرة من جانب القائم من بين الأموات يُعبّر عنها مدلول فعل ὤφθη “أي تراءَى” كما وصف بولس الرسول “المسيح تَراءَى لِصَخْرٍ فالإثَني عَشَر، ثُمَّ تَراءَى لأَكثَرَ مِن خَمْسِمِائَةِ أَخٍ معًا لا يَزالُ مُعظَمُهُم حَيّاً وبَعضُهُم ماتوا، ثُمَّ تَراءَى لِيَعْقوب، ثُمَّ لِجَميعِ الرُّسُل، حتَّى تَراءَى آخِرَ الأَمرِ لي أَيضًا (1 قورنتس 15: 5) ومعناه أن روايات الظهور تصف اختبارات واقعية عاشها فعلاً التلاميذ. وتتطابق هذه الظهورات مع تطلّعات البشارة الأولى: الله قد تدخل، فأقام يسوع، وقد أعطاه أن يُظهر نفسه حياً بعد موته. فالإيمان هو نتيجة لهذا اللقاء. فالقيامة ليست حدثاً أسطورياً بل اختبار تاريخي واقعي عاشه المسيح امام تلاميذه.
المميزة الثانية: تعرّف التلاميذ. إن التلاميذ يكتشفون ذاتية الكائن الذي يبادرهم بظهوره. إنه يسوع الناصري هذا، الذي عرفوا حياته وموته؛ فهذا الذي كان ميتاً هو حيّ، ففيه تتم النبوة. اما أسلوب هذا التعرّف بالتدرّج. في البداية يرى الرسل في يسوع الذي يظهر لهم شخصاً عادياً، إما مسافراً (لوقا 24: 15 16، يوحنا 21: 4-5)، وأما بستانيا (يوحنا 20: 15)، ثم يعرفون أنه الرب. وهذا التعرّف حرّ. على التلاميذ ان يؤمنوا بالقيامة ام يرفضوا الإيمان كما هو الحال التلاميذ لدى ظهور يسوع لهم في اورشليم. يوحنا الحبيب آمن بقيامة يسوع، اما توما فلم يؤمن (يوحنا 20: 25-29) كذلك لظهوره لتلاميذه في الجليل؛ البعض آمن والبعض شكّ. “فلَمَّا رَأَوهُ سَجَدوا له، ولكِنَّ بَعضَهُمُ ارْتابوا” (متى 28: 17). وأخيراً فبما أن الرب يظهر عادة لمجموعة من الأشخاص، فإنه كان من المتيسر تبادل التأكد من حقيقة الظهور. فتمكن التلاميذ من ان يتعرفوا على حقيقة يسوع القائم. من جهة، أن القائم من بين الأموات لا يخضع بأوضاع الحياة الأرضيّة العاديّة، فهو مثل الله في ظهوراته في العهد القديم (تكوين 18: 2) يظهر ثم يختفي حسبما يشاء. ومن جهة أخرى، إنه ليس شبحاً، ولذا كان الإلحاح على لمس يسوع والاكل معه. وعليه فإن جسم يسوع القائم من الأموات هو جسم حقيقي. ولكنه “جسم روحاني” (1 قورنتس 15: 44-49)، لأنه جسد تحّول بالروح “وُلِدَ مِن نَسْلِ داوُدَ بِحَسَبِ الطَّبيعةِ البَشَرِيَّة، وجُعِلَ ابنَ اللهِ في القُدرَةِ، بِحَسَبِ روحِ القَداسة، بِقِيامتِه مِن بَينِ الأَموات” (رومة 1: 4). وعليه فإن قيامة يسوع ليست عودة إلى الحياة الأرضية، بل هي دخول في الحياة التي لا تعرف الموت من بعد كما يصرّح بولس الرسول “نَعلَمُ أَنَّ المسيح، بَعدَما أُقيمَ مِن بَينِ الأَموات، لن يَموتَ بعدَ ذلِك ولن يَكونَ لِلمَوتِ علَيه مِن سُلطان” (رومة 6: 9) .
المميزة الثالثة: حمل الرسالة. فإن التلاميذ قد تعرفوا على الرب وتمتعوا بمشاهدة المسيح القائم وحضوره تتميما لوعده لهم بحضوره “حضور إلى الأبد” (متى 28: 20). فدعاهم يسوع القائم ليكونوا شهودا له ويواصلوا عمله في الحل والربط بحمل رسالة الخلاص وبناء الكنيسة (يوحنا 20: 22-23). فحضور يسوع ليس حضوراً للاستقرار معهم، بل ليحملهم رسالة. أنه يسوع الناصري الذي سبق فعاشوا معه (أعمال 2: 21-22) وبعد ظهوره لهم والتعرف عليه دعاهم لينشروا إنجيله في العالم اجمع ويؤسسوا الكنيسة.
خلاصة
لهذه الوجوه الثلاثة علاقة حيوية متبادلة فما بينها. حاضرنا يتجدد باستمرار بمبادرة من القائم من بين الأموات، ونحن مدعوون دوما للتعرف على شخص يسوع الناصري، الذي يدعونا لنكون شهود لقيامته وحمل انجيله وبناء المستقبل، والمستقبل هو الكنيسة.
فبفضل مبادرة المسيح بعد القيامة، يأمن التلاميذ الوقوع في أي توّهم من شأنه تشكيكهم في صحة وحقيقة لقائهم “بالحي”. وبفضل “رؤيتهم” إياه يربطون هذا الاختبار بالماضي الذي عاشوه برفقته. وبسماعهم إياه يواجهون وفي ايامنا لا يعرف المؤمن معنى الظهورات إلا من خلال الكرازة التي تقوم بها الكنيسة حول جسد المسيح. فإن الأبعاد الثلاثة لحضور القائم من الأموات تتوفر من جديد. وتأتي المبادرة دائماً من الله، وبمعنى أدقّ من المسيح بعد قيامته. إلا أن المسيح يتكلّم اليوم من خلال الكرازة الحالية. فيسوع الناصري يكشف عن نفسه، ولكن من خلال الاختبار التاريخي للشهود الأوّلين. وإنه خلال العلاقة بين هذه الأبعاد الثلاثة يكمن سر حضور المسيح حياً اليوم في الكنيسة والعالم. فالقائم من الأموات لا يزال إذاً اليوم حاضراً بناء على وعده: “وهاءنذا معكم طوال الأيام إلى نهاية العالم” (متى 28: 20)، وذلك بواسطة الكنيسة الحيّة، جسده السري، وهو يجعل البشر دائماً يعرفونه عند كسر الخبز (لوقا 24: 35).
دعاء
ربّنا وإلهنا زدنا إيماناً لنستسلم لنعمة قيامتك التي تعمل فينا، إنها سِرّ يفوق حدود عقولنا وإدراكنا. وطهّر إيماننا من كلِّ العواطف والأحاسيس العابرة، رغم كلِّ الأبواب المُغلقة واجعلنا ننهض من شكوكنا ونستأنف جميعاً السّير معك على درب القيامة، لك المجد إلى الأبد. آمين.
رأى أحد المساعدين للبابا أنَّ هناك ظهوراً لمريم العذراء فنادى البابا ليرى الظهور فأجابه البابا قائلاً: إن شاهدت العذراء إيماني لن يزيد وإذا لم أشاهدها إيماني لن ينقص، هذا ما نحنُ مدعوُّون أنْ نؤمن بِهِ ونعيشه.