عظة الأحد الرابع للفصح (ج)
الأب لويس حزبون
يصف إنجيل يوحنا (يوحنا 10: 27-30) عمل الراعي الصالح للتعبير عن دور يسوع المسيحاني، الذي يفتح نافذة على العلاقة والمعرفة والثقة المتبادلة بين الراعي وخرافه وسر المعرفة المتبادلة بين الآب والأبن. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.
اولا: وقائع النص الانجيلي (يوحنا 10: 27-30)
27إِنَّ خِرافي تُصْغي إِلى صَوتي وأَنا أَعرِفُها وهي تَتبَعُني”:
تشير عبارة” خرافي”(πρόβατα ) الى قطعان الغنم التي هي العنصر الأساسي في الثروات في مناطق الرعي. إذ أن لبنها ولحومها تستخدم طعامًا، كما يستخدم صوفها في صنع الثياب وأغطية الخيام، كما ينتفع بجلودها وعظامها. وكانت من أهم السلع التجارية. كما كانت أهم الحيوانات التي تقدم ذبائح حسب أحكام الناموس (خروج 29: 22). وقد رد الخراف بمختلف مسمياتها بما في ذلك الكباش والحملان والغنم والضأن أكثر من خمسة مرة في الكتاب المقدس. وكانت وفي الليل تجمع الخراف في حظائر، قد تكون كهفًا أو بقعة مسورة بقطع غير منتظمة من الحجارة، أو بسور من الأغصان والأشواك، ويشبه الرب شعبه بأنهم ” غَنَمَ مرعاه” (مزمور 79: 13)؛ اما عبارة “أَعرِفُها” فتشير الى معرفة متبادلة بين يسوع وخرافه، وبالتالي محبة متبادلة تجد ينبوعها في المحبة التي تربط الآب والابن؛ أما عبارة “تَتبَعُني” فتشير الى قيادة الخراف إلى المرعى، لا تساق سوقًا بل كان الراعي يتقدمها وهي تتبعه:” فإِذا أَخرَجَ خِرافَه جَميعاً سارَ قُدَّامَها وهي تَتبَعُه لأَنَّها تَعرِفُ صَوتَه ” (يوحنا 10: 4). يسوع الراعي يمشي قدام الخراف، وهكذا يدلُّها على الطريق، ويقودها الى المراعي الخصبة ” في مَراعٍ نَضيرةٍ يُريحُني. مِياهَ الرَّاحةِ يورِدُ في ويُنعِشُ نَفْسي ” (مزمور 23: 2). والجدير بالملاحظة أن عادة ما يسير الراعي في فلسطين وراء قطيعه، وفي الأماكن الخطرة يسير أمام قطيعه كدليل. تشير الآية الى المحبة والثقة بين الراعي وخرافه. هي تصغي لصوته. وهو يدعو كل خروف باسمه، إنها تخصّ الراعي وتسمع نداءه. ولذا فإنهم ينالون حياة ابدية. وهناك الذين لا يتجابون معه، لأنهم لم يكونوا يوما من خاصته.
28وأَنا أَهَبُ لَها الحَياةَ الأَبديَّة فلا تَهلِكُ أَبداً ولا يَختَطِفُها أَحَدٌ مِن يَدي”:
تشير عبارة “الحَياةَ الأَبديَّة ” الى حياة من الصداقة مع الله تبدأ على الأرض وتدوم الى الابد. والايمان يرتبط بالحياة الأبدية؛ هنا يقدم السيد المسيح الحياة الأبدية كهبة لمن يؤمن به؛ أما عبارة “فلا تَهلِكُ أَبداً ” فتشير الى انَّ الراعي هو الذي يدفع عنها كل خطر، ولا سيما خطر الموت الثاني، أي الهلاك الابدي (رؤيا 2: 11)؛ اما كلمة “يخطف” فتشير إلى جذب شيء وأخذه بسرعة واستلبه واختلسه. فالخاطف هو من يأخذ شيئاً ليس له قسراً وبسرعة بدافع من الطمع والجشع والظلم، مثلما يخطف الأسد الفريسة (حزقيال 22: 25) أو يخطف الذئب الخراف (يوحنا 10: 12)؛ واما عبارة “ولا يَختَطِفُها أَحَدٌ مِن يَدي” فتشير الى قوة الراعي الصالح، التي لا تضاهيها قوة وهي قادرة ان تحمي الخراف وتحفظها، لهذا تقدر الخراف ان تتق به كل الثقة. فلا خوف على المؤمنين من أي قوة أرضية. قطيع السيد المسيح هو هبة يتسلمها الابن من يد الآب، ويبقى محفوظًا في يد الابن؛ وعليه فإن هذه الآية توحي الى أمن المؤمن الابدي مع انه لا يخمد همّه الجهد الروحي والسهر.
29إِنَّ أَبي الَّذي وَهَبَها لي أَعظمُ مِن كُلِّ مَوجود. ما مِن أَحَدٍ يستطيعُ أَن يَختَطِفَ مِن يَدِ الآبِ شَيئاً.
تشير عبارة “إِنَّ أَبي الَّذي وَهَبَها لي أَعظمُ مِن كُلِّ مَوجود ” الى ان الآب هو المصدر النهائي للسلطان الذي عليه يؤسس ضمانة وأمن أبنائه اما عبارة “ما مِن أَحَدٍ يستطيعُ أَن يَختَطِفَ مِن يَدِ الآبِ شَيئاً” فهي مقتبسة من اشعيا النبي (اشعيا 43: 13)؛ وتشير الى ان الآب الكلي القدرة هو المسؤول الأخير عن الخراف. يد الآب تعني القوة، فإن قوة الآب والابن واحدة. وعليه فان يده ويد أبيه واحدة في القدرة، ومن جوهر واحد بعينه؛ لهذا، لا يجوز للخراف ان تخاف مهما كانت الاضطهادات قاسية، فحياتها بيد الله. وكلمة أخرى، دخل التلاميذ مع المسيح في اتحاد وثيق لا تستطيع أية إرادة في العالم أن تفصلهم عنه، لأنه يعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد (يوحنا 10: 28).
” 30أَنا والآبُ واحِد”:
تشير عبارة “أَنا والآبُ واحِد” الى مساواة يسوع الابن مع الآب. إنها وحدة حب وعمل كما هي وحدة جوهر. اما عبارة “واحد” باليونانية (ἕν) فتشير الى طبيعة واحدة، جوهر واحد كما يعلّق القديس أمبروسيوس . وبعد ذلك يضيف يسوع “أنَّ الآبَ فيَّ وأَنيِّ في الآب ” (يوحنا 14: 38)، وذلك لكي يوضح وحده الألوهية من ناحية، ووحدة الجوهر من الناحية الأخرى. إذن الاب والابن هما واحد، ولكن ليس مثل الشيء الواحد الذي ينقسم إلى جزئين، كما أنهما ليسا مثل الواحد الذي يسمى باسمين، فمرة يُدعى الآب، ومرة أخرى يُدعى هو نفسه ابنه الذاتي. لكن هما اثنان، لأن الآب هو الآب، ولا يكون ابنًا، والابن هو ابن ولا يكون أبًا. لكن الطبيعة هي واحدة، لأن المولود متشابه لوالده، لأنه صورته، وكل ما هو للآب هو للابن (يوحنا 16: 15). كلاهما واحد في الذات، وواحد في خصوصية الطبيعة وفي وحدة الألوهية. فإن تساوي الأعمال وكونها هي بذاتها، يقدم برهانًا على سلطانه غير المختلف. ويوحي هذه القول بوحدة من المحبة المتبادلة التي هي نتيجة الاتحاد الذي يجمع بين الآب والابن كما أعلن يسوع في صلاته الكهنوتية ” لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد” (يوحنا 17: 11 و22). ولأن يسوع يشارك الآب في قدرته بلا حد (يوحنا 5: 17-19)، فبإمكانه أن يحمي خاصته حماية تامة (يوحنا 5: 17-19). واما عبارة “َأنا والآبُ واحِد”) (ἐγὼ καὶ ὁ πατὴρ ἕν ἐσμεν فتدحض مذهب السبيليون ومذهب الآرسيين. إذ ان معناها “انا والأب نكون واحد”. واعتبر العلامة اوغسطينوس ان الفعل اليوناني ἐσμεν. (نكون) يدحض ويفنّد مذهب سبَليوس Sabelius من القرن الثالث القائل ان التثليث كناية عن ثلاثة تجليات مختلفة لإله واحد منفرد الاقنوم أي ان الالفاظ آب وابن وروح قدس ليست أقانيم متميّزة بل أسماء مظاهر اقنوم واحد سُمّي الآب، لأنه خالق، وسُمّي الابن، لأنه الفادي، وسُمّي الروح القدس لأنه المعزِّي والمقدِّس. واما لفظة ἕν (واحد) صيغة للجماد فهي تدحض وتفنّد مذهب أريوس القائل ان الاب هو الآصل، وان الابن والروح القدس مخلوقان لهما المقام الأول بين الخلائق وطبيعتهما تشبهان طبيعته الإلهية. واما اليهود فقد فسّروا هذه الكلمات “أنا والآبُ واحِد” كادعاء المسيح بالسلطان المطلق، لذا أرادوا ان يرجموه (يوحنا 10: 31) كمجذِّف بدون أي محاكمة. لم يستطع اليهود أن ينكروا الأعمال، لكنهم لم يحتملوا كلماته، حاسبين أنه قد تجاسر وساوى نفسه بالله، كما جاء في تصريح اليهود للمسيح “لا نَرجُمُكَ لِلعَمَلِ الحَسَن، بل لِلتَّجْديف، لأَنَّكَ، وأَنتَ إنْسان، تَجعَلُ نَفْسَكَ الله” (يوحنا 10: 33). في حين يؤكد القديس يوحنا أن ذبيحة المسيح هي موضوع حب الآب لنا، وأنها ثمرة الحب المتبادل بين الآب والابن. فالحب الإلهي هو سمة الثالوث القدوس وليس خاصًا بأقنوم دون آخر.
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 10: 27-30)
انطلاقا من هذه الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 10: 27-30)، يمكن ان نستنتج انه يتمحور حول خطاب سيدنا يسوع المسيح كراع صالح في عيد تجديد الهيكل. وعبّر هذا الخطاب عن العلاقة والمعرفة والثقة المتبادلة بين الراعي وخرافه. ومن هنا نبحث في نقطتين: مكان الخطاب ومناسبته، وموضوع الخطاب.
1) مكان الخطاب ومناسبته:
في فصل الشتاء كان يسوع يتمشّى في هيكل اورشليم تحت رواق سليمان في عيد تجديد الهيكل. إذ كان اليهود في أواخر كانون الأول يحيون ذكرى إعادة بناء الهيكل وتدشينه الجديد الذي جاء على أثر انتصار يهوذا المكابي على انطيوخس ابيفانيوس الرابع ملك الدولة السلوقية سنة 167 ق. م. (1ملوك 4: 36-59) الذي دنّس الهيكل، إذ الزم اليهود بالعبادة الوثنية، ومنعهم من ختان الأطفال وحفظ السبت.
ويسمًى هذا العيد ايضا حانوكا (חֲנֻכָּה) أي “تدشين”، ويشير هذا الاسم إلى تدشين الهيكل من جديد بعد ترميمه على يد الحشمونيين إثر نجاح ثورتهم ضد السلوقيين (1 المكابيين 4: 51-57). وقد ورد عيد “التدشين ” أيضا في كتاب “تاريخ اليهود” للمؤرخ اليهودي الروماني يوسيفوس فلافيوس، الفصل 12). ولا يُحتفل بهذا العيد في أورشليم وحدها كعيد الفصح (פסח) والمظال סוכות (عيد العرش)، وعيد الأسابيعשבועות، وإنما يحتفل به أيضا في كل مكان).
ويعرف هذا العيد أيضا ب “عيد الأنوار” (חג האורים) لكثرة استعمال الانارة. يستمر عيد الأنوار ثمانية أيام وتوقد في مساء كل يوم من أيامه شموع بأعداد متزايدة كل يوم في شمعدان مُعدٍ خصوصاً لذلك الغرض. يتم إضاءة شمعة واحدة في اليوم الأول، ثم شمعة ثانية في مساء اليوم الثاني وهكذا حتى تكتمل إضاءة الشموع الثمانية. ويضيف التلمود إليها شرحا لعدد أيام العيد، حيث يقول إن أيام العيد الثمانية تشير إلى معجزة حدثت للحشمونيين عند تدشين الهيكل. إذ لم يبق في الهيكل ما يكفي من الزيت الصالح لإيقاد الشمعدان المقدس، وبرغم ذلك فإنه أنار الهيكل 8 أيام بالكمية القليلة من الزيت الباقي حتى تمَّ تحضير الزيت الجديد.
وفيما كان اليهود يحتفلون بعيد تقديس الهيكل وتكريسه (يوحنا 10: 22)، أعلن يسوع المسيح لهم أنه هو الذي كرسه الآب وأرسله إلى العالم راعيا صالحا، جاء إلى بيته وبيت أبيه، أي الهيكل، ليخدم كل نفس تطلبه.
2) موضوع الخطاب:
اما خطاب يسوع فيتناول موضوع الراعي الصالح مبيّنا العلاقة والمعرفة والثقة المتبادلة بين الراعي وخرافه
ا) العلاقة بين الراعي وخرافه
العلاقة بين الراعي وخرافه مألوفة في الشرق القديم، إذ ترقى الى عهد البداوي عند الشعب العبراني (التكوين 13: 2-5). وصورة الراعي واحدة من أغنى تعابير العهد بين الله والشعب القديم. ارتبط الله بشعبه، كما يرتبط الراعي بقطيعه. والشعب القديم هو قطيع الله. فنسب يسوع الى نفسه صورة الراعي (يوحنا 10: 1-18).
يذهب الراعي إلى الحظيرة في الصباح ويدعو خرافه التي تعرف صوته وتتبعه. أما الصوت الغريب فلا تعرفه (يوحنا 10: 2-5) ويقودها إلى المرعى ويقضي معها هناك النهار كله، وفي بعض الأحيان الليل أيضًا (التكوين 31: 4) ويحرسها من الوحوش، واللصوص (1 صموئيل 17: 34). ويرد الضال (لوقا 15: 4) ويعني بصفة خاصة بالصغار والضعفاء منها؛ فيقوي الضعيفة، ويداوي المريضة، ويجبر المكسورة ويرد الشاردة ويبحث عن الضالة (حزقيال 34: 4). ويحمل الراعي عادة عصا طويلة لقيادة الغنم وجمعها معًا والدفاع عنها وتأديب العُصاة منها (مزمور 23: 4).
وعليه فإنَّ استعارة صورة الراعي تعبّر بشكل رائع عن ناحيتين من السلطة. إن الراعي هو في الوقت نفسه قائد ورفيق؛ يتولّى أمر القطيع (إرميا 23: 3)، ويجمعه (ميخا 4: 6)، ويعيده إلى مرتعه (إرميا 50: 19)، وأخيراً يحفظه (إرميا 31: 10). انه رجل قويّ، قادرٌ على أن يدافع عن قطيعه ضد الحيوانات الضارية (1 صموئيل 17: 34-37). ومن ناحية أخرى، يعامل نعاجه برقة، فيعرف وجوهها (أمثال 27: 23)، ويتكيّف وفق حالها (تكوين 33: 13-14)، ويحملها على ذراعيه (اشعيا 40: 11) ويعزّ الواحدة والأخرى “كابنته” (2 صموئيل 12: 3).
اما كلمة صالح في أصلها اللغوي اليوناني καλός,، تعني جميل، طيب، حسن، جيد). فهي تشير إلى الصلاح مع الجمال. فالراعي الصالح له شخصية جميلة النفس محبَّبة عند خرافه. هو يحب خرافه محبة شديدة ويبذل نفسه عنها، وخرافه تعرفه وتحبه. فإن تعبير الراعي الصالح يحمل فيه الصلاح الجذاب للرعية. فمع صلاح رعايته تتمتع الرعية بجاذبية شخصه، أو انجذابهم إليه.
واما إعلان يسوع نفسه “انا هو الراعي” فليس لها معنى تفسيري وإعلاني فقط، انما ترتبط بعبارة “انا هو” التي استخدمها الله في العهد القديم لكي يكشف نفسه للشعب بانه هو إله ومخلصه، وانه دائم الحضور والعمل (خروج 3: 14). ولهذه العابرة معنى الوعد والالتزام أيضا. فالمسيح يلتزم تجاه خرافه، وتجاه الآب الذي عهد إليه بهذه الخراف (يوحنا 29: 29)، وهو لن يخون عهده، ولن يتنكر لرسالته. بل اعتبر يسوع نفسه مرسلاً إلى الخراف الضالة من آل إسرائيل (متى 15: 24)، ويجمع حوله ” القطيع الصغير”، أي التلاميذ (لوقا 12: 32)، والنعاج المشتتة التي يجمعها تأتي على السواء من حظيرة إسرائيل ومن الأمم (يوحنا 10: 16). فإن القطيع الواحد الذي جمعه يسوع هكذا يظلّ موحّداً إلى الأبد، لأن محّبة الآب القدير هي التي تحفظه وتكفل له الحياة الأبدية (يوحنا 10: 27-30).
وأخيراً، فإنَ يسوع هو الراعي المثالي، لأنه يبذل نفسه عن الخراف (10: 15 و17-18). وببذل نفسه باختياره (يوحنا 10: 18). فإن يسوع يخرج الخراف “في مرعى صالح يرعاها” (يوحنا 10: 11). فحينئذ تعرف الربّ (يوحنا 10: 15) الذي يخلصها (يوحنا 10: 9). المسيح وحده هو المخلص، السيد، معطي ذاته كما جاء في كلامه ” فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم ” (يوحنا 10: 10). إنه “الراعي الواحد” المنتظر (حزقيال 34: 23)، كما يعلن يسوع نفسه “أَنا الرَّاعي الصَّالِح والرَّاعي الصَّالِحُ يَبذِلُ نَفْسَه في سَبيلِ الخِراف” (يوحنا 10: 11). لذا وسلطته مؤسسة على البذل والمحبة والحياة؛ فقد اتى يسوع “لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم.” (يوحنا 10: 10). والحياة في انجيل يوحنا هي مختصر كل الخيرات، ولكي يوفر هذه الخيرات لخرافه، لا يتردد الراعي الصالح عن التضحية بحياته “والرَّاعي الصَّالِحُ يَبذِلُ نَفْسَه في سَبيلِ الخِراف” (يوحنا 10: 12) يسوع يبذل نفسه حتى الموت ليحيا تلاميذه (يوحنا 11: 50-52). إنه الراعي الصالح يريد الخير لخرافه، “أَنا أَرْعى خِرافي وأَنا أُربِضُها، يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ، فأَبحَث عنِ الضالَّةِ وأَرُدُّ الشارِدَةَ وأَجبُرُ المَكْسورَةَ وأُقَوِّي. الضَّعيفَةَ وأُهلِكُ السَّمينَةَ والقَوِّية، وأَرْعاها بِعَدْل” (حزقيال 34: 15-16) المسيح هو ذبيحة الحب يموت عن قطيعه. وفي العصور المسيحية الأولى كانت الراعي الصالح المثل الاكمل للمخلص يسوع المسيح، ولذلك نجده منقوشا على لقبور في الدياميس.
اما فيما يتعلق بالخراف فيقدم السيد المسيح علامات مميزة لها، فهي تسمع صوته كراعٍ لها، وتعرف صوت حبه واهتمامه، وتتبعه “إِنَّ خِرافي تُصْغي إِلى صَوتي وأَنا أَعرِفُها وهي تَتبَعُني” (يوحنا 10: 27). انها تطيعه، وتؤمن (يوحنا 3: 21-36) وتتلمذ للراعي الصالح (يوحنا 6: 45) وترفقه وتصحبه كيفما سار (رؤيا 7: 17)، وتسير في نوره وعلى خطاه (يوحنا 8: 12)، لان صوته لا يخدع، وكلمته هي كلمة الابن الذي جعل الآب كل شيء في يده (يوحنا 10: 29)، وتتأهل أن تكون موضع معرفته. وكما يقول الرسول: ” إِنَّ الرَّبَّ يَعرِفُ الَّذينَ لَه” (2 طيموتاوس 2: 19).
ولا يكون الناس للمسيح خرافا إلا بمقدار ما يؤمنون به راعيا ويتبعونه ويتمتعون معه بحياته. وهو يهبها الحياة الأبدية. وهي تميّز بين الأصوات كلها صوته. تميّز الخراف بين صوت الراعي من صوت السارق الذي يريد الضرر والذبح ” كالسَّارِقُ الذي لا يأتي إِلاَّ لِيَسرِقَ ويَذبَحَ ويُهلِك”، (يوحنا 10: 10) ويتنبأ عنهم ارميا النبي قوله ” وَيلٌ لِلرُّعاةِ الَّذينَ يُبيدونَ ويُشَتِّتونَ غَنَمَ رَعِيَّتي، يَقولُ الرَّبّ ” (ارميا 23: 1).
وتميّز الخراف أيضا صوت الراعي من صوت الغريب الذي لا يهمّه أمر الخراف، والقطيع يعرف صاحبه فيلتصق به، واما صوت الغرباء فيهرب القطيع منهم. وكما قيل: عَرَفَ اكورُ مالِكَه ” (اشعيا 1: 3).
وأخيرا تميّز صوت الراعي من صوت الاجير الذي يشتغل لقاء اجرة ويوازي بين اهتمامه بالخراف والاجرة التي تعطى له. فهو يفضل الأجرة على الخدمة وعلى محبته لرعيته (يوحنا 10: 12). فهو يرعى الخراف لأجل نفسه ويأخذ أجرة، ويطلب دومًا ما هو لسلامه غير مبالٍ بالخراف وغير مستعد أن يموت لأجلها. ولو ظهر خطر مفاجئ كظهور ذئب يهرب بحياته. فالأجير يرعى نفسه لا الغنم” كما جاء في تنبؤات حزقيال (حزقيال 34: 4). الاجير يترك في لحظات الخطر ويهرب لينج بنفسه. ويصف بولس الرسول الاجير ذاك الذي يطلب ما هو لنفسه لا ما هو ليسوع المسيح” (فيلبي 2: 21). اما الراعي الصالح فيعمل مجانا كما امر الرب ” َخَذتُم مَجَّاناً فَمَجَّاناً أَعطوا” (متى 10: 8)، ويطلب ما هو للخراف غير مبالٍ بما هو لنفسه كما جاء في تعليم بولس الرسول “لا يَسْعَيَنَّ أَحَدٌ إِلى مَنفَعَتِه، بل إِلى مَنفَعَةِ غَيرِه” (1 قورنتس 10: 24). ويضحّي بنفسه لإنقاذ خرافه، وذلك لان الخراف خاصته. انه يجعل نفسه منها، وكل ما يصيبها يصيبه. فالمسيح قد تبنّنا وتضامن معنا الى هذا الحد. وبكلمة موجزة، “فالراعي يُحب، والأجير يُحتمل، واللص يُحذر منه” كما يعلق القديس أوغسطينوس.
ب) المعرفة بين الراعي وخرافه
المعرفة في مفهوم الكتاب المقدس تفيد علاقة وجودية في اختبار الحياة أكثر منها في إطار علمي نظري؛ وبهذا المعنى نعرف الألم (اشعيا 53: 3)، والخطيئة (حكمة 3: 13)، والحرب (قضا ة 3: 1)، والسلام (اشعيا 59: 8)، والخير والشر (التكوين 2: 9)؛ وأما معرفة شخص ما فتعني الدخول في علاقات شخصية معه، التي تؤدي الى التضامن والالفة. فالمعرفة تعني الحضور الحميم بين شخصين، كما انها تعني الاستقبال والثقة المتبادلين، والتشارك في القلب والأفكار.
والمسيح لا يتردد معرفته لخرافه ” وأَنا أَعرِفُها وهي تَتبَعُني “. إنه يعرف خاصته، إذ يتطلع إليهم بعيني الحب والاهتمام الرعوي، يعرفهم فيبذل ذاته بكل سرور من أجلهم. وكما يقول القديس يوحنا: ” أَحَبَّنا قَبلَ أَن نُحِبَّه” (1 يوحنا 4: 19). وكما يؤكد ذلك بولس الرسول ” أَمَّا الآن، وقَد عَرَفتُمُ الله، بل عَرَفَكمُ الله” (غلاطية 4: 9). ويُشبِّه معرفته أي ارتباطه بخرافه، بارتباطه بأبيه “أَعرِفُ خِرافي وخِرافي تَعرِفُني كَما أَنَّ أَبي يَعرِفُني وأَنا أَعرِفُ أَبي ” (يوحنا 10: 15). فهذه المعرفة او الاتحاد يعني حضور الواحد في الآخر حضوراً روحيا “أَنَّ الآبَ فيَّ وأَنيِّ في الآب” (يوحنا 10: 38) هذه هي علاقة المسيح بتلاميذه.
و يقدم لنا انجيل يوحنا المعرفة الفريدة المتبادلة بين الآب والابن، علامة وحدة الفكر والإرادة ووحدة العمل معًا مع وحدة الجوهر الإلهي، كمثال للمعرفة بينه وبيننا كخاصته المحبوبة لديه التي تجد أبديتها في قبول مشيئته وقوته والعمل به ومعه!
ويحدد يوحنا الانجيلي مراحل هذا المعرفة. فينبغي أن ندع الآب يعلّمنا، كي يجذبهم نحو يسوع (يوحنا 6: 44-45). فيسوع يعرفهم، وهم يعرفونه (يوحنا 10: 14)، ويسوع بدوره يقودهم نحو الآب (يوحنا (14: 6). ومع ذلك فإن كل ما يقوله يسوع ويصنعه سيظل بالنسبة إليهم لغزاً (يوحنا 16: 25)، حتى يرتفع على عود الصليب. (يوحنا 8: 28)، وهو وحده ينال للتلاميذ هبة الروح (يوحنا 7: 39). ويكشف هذا الروح لهم كل ما ترمي أليه كلمات يسوع وأعماله (يوحنا 14: 26)، ويقودهم إلى معرفة الحق كله (يوحنا 16: 13).
على هذا النحو يعرف التلاميذ يسوع، وبيسوع يعرفون الآب (14: 7 و20). وعليه تقوم علاقة جديدة مع الله ” إنَّ ابنَ اللهِ أَتى وأَنَّه أَعْطانا بَصيرةً لِنَعرِفَ بِها الحَقّ. نَحنُ في الحَقِّ ” (1 يوحنا 5: 20). إن الحياة” الأبدية تقوم على ” والحَياةُ الأَبدِيَّة هي أَن يَعرِفوكَ أَنت الإِلهَ الحَقَّ وحدَكَ ويَعرِفوا الَّذي أَرسَلتَه يَسوعَ المَسيح ” (يوحنا 17: 3)، معرفة مباشرة تجعل المسيحيين بنوع ما، ” فلَيسَ بِكم حاجَةٌ إِلى مَن يُعَلِّمُكم ” (1 يوحنا 2: 27). وهذه المعرفة تتضمن قدرة على التمييز (1 يوحنا 2: 3 5). على أن معرفة الله هذه، إذا ما أخذت بكل معناها الواسع، فتستحق أن تسمّى ” الاشتراك ” ذاكَ الَّذي رَأَيناه وسَمِعناه ,نُبَشِّرُكم بِه أَنتم أَيضًا لِتَكونَ لَكَم أَيضًا مُشاركَةٌ معَنا ومُشاركتُنا هي مُشاركةٌ لِلآب ولاَبنِه يسوعَ المسيح (1 يوحنا 1: 3)، لأنها مشاركة في نفس الحياة الواحدة (يوحنا 14: 19-20)، ووحدة كاملة في حقيقة المحبة (يوحنا 17: 26).
ج) الثقة المتبادلة بين الراعي وخرافه
بناء على المعرفة المتبادلة بين الراعي وخرافه ينتج رباط وثيق بينهما:” أَنا الرَّاعي الصَّالح أَعرِفُ خِرافي وخِرافي تَعرِفُني” (يوحنا 10: 15). والمعرفة تعني الثقة والشعور بالارتباط المتبادل في الرضى والمحبة. وعلى المعرفة” المتبادلة بين الراعي وخرافه (يوحنّا 10: 3-4)، يقيم يسوع حياة جديدة مبنية على المحبة المتبادلة التي توحد بين الآب والابن، كما أعلن يسوع ” إِنَّكم في ذلك اليَومِ تَعرِفونَ أَنِّي في أَبي وأَنَّكم فِيَّ وأَنِّي فِيكُم. (14: 20).
يكشف الراعي الصالح على قوة في حماية الخراف والحفاظ عليها بقوله “لا يَختَطِفُها أَحَدٌ مِن يَدي” (يوحنا 10: 28)؛ لهذا تقدر الخراف ان تتق به كل الثقة. فلا خوف على المؤمنين من أي قوة أرضية. ويعد الرب لاتقيائه بأنه: ” مِنَ الظّلمِ والعُنفِ يَفتَدي نُفوسَهم ودَمُهم في عَينَيه ثَمين” (مزمور 72: 14).
لذا يقول الراعي الصالح ” إِنَّ خِرافي تُصْغي إِلى صَوتي وأَنا أَعرِفُها وهي تَتبَعُني (يوحنا 10: 27) إنها تخصّ الراعي وتسمع نداءه. وعليه فإنهم ينالون حياة ابدية. كما وعدهم يسوع “وأَنا أَهَبُ لَها الحَياةَ الأَبديَّة فلا تَهلِكُ أَبداً ولا يَختَطِفُها أَحَدٌ مِن يَدي”(يوحنا 10: 28). فقطيع السيد المسيح هو هبة تسلمها الابن من يد الآب، ويبقى محفوظًا في يد الابن؛ ويؤكد الراعي الصالح ضمان المؤمنين ضماناً أبدياً ” أنا أَهَبُ لَها الحَياةَ الأَبديَّة فلا تَهلِكُ أَبداً ولا يَختَطِفُها أَحَدٌ مِن يَدي. إِنَّ أَبي الَّذي وَهَبَها لي أَعظمُ مِن كُلِّ مَوجود. ما مِن أَحَدٍ يستطيعُ أَن يَختَطِفَ مِن يَدِ الآبِ شَيئاً أَنا والآبُ واحِد” (يوحنا 10: 27 28-30).
ويُنهي يسوع خطبته بإظهار ولاء الى ألاب المصدر الأول لعمل الخلاص ” وهذا الأَمرُ تَلَقَّيتُه مِن أَبي ” (يوحنا 10: 19). وعليه فان مجد يسوع الراعي الصالح يقوم بإظهار الآب للناس، وبواسطته يبرز حب الاب للبشر.
خلاصة
يعتني راعينا يسوع المسيح بكل واحد منا، ويبحث عن كل واحد منا، ويحب كل واحد منا. ويعلّق القديس يوحنا الذهبي الفم بقوله ” عندما يحضرنا إلى الآب يدعو نفسه “بابًا”، وعندما يرعانا يدعو نفسه “راعيًا”. فلكيلا تظنوا أن عمله الوحيد أن يحضرنا إلى الآب لذلك دعا نفسه راعيًا”. الكنيسة في العالم أشبه بمرعى، حيث تضم في داخلها الخراف المشتتة في العالم (يوحنا 11: 25)، ليتحدوا معه كقطيعٍ مقدسٍ يرعاه الراعي القدوس بمحبته وإرشاده وقيادته.
دعاء
فقد وضعت يا رب حياتك من أجل خرافك (يوحنا 15: 13). انت في داخلنا ونحن في الخارج عن نفوسنا، انت معنا، ونحن لسنا مع ذواتنا، انت رجاؤنا، أيها الحب الذي يشتعل دوما ولا ينطفئ ابداً.