عيد عُمّاد الرَّبّ (ج)
الأب بيتر مدروس
“عزّوا عزّوا شعبي” : انقلبت الآية ايها النبي المسكين أشعيا!
قال الله وألهم أشعيا العزاء للشعب العبريّ والسّلوى وهو قابع ذليلاً في جلاء. واليوم يبكي الشعبان الناطقان أصلاً بالآراميّة اي العراقي والسوري، ناهيك عن الببناني المسكين، هو أيضًا أصلاً ىراميّ اللسان ، الذي يهتزّ من كل مصيبة للشعوب المجاورة. انقلبت الآية منذ نحو سبعين سنة في فلسطين ومنذ عقدين في العراق ومنذ خمس سنوات في سورية، حيث وجب أن يعزّي الله وتعزّي أمم الأرض الشّعب الفلسطينيّ ثمّ العراقي والسوري (وقد أوشك المصري أن يقع في نفس المستنقع الدموي لأكثر من سنة). وكلّ نكبات هذه الشعوب ونكساتها والتنكيل بها وحروب الإبادة خصوصًا للمسيحيين آتية بسبب شعب العهد القديم، ليس فقط لتكون له “دولته” على حساب الآخرين بل لينعم ب”أمن” ويضمن أنّ ما من دولة عربية ستقف أمامه على الأقلّ لخمسين سنة إلى الأمام. ولا ننسى الدول المسكينة المضيفة للاّجئين وكأنها غنيّة مثل الأردن ولبنان، وأتعابهما مع اللاجئين وبسببهم وبسبب من سبّب مآسيهم في الشرق والغرب! لا نخوض هنا في غياهب السياسة ولكن نتكلم عن الشعوب العربيّة ومصائبها ونزيف دمائها غير المنقطع، ولا سيّما مواطنيها المسيحيين الذين أضنتهم الضغوط من أكثر من جهة ولأكثر من ذريعة، وذلك كلّه بسبب الكيان العبريّ الذي ما تردد أن يدعو نفسها “يسرائل” اي “الذي يحارب الله”. واسمه على جسمه. نعم، منذ سبعين سنة، شعوبنا العربية – وفلسطين قضيّتها الأولى في حال نسي ذلك أحد – هي المحتاجة إلى تعزية وكفكفة للدمع بخلاف ما قال الشاعر :
” سلام من صبا بردى أرقّ ودمع لا يُكفكف يا دمشقُ”!
ولكن تغيّر الشّعب!
“كلمة الرّبّ تبقى إلى الابد”. تظلّ قائمة الآية “عزّوا شعبي”، وبفضل المسيح الكلمة المتجسّد، صرنا نحن المسيحيين “شعب الله” (عن بطرس الأولى 2 : 9) وكهنوته الملوكيّ وأمّته المقدّسة، المفديّة “بالدّم الثّمين” (نشيد “اللهمّ نمدحك” الذي كانت رعايانا في البطريركية اللاتينية تنشده قبل كلّ قداس أحد وعيد). ونحن الذين “نالوا الرحمة” من المسيح بالفداء، نطلب عبثًا الرحمة من “عظماء هذا الدهر”. نعم، يا رب عفوك وتعزيتك، “فقد التصقت بالأرض أجسامنا” “ولم يعد فينا من يتحمّل”!
ظهور الإله الواحد المعزّي في “اصطباغ” يسوع على يد يوحنّا (لوقا 3 : 21-22)
“في اعتمادك يا ربّ في نهر الأردنّ أظهرت السجود للثالوث وأوضحته”: هذا ما نرتّله في الطقس البيزنطيّ. إله الميثاق العتيق “المعزّي” هو الثالوث الأقدس “المتساوي في الجوهر وغير المنقسم” أو بأسهل العبارات : الله وكلمته (يوحنا 1 : 1) وروحه. الله الأب هو المعزّي، “أبو المراحم وإله كلّ تعزية” (الثانية إلى القورنثيين 1 : 3). يسوع هو المعزّي المخلّص كما توضح لنا رسالة الرسول الحبيب يوحنا الثانية: ” إذا خطىء أحد، فلنا مُعزّ (أو شفيع) لدى الأب هو يسوع المسيح الإنسان”. اللفظة اليونانية الأصليّة هنا هي “باراكليتوس παράκλητος) وتعني أيضًا “المُدافِع، المؤيّد”. وروح الله أو روح القدس هو “المعزّي” “روح الحقّ” “المنبثق من الأب” ، وهو “روح يسوع” (إنجيل يوحنا الفصول 14 – 16).
إله الرّحمة والتّعزية بشكل مطلق موصوف وارد فقط في العهد الجديد!
مؤخّرًا أعلن لاهوتيّ إيطاليّ أنّ “تصوير الله كمحارب مدجّج بالسّلاح صارخ للانتقام ومحرّض للعنف إهانة لكلّ الأديان، إذ أنّ ليس فقط الإيمان المسيحي لا يدعو إلى العنف باسم الله بل كذلك الإيمان اليهودي (وسواه) يدعو إلى عدم ممارسة العنف باسم الله”. اللاهوتي المشار إليه ملمّ قطعًا بالمسيحية وكتاباتها المقدسة المميّزة أي “العهد الجديد”. ولكنه غفل أنّ في العهد القديم مقاطع تمنع عنف الإنسان لمصالحه وحاجاته وتأمره أن يمارس العنف باسم الله مع الوثنيين ، “الجويم” المساخيط، في “جهاده” مع عابدي الأصنام، اي “الإبسال” أو “الحيرم” חרם، فتوهّم العبرانيّون أنّ واجبهم المقدّس، للمحافظة على طهارة إيمانهم ونصاعة أخلاقهم (!)، كان أن يقتلوا رجال الوثنيين (وحتى أحيانًا نساءهم وأطفالهم ، وهذا ما ردده قبل بضع سنوات حاخامان من مستوطنة “يتسهار” بقرب نابلس في كتابهما “الطريق الملكيّة)، وأضعف الإيمان كان سبي النساء والأطفال وبيعهم عبيدا وإماء بعد استغلالهم واستغلالهنّ بكلّ ما للكلمة من معنى. وهذا ما نراه اليوم أيضًا.
طبعًا، لهذه النصوص من سِفر يشوع بن نون وسواها التفسير العلميّ واللاهوتيّ، ويضيق المقام هنا لمعالجة هذا الموضوع. ولكن هنا أيضًا يغفل اللاهوتي المسيحي المشار إليه وكلّ الذين من رأيه أنّ “اليهوديّة” أو “الدّين اليهوديّ” ليس كما نراه نحن المسيحيين بل كما يرى هو ذاته نفسه. نحن المسيحيين لا نقبل إلاّ اسفار العهد القديم: عندنا “هي الديانة اليهوديّة”. ولكن عند العبرانيين، لا يقتصر دينهم وكتبهم المقدّسة على أسفار من العهد القديم (هي عندهم 39 وورث إخوتنا البروتستنت سنة 1520 على يد أندرياس بودشتاين -وأحسبه يهوديّ الأصل- هذا الموقف في هذا الموضوع أيضًا)، بل من جوهر ديانة اليهود عندهم “التوراة الشفويّة أو الشفهية” التي يشيرون إليها بعبارة “هتواراه بعل فيه התורה בעל פה” وهي الكتابات الحاخامية من تلمود وترجوميم وميدراشيم. ويولونها قيمة الاسفار الملهمة الموحى بها أو ما شابه ذلك. وفي تلك الكتابات الحاخاميّة، تجد التحريض المباشر باسم الله على العنف وإبادة الوثنيين و”المينيم” اي الناصريين أتباع يشو الناصريّ. ومع الأسف، تتوفّر نصوص كثيرة ، غير واحد، مليئة بالحقد والنقمة والاحتقار والاستهتار والكراهيّة والاستعلاء. ويستطيع القارىء الكريم أن يعود إلى الشبكة العنقودية اي الإنترنت للاطّلاع شخصيًا على هذه النصوص التي يمنع الحياء واللياقة أن نستشهد بها هنا.
خاتمة : معموديّة يسوع : تواضع يوحنا السابق وتواضع المسيح الرّبّ!
هنالك عِبَر ودروس كثيرة روحانيّة ومعنويّة وبيبليّة من حادثة اصطباغ يسوع بالماء على يد يوحنا بن زكريّا. ولكن يكفينا لتأمّل اليوم أن نلحظ تنافس المعمدان والمسيح في التّواضع وكأنهما يتمّان ما سيكتبه لاحقًا رسول الأمم الإناء المختار بولس ، شاؤول سابقًا : “تنافسوا في إكرام بعضكم لبعض!” آه من المنافسات بيننا : على المناصب، على الألقاب (حتّى لدى بعض الإكليروس)، على قلب رجُل وسيم أو فتاة بارعة الجمال، أو على مصدر مال وبئر نفط، أو على السّلطة والسّيادة والسّيطرة والتلاعب بمصير البشر، حتّى لو أتتنا هذه كلّها على جثث البشر وأشلاء الكبار والصّغار!
ومع التّواضع “يتمّ كلّ بِرّ” ، بما أنّ الله – كما قال الكتاب – “يقاوم المتكبّرين ويعطي المتواضعين نعمة”!