عيد يسوع الملك بمفهوم لوقا الإنجيلي (لوقا 23: 35-43)

الأب لويس حزبون

نحتفل بعيد يسوع الملك، ملك الكون وسيد التاريخ. وقد أدخل البابا بيّوس الحادي عشر هذا العيد في العام 1925، وذلك لان العالم اخذ يستخدم السلطة والقوّة بطريقة مُناقضة لتعاليم المسيح الملك. ويصف لوقا الإنجيلي يسوع ملكاً ليس من خلال سلطته وقدرته على تدمير الكون والبشر، بل من خلال قدرته على خلاص الكون والبشر بموته فديةً على الصليب؛ ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.
اولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 23: 35-43): –
35ووقَفَ الشَّعْبُ هُناكَ يَنظُر، والرُّؤَساءُ يَهزَأُونَ فيقولون: ((خَلَّصَ غَيرَه فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَه، إِن كانَ مَسيحَ اللهِ المُختار! ))
تشير عبارة “وقَفَ الشَّعْبُ هُناكَ يَنظُر” الى صمت الشعب الممتلئ إجلالا، إذ لم يعلموا لزوم موتهِ كفارةً لخطاياهم كما ورد في تعليم بولس الرسول” ما مِن أَحَدٍ بارّ، لا أَحَد ما مِن أَحَدٍ يُدرِك ما مِن أَحَدٍ يَبتَغي وَجْهَ الله” (رومه 10:3)؛ أما عبارة ” خَلَّصَ غَيرَه “فتشير الى إنقاذ الغير من خطر كاد يهلك فيه، او تحريره او شفائه … أما عبارة “الرُّؤَساءُ يَهزَأُونَ” فتشير الى تهكم الرؤساء غير مُصدّقين، وعلق يوحنا الذهبي الفم “لقد احتمل يسوع، رب السماء والأرض سخرية الأشرار، مقدمًا لنا نفسه مثالًا للصبر”؛ اما عبارة “مَسيحَ اللهِ” فتشير الى اللقب الذي أطلقه بطرس الرسول على يسوع “أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ” (متى 16: 16)، سبق وقد أُطلق هذا اللقب على يسوع على لسان الملائكة (لوقا 1: 32-33) وعلى لسان سمعان الشيح (لوقا 2: 26) وعلى لسان الشياطين (لوقا 4: 41)؛ اما لقب ” المُختار ” فيشير الى لقب يسوع الذي ورد في يوم التجلي على لسان الآب عن ابنه يسوع المسيح لكي يدل على انه الكلمة (بين موسى وايليا) الذي يجب ان يسمعه الشعب. وهذا اللقب مأخوذ من اشعيا لنبي ” مُلوكٌ يَنظُرون ويَقومون ورُؤَساءُ يَسجُدونَ لِأَجلِ الرَّبِّ الأَمين وقُدّوسِ إِسْرائيلَ الَّذي آخْتارَكَ” (أشعيا 49: 7) وقد ورد هذا اللقب في الكتابات الرؤيوية اليهودية ويدل على العبد الذي اختاره الله لعمله الخلاصي، لكن احتقره البشر.
36وسَخِرَ مِنه الجُنودُ أَيضاً، فدَنَوا وقرَّبوا إِلَيه خَلاًّ وقالوا
تشير عبارة ” خَلاًّ ” الى نوع من النبيذ الرخيص الذي يستعمله الجنود. وكان من أعمال الرحمة للمصلوب أن يسقوه خلًا ممزوجا بمرارة لتسكين الألم لذلك كانت الزوفاء والإسفنجة موجودتين بالمكان للزومهما لعملية الصلب “أَعْطوا المُسكِرَ لِلمُشرِفِ على المَوت والخَمرَ لِذَوي النُّفوسِ المرة. فيَشرَبوا وَينْسَوا شَقاءَهم ولا يَعودوا يَذكُرونَ عَناءَهم.” (أمثال 31: 5-6). لكن القديس أمبروسيوس وجد في الخل رمز الفساد فقال ” لأنه أخذ فسادنا ليسمره على الصليب”
37((إِن كُنتَ مَلِكَ اليَهود فخَلِّصْ نَفْسَكَ! ))
تشير عبارة ” إِن كُنتَ مَلِكَ اليَهود ” الى اعلان الجنود ان يسوع ملك، وهو وحده يقدر ان يحمل الخلاص.
38وكانَ أَيضاً فَوقَه كِتابَةٌ خُطَّ فيها: ((هذا مَلِكُ اليَهود)).
تشير عبارة “كانَ أَيضاً فَوقَه كِتابَةٌ” الى القانون الروماني الذي يفرض وضع لافتة تعلق على صليب المحكوم عليه بالإعدام تعلن سبب صلبه. وكانت الكتابة على اللافتة بأحرف يونانية ورومانية وعبرية. هذه كانت اللغات الثلاث المستعملة في فلسطين وقتئذ؛ اما عبارة ” هذا مَلِكُ اليَهود ” فتشير الى الكتابة التي فرضها بيلاطس لغيظه من اليهود إعلانًا عن صلب ملك اليهود. والعنوان دُوِّن بصيغ مختلفة في الاناجيل الأربعة (متى 27: 37، ومرقس 15: 26، ولوقا 23: 38، ويوحنا 19: 19) فاذا ضممناه معا كانت الحصيلة “هذا هو يسوع الناصري ملك اليهود”. وكانت التهمة المعلقة على الصليب أن المسيح هو ملك اليهود، وبالتالي صلبَ اليهود المسيح رمز الأمل والرجاء في حريتهم من الرومان. وكما باع يهوذا الإسخريوطي معلمه ثم انتحر، هكذا باع اليهود ملكهم، رمز وطنهم الذي يحلمون به فانتحروا يوم تدمير طيطس أورشليم سنة 70.
39وأَخَذَ أَحَدُ المُجرمَينِ المُعَلَّقَينِ على الصَّليبِ يَشتُمُه فيَقول: ((أَلستَ المَسيح؟ فخَلِّصْ نَفْسَكَ وخَلِّصْنا! ))
تشير عبارة ” أَحَدُ المُجرمَينِ ” الى اللص اليسار، أمّا إنجيل متى ومرقس فإنهما يرويان ان كلا المجرمين عيرا يسوع. واما لوقا الإنجيلي فيحدثنا ان واحدا منهما فقط كان يُجدف عليه ، ويستخدم الفاظ السب والاهانة؛ فتحقق في المسيح قول إشعيا النبي “أُحصِيَ مع العُصاة وهو حَمَلَ خَطايا الكَثيرين وشَفَعَ في مَعاصيهم ” (اشعيا 53: 12)، اما عبارة “المُجرمَينِ” فتشير الى المكانين اللذين كان يعقوب ويوحنا قد طلباهما من يسوع “امنَحْنا أَن يَجلِسَ أَحَدُنا عن يَمينِك، والآخَرُ عَن شِمالِكَ في مَجدِكَ” (مرقس: 10: 37)؛ اما عبارة “المُعَلَّقَينِ على الصَّليبِ ” فتشير الى عادة الرومان الذين جعلوا الصلب للمجرمين الخطرين في مستعمراتهم، وأيضًا للعبيد. ولما جاء قسطنطين وقَبِل الإيمان المسيحي الغي الحكم بالصلب بمنشور رسمي؛ اما عبارة ” فخَلِّصْ نَفْسَكَ وخَلِّصْنا! ” فتشير الى أعظم سخريات القدر في التاريخ، كان يمكنه ان يخلص نفسه، ولكنه لم يفعل ذلك، بل بقي على الصليب خلاصا لنا، وهذا الخلاص لا يكلفنا شيئا، ولكن كلفه كل شيء.
40فانتَهَرَه الآخَرُ قال: ((أَوَما تَخافُ الله وأَنتَ تُعاني العِقابَ نَفْسَه!
تشير عبارة “فانتَهَرَه” ἐπιτιμῶν الى زجرِ اللص اليمين بعُنف واحتقار اللص اليسار بحيث أغضبه؛ اما عبارة ” الآخَرُ ” فتشير الى اللص اليمين والتقليد القبطي يقول إن اسمه ديماس.
41أَمَّا نَحنُ فعِقابُنا عَدْل، لِأَنَّنا نَلْقى ما تستجوبه أَعمْالُنا. أَمَّا هو فلَم يَعمَلْ سُوءًا)).
تشير عبارة “أَمَّا نَحنُ فعِقابُنا عَدْل ” الى رؤية اللص اليمين الى الامور كما كانت والاعتراف بإثمه وإثم رفيقه المجرم؛ اما عبارة ” أَمَّا هو فلَم يَعمَلْ سُوءًا ” فتشير الى اعتراف اللص اليمين ببراءة المسيح بتواضع. والتواضع يجعل الانسان ان يتخذ الموقف الصحيح ويُمهد له للقاء الرب.
42ثُمَّ قال: ((أُذكُرْني يا يسوع إِذا ما جئتَ في مَلَكوتِكَ)).
تشير عبارة “أُذكُرْني” الى الرب الذي يتذكر ولا ينسى؛ اما عبارة ” في مَلَكوتِكَ “فتشير إلى مُلك يسوع المسيح عند مجيئه الثاني؛ اما عبارة ” أُذكُرْني يا يسوع إِذا ما جئتَ في مَلَكوتِكَ ” فتشير الى صلاة المنازعين، وهي مألوفة في الدين اليهودي
43فقالَ له: ((الحَقَّ أَقولُ لَكَ: سَتكونُ اليَومَ مَعي في الفِردَوس)).
تشير عبارة “الفِردَوس” παράδεισος الى المكان الذي ينتظر فيه الموتى الابرار القيامة (لوقا 16: 22-31) واما هنا فتدل كلمة فردوس على السماء (لوقا 23: 43). ويرى الآباء ان اللص اليمين نال السعادة الأبدية مع يسوع بكلمة واحدة. وكان اليهود يميزون بين فردوسين، فردوس علوي هو قسم من السماء، وفردوس سفلي وهو قسم من مقر الموتى المخصص لنفوس الأبرار. وقد وردت كلمة “فردوس” ثلاث مرات في العهد القديم (الجامعة 2: 4-5؛ نشيد الأناشيد 4: 12 -13؛ نحميا 2: 7-8)، وثلاث مرات في العهد الجديد: لوقا 23: 43، 2قورنتس 12: 2، ورؤيا 2: 7). والفردوس كلمة فارسية معناها الأصلي “حظيرة أو حديقة”، وهي تكاد تكون بنفس اللفظ في العبرية גַן־עֵדֶן وتعني “جنة عدن “. وكان زينفون (Xenopon) الفيلسوف اليوناني هو أول من استعار هذه الكلمة للغة اليونانية للدلالة على الحدائق الغناء والتنزهات التي غرسها ملوك فارس ونبلاؤها. وأصبحت منذ القرن الثالث قبل الميلاد تستخدم للدلالة على أي حديقة أو بستان جامع. وقد استخدمت الترجمة السبعينية هذه الكلمة للتعبير عن “جنة عدن” גַּן־בְּעֵדֶן (تكوين 2: 8)، وكان الفردوس مكان السعادة الذي فقده الإنسان (تكوين 3: 22ـ 24). ثم أصبحت اللفظة (الفردوس) في نظر بعض يهود ذلك الزمان، تشير إلى مقر الأموات الصالحين حتى يوم القيامة، أي المكان الذي ينتظر فيه الموتى الابرار القيامة (لوقا 16/ 22-31). اما الفردوس في المفهوم الإسلامي فهي من أعلى الدرجات في الجنة عند المسلمين كما ورد في الأحاديث الصحيحة، وذكرت مرتين في القرآن (سورة الكهف 107) وسورة المؤمنين 23)؛ اما عبارة ” سَتكونُ اليَومَ مَعي في الفِردَوس ” فتشير الى احدى الكلمات السبع التي تفوّه بها يسوع على الصليب. ثلاث منها ذكرها لوقا الإنجيلي وحده: الكلمة الأولى ” يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون” (لوقا 32: 34)، وهي كلمة شفاعة؛ والكلمة الثانية ” الحَقَّ أَقولُ لَكَ: سَتكونُ اليَومَ مَعي في الفِردَوس (لوقا 23: 43) تُبيِّن ان المسيح مات ليفتح لنا باب الفردوس؛ والكلمة الثالثة ” يا أَبَتِ، في يَدَيكَ أَجعَلُ رُوحي! ” ولوقا 23: 46) وهي تدل على كمال الفداء. وثلاث كلمات ذكرها يوحنا وحده، الأولى وهي “أَيَّتها المَرأَة، هذا ابنُكِ ” (يوحنا 19: 26) “هذه أُمُّكَ” (يوحنا 19: 27)، وهي تدل على ان يسوع يعتني بالجميع، والكلمة الثانية “أَنا عَطْشان” (يوحنا 19: 28)، وتدل على ان يسوع مشتاق لكل نفس تؤمن، والكلمة الثالثة وهي ” تَمَّ كُلُّ شَيء (يوحنا 19: 30) وتدل على نصرة الخلاص. وأخيرا كلمة اشترك في تدوينها كل من انجيل متى ومرقس. فنجد في انجيل متى بهذه الصيغة ” إِيلي إِيلي لَمَّا شَبَقْتاني؟” أَي: “إِلهي، إِلهي، لِماذا تَرَكْتني؟ ” (متى 26: 46) ، أما في إنجيل مرقس فوردت بهذه الصيغة “َلُوي أَلُوي، لَمَّا شَبَقْتاني؟ أَي: إِلهي إِلهي، لِمَاذا تَركتَني؟ ” (مرقس 15: 34)، وتدل هذه الكلمة على ان آلام المسيح سبب خلاصنا؛ أمَّا ترتيب الكلمات بحسب ما نطق بها يسوع فهي كالتالي (1) “يا أبتاه إغفر لهم” (لوقا 34:23)، (2) “اليوم تكون معي في الفردوس” (لوقا 43:23)، (3) “يا امرأة هوذا إبنك” (يوحنا 26:19،27)، (4) ” إِلهي، إِلهي، لِماذا تَرَكْتني؟ (متى 46:27، ومرقس 4:15)، (5) “أنا عطشان ” (يوحنا 38:19)، (6) “يا أبتاه في يديك استودع روحي (لوقا 46:23) (7) “تَمَّ كُلُّ شَيء ” (يوحنا 30:19).

ثانياً: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 23: 35-43)
من الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي (لوقا 23: 35-43)، نستنتج انه يتمحور حول مُلك يسوع روحياً، وهو ملكوت الله كون المسيح مخلص العالم وليس مُلك سياسيا أي محرر اليهود من عبودية الرومان. وقد أبرز لوقا الإنجيلي ملامح مُلك المسيح في ميزتين: مُلك خالٍ من انتصارات بشرية ولكن له انتصارات روحية، أي خلاص الكون والبشرية
1) مُلك يسوع يخلو من كل صيغة انتصارية بشرية
فهم اليهود يسوع ومُلكه بمعنى سياسي ودُنيوي، بمعنى أنّ المسيح يجب أن يخلّص نفسه والآخرين من الشرور الطبيعية، ومن الكوارث القومية، والذلّ والفقر والقهر والاحتلال الروماني من ناحية؛ ومن ناحية أخرى، كانوا يعتقدون ان المسيح سيُعيد أمجاد مُلك داود، لهذا السبب نرى أمَّ الرسولين يوحنا ويعقوب تسعى الى تأمين مستقبل ولديها فطلبت من يسوع ” مُرْ أَن يَجلِسَ ابنايَ هذانِ أَحدُهما عن يَمينِكَ والآخَرُ عَن شِمالِكَ في مَلَكوتِكَ” (متى 20: 21). ولكن مُلك يسوع هو مُلك حقّ وحياة، مملكة قداسة ونعمة، مملكة عدل ومحبّة وسلام
ولم ينقاد يسوع الى حماسة الجماهير في يوم دخوله الانتصاري اورشليم الراغبة في إعلان صفته الملوكية ولكن ارتضى بمظاهرة علنية وظهر في مشهد متواضع على نحو ما جاء في نبوءة زكريا (زكريا 9: 9) وترك الجمع يهتفون به ملكا لإسرائيل ” تَبارَكَ الآتي، المَلِكُ بِاسمِ الرَّبّ! ” (لوقا 19: 38)، ولم يقبل يسوع أيضا ان يلبّي طلب الجمع باختطافه لتنصيبه ملكا إن إثر معجزة تكثير الخبز والسمك (متى 14: 13-21) بل ابتعد عنهم. لما فيها من عنصر بشرية وآمالا زمنية.
وصوّر اليهود يسوع الى الحاكم بيلاطس وكأنه نال من السيادة الرومانية، فإتَّهمونه بقولهم “وَجَدْنا هذا الرَّجُلَ يَفتِنُ أُمَّتَنا، ويَنهى عَن دَفْعِ الجِزيَةِ إِلى قَيصَر، ويَقولُ إِنَّه المسيحُ المَلِك ” (لوقا 23: 2). فحكم بيلاطس على يسوع بناء على هذا الاتهام السياسي وهو “أَنَّ هُناكَ مَلِكًا آخَرَ هو يسوع ” (اعمال الرسل لوقا 17: 7)؛ وكان الرب يتجنّب كلّ مظاهر القوّة والسلطان البشري. لقد كان يسوع ملكاً لأنّه كان لديه مملكة، لكنّ مملكته في خلاف كامل مع أيّ استعراض للقوّة في هذا العالم، ولا مكان للعنف في مملكته. مملكة.
والواقع، لم يرفض يسوع لقب “مَلك” إلاّ عندما فُهم بحسب النظرة السياسية، اما عندما كان يتحدث عن ملكوت الله كمُلك حق وحياة، مُلك قداسة ونعمة، مُلك حب وسلام، فلم يكن يرفض هذا اللقب، بل كان يوضِّحه وذلك في ثلاث وقائع وهي:
الواقعة الأولى تكمن في لقاء يسوع بالسامرية، إذ صرَّح علانية لها بانه المسيح المنتظر، ملك إسرائيل. فلما قالَت لَه المرأة السامرية “إِنِّي أَعلَمُ أَنَّ المَشيحَ آتٍ، وهو الَّذي يُقالُ لَه المسيح، وإِذا أَتى، أَخبَرَنا بِكُلِّ شَيء”. قالَ لَها يسوع: “أَنا هو، أَنا الَّذي يُكَلِّمُكِ” (يوحنا 4: 25-26). فقد كان السامريون ينتظرون مسيحا بمثابة مَلك نبوي مثل موسى، وبالتالي لم يكونوا ينتظرون مسيحا سياسيا بل ملكا روحيا، لذا كشف يسوع عن هويته المسيحانية للسامرية يقينا منه أنَّها ستفهم نوعا ما معنى مُلكه المسيحاني.

اما الواقعة الثانية فتكمن في لقاء يسوع الأخير بيلاطس خلال استجوابه بشأن ” اتهامه “أَأَنتَ مَلِكُ اليَهود؟ (يوحنا 18: 33)، انتهز يسوع ان الفرصة ان يعلن مُلكه، ولم ينكر هذا اللقب بل أجابه “هوَ ما تَقول، فإِنِّي مَلِك. وأَنا ما وُلِدتُ وأَتَيتُ العالَم إِلاَّ لأَشهَدَ لِلحَقّ. فكُلُّ مَن كانَ مِنَ الحَقّ يُصْغي إِلى صَوتي” (لوقا 18: 36). ولكنه وضّح “لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم. لَو كانَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم لَدافعَ عَنِّي حَرَسي لِكي لا أُسلَمَ إِلى اليَهود. ولكِنَّ مَملَكَتي لَيسَت مِن ههُنا (لوقا 18: 37)، ولا تمثلها في هذا العالم أية مملكة بشرية فلا مجال للمنافسة بينه وبين قيصر (لوقا 23: 2). فقد اتخذ مُلك يسوع طابعا خاصا يُميّزه عن نظام العالم السياسي. لذلك لا تنافس بأية حال من الأحوال مع سلطة الملوك الارضيين، بل على المسيحيين الخضوع لملوك هذا العالم وتقديم الاكرام لهم كما جاء في تعليم بطرس الرسول ” إِخضَعوا لِكُلِّ نِظامٍ بَشَرِيٍّ مِن أَجْلِ الرَّبّ: لِلمَلِكِ على أَنَّه السُّلْطانُ الأَكَبَر، وللِحُكَّامِ على أَنَّ لَهمُ التَّفويضَ مِنه “(1بطرس 2: 13)، ولكن على شرط الا يعارضوا بها سلطة يسوع الروحية والقيم الانسانية.

واما الواقعة الثالثة فلم يتنكر يسوع لاعتراف نتنائيل “أَنتَ مَلِكُ إِسرائيل ” ، الاَّ انه وجّه أنظاره نحو مجيء ابن الانسان قائلا له ” الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: ستَرونَ السَّماءَ مُنفَتِحَة، وملائِكَةَ اللهِ صاعِدينَ نازِلينَ فَوقَ ابنِ الإِنْسان” (يوحنا 1: 49) وأخيراً لم يُكلِّم يسوع المسيح رسله عن ملكوته إلاّ في الوقت الذي بدأ فيه آلامه ” أَنا أُوصِي لَكم بِالمَلَكوت كَمَا أَوصى لي أَبي به، فتَأكُلونَ وتَشرَبونَ على مائدتي في مَلكوتي” (لوقا 22: 29-30)، موجّها انظارهم نحو الأزمنة الأخيرة. فالاحتفال بالمسيح الملك هو الاحتفال بانتصاره المجيد من خلال موته على الصليب وقيامته مجيداً ومنتصراً. وعليه فأن مُلك الملك المسيح يكمن في العلاقة معه، وهذا العلاقة لا تنطوي على السلطوية وسحق الانسان بل بإعطائه الحياة والخلاص.
2) ملك يسوع يتسم بقدرته على الخلاص
لم بيّن لوقا الإنجيلي للشعب اليهودي ورؤسائه والجنود الرومان ان مُلك يسوع يخلو من كل صيغة انتصارية بشرية فحسب إنما بيّن لهم ايضا أنَّ يسوع مَلكا من خلال قدرته على الخلاص
أ‌) يسوع الملك المخلص امام الشعب ورؤساء اليهود:
“وقَفَ الشَّعْبُ هُناكَ يَنظُر، والرُّؤَساءُ يَهزَأُونَ فيقولون: ((خَلَّصَ غَيرَه فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَه، إِن كانَ مَسيحَ اللهِ المُختار!” (لوقا 23: 35). فاعترف الرؤساء بألسنتهم ” خَلَّصَ غَيرَه “، ويصير اعترافهم هذا شهادة ضدهم. ونرى هنا شدَّة عمى الشعب ورؤساءهم إذ تذكروا أعمال الرحمة التي سبق الرب وأجراها للمُتضايقين فإنهُ خلّصهم من شدائدهم المُتنوعة فقالوا: فليُخلِّص نفسهُ إن كان هو المسيح مُختار الله، وكان فكرهم أن المسيح مَتَى جاء يمكث إلى الأبد فلما نظروا يسوع الناصري مُسمرًا على عود الصليب جزموا تمامًا أنهُ مُضل كما حكموا عليهِ لدى مجمعهم. ولم يفهموا فحوى النبوات القديمة عن المسيح أي الآلام والأمجاد التي بعدها كما جاء في رسالة بطرس الرسول” بَحَثوا عنِ الوَقتِ والأَحوالِ الَّتي أَشارَ إِلَيها رُوحُ المسيحِ الَّذي في الأنبياء، حينَ شَهِدَ مِن ذي قَبْلُ بِما عُدَّ لِلمَسيحِ مِن الآلام وما يَتبَعُها مِنَ المَجْد “(1بطرس 11:1).
واما طلب رؤساء اليهود من يسوع ان يُخلص نفسه “خَلَّصَ غَيرَه فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَه، إِن كانَ مَسيحَ اللهِ المُختار! ” (لوقا 23: 35)، فيتضمّن هذا الطلب تحديين:
التحدي الأول: زعموا أنه إذا فشل يسوع في ان يُخلص نفسه فهو يخسر دَعواه في ان يُقبل كملك “إِن كُنتَ مَلِكَ اليَهود فخَلِّصْ نَفْسَكَ!” (لوقا 23: 37). وإذا لم يقدر يسوع ان يخلص نفسه، فلن يُصدّق أحد ان باستطاعته ان يخلصّ آخرين”. لكن العلامة التي قدّمها يسوع المسيح للامة اليهودية برهانا على مُلكه ليس نجاته من الموت، انما قيامته من بين الأموات ” اُنقُضوا هذا الهَيكَل أُقِمْهُ في ثَلاثَةِ أَيَّام! فقالَ اليَهود: ((بُنِيَ هذا الهَيكَلُ في سِتٍّ وأَربَعينَ سَنَة، أوَ أَنتَ تُقيمُه في ثَلاَثةِ أيَّام؟)) أَمَّا هو فكانَ يَعْني هَيكَلَ جَسَدِه. فلمَّا قامَ مِن بَينِ الأَموات، تذكَّرَ تَلاميذُه أَنَّه قالَ ذلك، فآمنوا بِالكِتابِ وبِالكَلِمَةِ الَّتي قالَها يسوع” (يوحنا 2: 19 -22). ومن ناحية أخرى ان يسوع نفشه اختار هذا الموت بملء حريته ” إِنَّ الآبَ يُحِبُّني لِأَنِّي أَبذِلُ نَفْسي لأَنالَها ثانِيَةً ما مِن أَحَدٍ يَنتزِعُها مِنَّي بل إنّني أَبذِلُها بِرِضايَ. فَلي أَن أَبذِلَها ولي أَن أَنالَها ثانِيَةً” (يوحنا 10، 18).
اما التحدي الثاني فهو طلب أَحَدُ المُجرمَينِ المُعَلَّقَينِ على الصَّليبِ للمسيح: ” أَلستَ المَسيح؟ فخَلِّصْ نَفْسَكَ وخَلِّصْنا! ” (لوقا 23: 39)؛ سخر هذا المجرم بالمسيح كما سخر به رؤساء اليهود. ولم يفهم ان المسيح قد جاء المسيح لا ليخلص نفسه، إذ هو غير محتاج إلى خلاص بل ليخلص الآخرين من الخطيئة، إنما كطبيب يتقدم ليشفي المرضى. فليس بنزول المسيح مِن على الصليب يصير مخلصًا للبشرية بل بموته من أجلها. فهدف حياة يسوع هو الخلاص، ” لِأَنَّ ابْنَ الإِنسانِ جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه” (لوقا 9: 10) ويعلق القديس أثناسيوس “بالحق أراد المخلص ربنا أن يُعرف مخلصًا لا بخلاص نفسه بل بخلاصه الآخرين. فالطبيب لا يُحسب كذلك بشفائه نفسه، بل بإبراز مهارته مع المرضى”.
ب‌) يسوع الملك المخلص امام الجنود الرومانيين
أعلن يسوع مُلكه الى بيلاطس والجنود الرومانيون من خلال الامه، إذ “سَخِرَ مِنه الجُنودُ أَيضاً، فدَنَوا وقرَّبوا إِلَيه خَلاًّ وقالوا ((إِن كُنتَ مَلِكَ اليَهود فخَلِّصْ نَفْسَكَ!” (لوقا 23: 36 -37) واخذوا يُحيُّوه بوصفه ملك اليهود ويتبارون في التهكم على هذا الملك، كما علّقوا رقعة على الصليب مكتوب عليها “هذا مَلِكُ اليَهود” (لوقا 23: 38)
قصد بيلاطس البنطي بهذه اللافتة السخرية من المَلك المصلوب أمام الجميع، هو ملك فَقَدَ مملكته الى الابد. كتبها باللاتينية ليظهر لإمبراطور قيصر أنه قتل من إدّعى المُلك وقاوم قيصر. وكتبها بالعبرانية إهانة للشعب اليهود، ليقول لهم “هوذا ملككم مصلوبًا”
والواقع ان المسيح نصَّب نفسه ملكًا على العالم بالصليب، واستخدم يسوع بيلاطس كي يُعلن للعالم “هذا مَلِكُ اليَهود” (لوقا 23: 38)، ” وكانَتِ الكِتابَةُ بِالعِبرِيَّةِ واللاَّتينَّيةِ واليُونانِيَّة” (يوحنا 19: 20). كُتبت اللافتة على الصليب باللغات الرئيسية، المعروفة للعالم آنذاك فالفلسفة جعلت اليونانية مشهورة، والقوانين والسلطة والإدارة الرومانية جعلت اللاتينية لغة مشهورة، والكتاب المقدس العهد القديم مكتوب بالعبرانية وهذا جعل العبرانية معروفة. وبذلك كان في اللغات الثلاث التي كتبت بها هذه العبارة كرازة لكل العالم المعروف، وفيها إعلان أن المسيح مَلكٌ على العالم كله، وانه بالحق ملك روحي على جميع الأمم، وليس خاصًا باليهود وحدهم كما ظنُّوا.
فاللغة العبريِّة هي لغة الشعب اليهودي والكتاب المقدس والدين اليهودي، وبهذا كانت الكتابة بالعبرية فيها شهادة أن يسوع المصلوب هو المسيح الموعود به والمسيح المنتظر. واللاتينية هي لغة الحكام والسياسة، وبهذا كانت هذه الكتابة شهادة أن المسيح “مَلِكُ المُلوكِ ورَبُّ الأَرْباب” (رؤيا 19: 16)؛ وأمَّا اللغة اليونانية فهي لغة الثقافة والفلسفة التي كانت سائدة في العالم كله وبهذا كانت هذه الكتابة شهادة ة الفلسفة أن المسيح هو رب الحق.
ويعلق الاب ثيؤفلاكتيوس” لقد كُتبت علّة يسوع بثلاث لغات مختلفة، حتى لا يفشل أحد من المارة به في معرفة أنه قد صُلب لأنه أقام نفسه ملكًا. لقد كُتبت باليونانية واللاتينية والعبرية، هذه اللغات التي يعني بها أكثر الأمم قوة (الرومان) وحكمة (اليونان) وعبادة لله (اليهود)، جميعها تخضع لسلطان المسيح ومُلكه”. وصارت علته تاجًا له يمثل حقيقته الخفية كمَلكٍ، كما جاء في سفر النشيد “أُخرُجْنَ يا بَناتِ أورَشَليم واْنظُرْنَ المَلِكَ سُلَيمان بِالتَّاجِ الَّذي تَوَّجَته بِه أمُّه في يومِ عُرسِه وفي يَومِ فَرَحِ قَلبِه” (نشيد الأناشيد 3: 11).
وباختصار، كانت اللافتة صادقة فيسوع هو ملك اليهود والامم وكل الكون. والقليلون الذين قرأوا اللافتة في ذلك الوقت فهموا معناها الحقيقي، فان يسوع المسيح بموته وقيامته قد وجّه ضربة قاضية الى حكم الشيطان ومملكته لقيام ملكوت الله على الأرض؛ إذ ان العنوان المكتوب فوق صليب المسيح أظهر الحُكم على اليهود، وأعلن نعمة الله الفائقة في وقت واحد، لأن مَلكهم المرفوض المُهان هو فادينا وإلهنا أيضًا. تنازل مرةً حتى صار منظره تعييرًا للناس وسُمر على خشبه بين لصيَّن ولم يقدر أن يُخلِّص نفسهُ وإيانا أيضًا. ولكن على الصليب، سطع هذا الملك امام الذين ينظرون إليه نظرة ايمان. فقد “ووَرَدَ في الكتاب ((سَيَنظُرونَ إِلى مَن طَعَنوا”(يوحنا 19: 37).
ج) يسوع الملك المخلص أمام المُجرمَينِ المُعَلَّقَينِ على الصَّليبِ
لم يعلن يسوع مُلكه الى بيلاطس والجنود الرومانيون من خلال الامه بل أيضا الى المجرمين المُعَلَّقَينِ على الصَّليبِ. يروي انجيل متى ان المجرمَيْن أخذا بالتجديف على يسوع المصلوب (متى 27: 44). وكانا كلاهما يعيرانه ثم بدأ أحد المجرمين يراجع نفسه ويتذكر خطاياه، فصار ” شُعلَةً مُنتَشَلَةً مِنَ النَّار؟” (زكريا 2:3). والكنيسة تعودت أن تطلق على هذا المجرم التائب، لقب ” اللص اليمين”؛ فهو بتوبته وبإيمانه بالسيد المسيح صار عن اليمين مثل الخراف وترك المكان الأيسر الذي للجداء للص الآخر كما جاء في تعليم يسوع “فيُقيمُ الخِرافَ عن يَمينِه والجِداءَ عن شِمالِه”(متى 25: 33).
رأى اللص اليمين يسوع المصلوب المُشرف على الموت وقد انتهى الملكوت في نظر أي من رأى يسوع معلّق على الصليب، ولم يكن من السهل ان يثق المجرم في يسوع المصلوب، وبالرغم من ذلك تخطَّت نظرته من الخزي الحالي الى المجد الآتي. وآمن ان المسيح صُلب كي يفتح باب الفردوس، باب ملكوته، فاعترف به ملكا، إذ قال: “أُذكُرْني يا يسوع إِذا ما جئتَ في مَلَكوتِكَ” (لوقا 23: 42). رأى اللص اليمين صورة يسوع ملكا متألما معه كما جاء في تصريحه لزميله المجرم “أَمَّا نَحنُ فعِقابُنا عَدْل، لِأَنَّنا نَلْقى ما تستجوبه أَعمْالُنا. أَمَّا هو فلَم يَعمَلْ سُوءًا)).” (لوقا 23: 41)، وكأنه يقول مع بولس الرسول “إن كنا نتألم معهُ لكي نتمجد أيضًا معهُ” (رومة 8: 17).
رأى اللص اليمين صورة يسوع مَلكا مُظَفراً على عرش الصليب العظيم. رأى صليبه عرشا، ويعلق القديس أوغسطينوس “الصليب نفسه إن تأملناه حسنًا هو كرسي للقضاء. فقد جلس الديان في الوسط: لص آمن فخلص، وآخر جدّف فأُدِين. لأنه ديان الأحياء والأموات، نعم فالبعض عن يمينه والآخر عن يساره”. فأعطى المسيح المصلوب الفردوس للص اليمين وترك اللص اليسار، فكان يسوع ديانًا وهو على الصليب.
ورأى اللص اليمين في ضعف يسوع قوة، وقاده اعترافه إلى الإيمان، وانفتحت عيناه فعرف أن المسيح هو مَلكٌ. عَرِفَ أن المسيح هو ملك روحاني وليس أرضي. وكان هناك إلهام إلهي لهُ، كما سبق المسيح وقال لبطرس “فلَيسَ اللَّحمُ والدَّمُ كشَفا لكَ هذا، بل أَبي الَّذي في السَّمَوات.” (متى 16: 17)؛ والله هو الذي يكشف عن العيون وهذا لمن يريد الابن أن يكشف له كما صرّح يسوع المسيح “قد سَلَّمَني أَبي كُلَّ شَيء، فما مِن أَحَدٍ يَعرِفُ مَنِ الِابْنُ إِلاَّ الآب، ولا مَنِ الآبُ إِلاَّ الِابنُ ومَن شاءَ الِابنُ أَن يَكشِفَهُ لَه” (لوقا 22:10)؛ فيعلق القديس يوحنا الذهبي الفم ” قل لي أيها اللص كيف تذكرت ملكوت السماوات؟ ماذا حدث الآن وأمام عينيك المسامير والصليب والتهمة والهزء والشتائم؟ فيقول: نعم أرى هذه كلها ولكن الصليب نفسه رمز الملكوت، فلذلك أدعو المصلوب عليه ملكًا، لأنه يجب على الملك أن يموت عن رعيته” وان المسيح على صليبه لِعلَّة في نفوس الناس.
رأى اللص اليمين يسوع المصلوب وآمن به دياناً، فكان لهُ الفردوس؛ لذا وصفه القديس أوغسطينوس “اللص الصالح” بأنه “خير سارق، بما أنّه في اللحظة الاخيرة سرق الفردوس” وعلق البابا غريغوريوس الكبير “على الصليب سُمرت يدا المجرم وقدماه ولم يبقَ فيه شيء حر سوى قلبه ولسانه”. وبهما اعترف بيسوع ملكا بلسانه وآمن به بقلبه ” فالإِيمانُ بِالقَلبِ يُؤَدِّي إِلى البِرّ، والشَّهادةُ بِالفمِ تُؤَدِّي إِلى الخَلاص” (رومة 10: 10)، اعترف اللص اليمين بهذا الملك العظيم المصلوب، أمام جماهير الحاقدين، وطلب من صاحب العرش: أُذكُرْني يا يسوع إِذا ما جئتَ في مَلَكوتِكَ (لوقا 23: 42) وآمن به بقلبه فعلّق القديس أوغسطينوس ” آمن اللص في الوقت الذي فيه فشل المعلمون أنفسهم تمامًا. واعترف بذاك الذي رآه مُسمَّرًا على الصليب، ولم يره ملكًا”. اعترف اللص فوجد أبواب الفردوس مفتوحة!
لما كان هذا الرجل المجرم على وشك الموت توجّه الى المسيح طالبا الغفران” أُذكُرْني يا يسوع إِذا ما جئتَ في مَلَكوتِكَ”(لوقا 23: 42)، فقبله المسيح. وهذا دليل على ان الوقت ليس متأخرا كي يبدا العودة الى الله. لقد كان يسوع حتى في أقسى وأسوأ الأحوال، رحيما بهذا المجرم الذي قرَّر الايمان به في لحظات موته. وعلق القديس ايرونيموس ” المسيح نفسه جلب اللص من الصليب إلى الفردوس، ليُظهر أن التوبة لن تتأخر في عملها. لقد حوَّل موت القاتل إلى شهيدًا”. ان الاهتداء اللص اليمين كان له الاهتمام الخاص عند لوقا من حيث ان هذا يوضح حقيقة ان الخلاص بابه مفتوح دائما للجميع، ليس فقط الى اللص اليمين وقائد المئة ويوسف الرامي ونيقوديموس، انما الى كثيرين غيرهم أيضا.
وأخيراً رأى اللص اليمين مُعجزة من المعجزات وهي انه رأى المسيح المصلوب قد زلزلَ الأرض من تحت اقدام الذين صلبوه، وشق الصخر عند الجلجلة، وغفر لصالبيه، وجعل النهار ظلاماً، وجعله آهلا للفردوس. تلك آية اتاها يسوع على الصليب ليرى الناس ان صليبه عرش الرحمة والنعمة والحياة. وباختصار، ظهرت ملكية يسوع على الصليب وهو في أعظم ذل هوان وعار، وهو مُعلق بين السماء والأرض، ويحيط به اثنين من المجرمين، فسمع صلاة اللص اليمين ليس لأنه سرق وقتل، لكن بسبب توبته والاعتراف به مسيحا ملكا وهو على صليب العار.

الخلاصة
إن ملكوت الله ليس مكانا او سلطة بل شخصا، هو شخص يسوع المسيح. والدخول الى ملكوته هو علاقة حميمة مع المسيح الذي يقودنا الى الآب كما حدث مع اللص اليمين، فالحياة هي أن تكون مع المسيح، وحيث يوجد المسيح يوجد ملكوته.
ما من طريق آخر لفهم مُلك المسيح الا هذا، ان يعي المرء ان مواجهة الشر بالشر هو فشل، هو هزيمة ورضوخ لمنطق الشر. اما قوة المسيح فهي قوة الحب، وملكوته هو ملكوت الحب كما صرّح بولس الرسول” لا تَدَعِ الشَّرَّ يَغلِبُكَ، بلِ اغلِبِ الشَّرَّ بِالخير”(رومة 12: 21)؛ فيسوع هو مَلك لأنه أحب الى اقصى الحدود كما صرّح يوما لتلاميذه ” لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه.” (يوحنا 15: 13)، وبهذا الحب هدم سور العداوة وصار هو سلامنا. كما جاء في تعليم بولس الرسول “فإِنَّه سَلامُنا، فقَد جَعَلَ مِنَ الجَماعتَينِ جَماعةً واحِدة وهَدَمَ في جَسَدِه الحاجِزَ الَّذي يَفصِلُ بَينَهما، أَيِ العَداوة ” (أفسس 2: 14)، فيسوع يعلمنا ان مُلكه الحقيقي هو الغفران والخدمة والتواضع والمحبة وحيث تملك المحبة فهناك يملك المسيح.
الدعاء:
نسألك، أيّها الربّ يسوع المصلوب، الذي أعلنت نفسك ملكا على جميع من يؤمنون بك رباً والها، اذكرنا في ملكوتك كما ذكرت اللص اليمين، فنرى في صليبك، صليب الفداء والخلاص، فلا نستَحْيِ بِالشَّهادة لك بتحمل صليبنا اليومي فننتقل الى ملكوتك السماوي فنسبّحك مع الملائكة والقديسين للأبد. آمين