لذلك أقول لكم ألا تحملوا همّاً…
البطريرك بيتسابالا
يقدّم مقطع الإنجيل الذي نستمع إليه اليوم موضوعاً مميّزاً سنقوم بدراسته.
في البداية يذكر المقطع أننا لا نستطيع أن نخدم سيّديْن: لقد صُمِّم قلب الإنسان لتحقيق غاية واحدة بشكل كامل.
ثم يواصل يسوع كلامه قائلاً: لذلك أقول لكم ألا تحملوا همّاً…
إن كلمة “لذلك” تربط بشكل مباشر كل ما سيقوله عن العناية الربانيّة والآية السابقة التي تأمرنا بعدم خدمة سيدين.
ما معنى ذلك؟
نستطيع تفسير هذا المقطع بالرجوع إلى السياق الكامل للعظة على الجبل.
في هذه الآحاد، أشار يسوع إلى الشريعة القديمة، التي أعطاها الله لموسى، وقام بقراءة وتفسير الأحكام المختلفة حسب الغاية الأصلية لوجودها. في جميع الأحوال لم تهدف هذه الغاية الأصليّة إلى اقتلاع الشر من جذوره، بل إلى تحقيق مصير الإنسان في كماله التام.
لقد قام يسوع بنسخ ونقض ستة مواضيع تتعلق بالقتل والزنى والطلاق وحلف اليمين والانتقام ومحبة الأعداء.
نستطيع هنا أن نجد النقض نفسه في الآيات اللاحقة.
في الواقع، إن أول وصيّة أعطاها الله لموسى تتعلق بعبادة الأوثان وتقول: إن قلب الإنسان لا يمكن أن ينال الاكتفاء إلا من خلال عبادة الله الواحد: لا يكن لك آلهة سواي (خروج ٢٠: ٣). يعرف الله أن التجربة الكبرى للإنسان تتمثّل، لا في عدم الإيمان به، ولكن بالأحرى في خلق إله حسب مقاييسه، ووضعه جنباً إلى جنب مع الله الواحد الحق.
إنّها تجربة جسيمة، لأن العلاقة مع الله لا يمكن تنشأ إلا على حساب الثقة المطلقة. فقط من خلال استيداع حياتنا بين يديه نستطيع أن نختبر محبته.
لهذا السبب يرجع يسوع إلى هذه الوصيّة.
يشير في البداية إلى إمكانيّة الوقوع في تجربة عبادة الأوثان في أي لحظة، إذ تتفشى هذه التجربة حين يضع المرء أمنه وأمانه في المال: يصبح المال وثناً، يدّعي على ما يبدو حل المشاكل وإعطاء الأمان والحياة، ليصبح بعد ذلك سيّداً متطلّباً يحوّل الحياة إلى عبوديّة: يتمثّل الخطر ليس في خدمة المال للإنسان بل في أن يخدم الإنسان المال. ينتج الخطر عندما يسيطر الغنى على الأفكار والمشاعر والإرادة: يصبح الإنسان حيّاً من أجل هذه الغاية، يعيش لكي يمتلك.
وعلى غرار أمثلة “النقض” الأخرى، لا يتوقف يسوع هنا.
سمعتم إنّه قيل: يجب عدم امتلاك الأوثان وأما أنا فأقول لكم: لا تحملوا همّاً.
خلف عبادة الأوثان هذه، ينشغل الإنسان في المشاكل والهموم، وإلى هذا الأمر يريد أن يصل يسوع.
الغاية الأصليّة للشريعة ليس أن يكون للإنسان إله واحد وحسب بل أن يتحرر من الحاجة إلى الانشغال بنفسه دائما، وأن يتحرر من العزلة، حيث يتحقق ذلك ليس بمضاعفة موارد الأمان بل من خلال وضع حياتنا بين يدي الآب.
لربما هذا هو المقطع الأكثر تحديّاً في العظة على الجبل، والذي يستمد منه كل شيء آخر.
ماذا علينا أن نفعل لنبني الثقة؟
على غرار الأحد الماضي (عندما دعانا يسوع أن ننظر كيف يُطلع الآب الشمس والمطر على الجميع، بدون تمييز، راجع متى ٥: ٤٥)، يقول لنا اليوم أن نبدأ بالنظر: أنظروا طيور السماء وزنابق الحقل (متى ٦: ٢٦– ٢٨) لندرك كيف أن العناية الربانيّة قادرة أن تعتني بالخليقة، حتى في تفاصيلها الصغيرة.
لنتمرّس على النظر، لكي يكون نظرة إيمان. هكذا سندرك أن الآب يعرف ما نحتاجه. كيف سيحرمنا الله من كل شيء وهو الذي أرسل لنا ابنه؟ بدل القلق وحمل الهموم، يقترح يسوع موقفاً آخراً، يتمثّل بالطلب والسعي.
“أطلبوا أوّلاً مَلكوتَ الله ومشيئتَه، فيزيدكم الله هذا كُلّه” (متى ٦: ٣٣).
لقد رأينا مرات عديدة، في الفصول الأولى للقديس متى، أن ملكوت الله وبرّه ليسا إلا إرادة الله في أن يحبّنا ويخلّصنا. ثم يقول يسوع: توقفوا عن التفكير بأنفسكم، وابدأوا التفكير بخير الآخرين وحاجاتهم.
وبنفس الطريقة التي يعتني الآب بنا، فهو يعلّمنا الاعتناء ببعضنا البعض.
بهذه الطريقة لن يخيفنا الغد، ولن يكون هناك داعٍ للقلق اليومي بسبب التفكير بالغد.
في الحقيقة، إن القلق والمتاعب يمتلكان القدرة على تعكير صفو الوقت الحاضر: الغد يطغى على اليوم، ويملأه بالانشغالات، ويمنعنا في النهاية من أن نعيش.
بالمقابل، إن طلب الملكوت يعيد إلى الحاضر النظام والهدوء النفسي : الغد يهتمّ بنفسه، ولكل يوم من المتاعب ما يكفيه (متى ٦: ٣٤)؛ مثل ذلك مثل شعب إسرائيل الذي تعلم من عبرة المنّ (خروج ١٦)، حيث منع الرب من الاحتفاظ بأي شيء إلى الغد، لأن اليوم التالي سيكون يوماً لن ينسى فيه الله إطعام شعبه وإرسال الحصّة اللازمة من المن.
+ بييرباتيستا بيتسابالا