محبّة يسوع للناس سبب حياة للجموع

الأب بيتر مدروس

يتساءل رسول الامم الإناء المختار بولس (رومية 8 : 35 و 39) : “مَن يفصلنا عن محبّة المسيح؟” معنى العبارة: المُضاف إليه هنا (“المسيح”) يحلّ محلّ الفاعل أي حبّ السيّد المسيح لنا (كما في آية 39: “محبّة الله التي ظهرت في المسيح يسوع ربّنا”)، وأيضا محبّتنا نحن للمسيح – بمعنى المفعول المحبوب.

ويحلّل قدس الأب الرّاحل ستانيسلاس ليونيه اليسوعيّ، المتخصّص في الرسالة إلى الرومانيين، هذه الصيغة أي المضاف إليه في عبارة “محبّة المسيح” مستنتجاً أنّه “مضاف إليه لاهوتي روحاني وجداني” (في الفرنسية “génitif mystique”). ولعلّ الملء اللاهوتي ذاته وارد في إعلان بولس الرسول إلى القورنثيين ( 2 قور 5: 14): “إنّ محبّة المسيح تأخذ بمجامع قلوبنا”. فالله في المسيح أحبّنا أوّلاً “حتّى الموت، الموت على الصليب” (عن فيليبي 2 : 4 وتابع)، ومحبّتنا له تسعى لتقابل نوعاً ما ذلك الحب غير المحدود.

لا شيء ولا أحد يقدر أن يفصلنا عن محبّة الله لنا. “لا الموت ولا الحياة”، بحيث أن لا فرق عندنا بين الحياة والوفاة ، بما أنّ الجسد وحده هو الذي يموت. عليه، نصلّي عن أرواح الموتى، وهم خصوصاً القدّيسون منهم والأولياء، يصلّون من أجلنا. ونحن على الأرض نبقى روحانيّاً ووجدانيّاً “في أورشليم السماوية، مع أرواح القدّيسين الّذين بُلّغوا الكمال” (عِبر 12: 23).

“من يفصلنا عن محبّة المسيح؟ أشدّة أم سيف…؟” وها قد وقع السيف على رؤوسنا – معشر مسيحيي المشرق، “قاسيًا فظًّا” كما كان يكتب مار صفرونيوس بطريرك المدينة المقدسة. حصد السيف رؤوسنا ورقابنا وأجسادنا في “الرقّة” من غير رِقّة، وفي الموصل وفي مصر حتى السنة الأخيرة، وفي مدن وقرى أخرى ليس فقط في الشرق، بل ايضًا في افريقيا مثل نيجيريا وسواها. وفضّل معظم المسيحيين الموت على أن يخونوا الرب القدّوس وإنجيله الطاهر وكنيسته المقدّسة. وقبلوا الشدائد من تعذيب وطرد وسلب ونهب وحاولوا حماية أعراض نسائهم وبناتهم… وتمّ صلب – نعم صلب – لعدد من المسيحيين، فساعدهم خصوم يسوع وأعداء الإنسانيّة أن يتشبّهوا بالمخلّص المصلوب، “وأكملوا في أجسادهم ما نقص من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة” *(1 ). وتمّت مرّة أخرى الكلمات السيّديّة التي تخترق الأجيال: “سيبغضكم الكلّ من أجل اسمي ، ولكن مَن صبر إلى المنتهى نال الخلاص”. ونأمل أن تتحقّق في مسيحيي الشرق وسائر المسيحيين المضطَهدين كلمات ترتليانوس :”دماء الشهداء بذور المسيحيين”!

ولكن من يفصلنا نحن وماذا عن محبّتنا نحن للمسيح؟ قيل عن إحدى مدن الشرق الأوسط: “الماء فيها والهواء يطيّران الدّين!” أي كلّ إنسان أو كلّ شيء يستطيعان أن يفصلانا عن محبّتنا نحن لله! نزوة شهوة شهيّة حبّ في غير موضعه طمع وجشع – هما “عبادة أصنام” و”أصل كلّ الشرور” (عن تيموثاوس الاولى 6: 10) حقد يعمي الأبصار والبصائر، وألف منغّص ومنغّص “لضعف أجسادنا” في حين أنّ “ارواحنا مستعدّة”.

يكتب القدّيس توما الأكويني: “محبّة الله سبب الطّيبة في الخلائق”. وفي قراءة الانجيل الطاهر (متّى 14: 13-31) “محبّة يسوع للناس سبب حياة للجموع”: تُشبع الجياع وتروي العطاش في قفر الحياة .

خمسة أرغفة وسمكتان تشبع خمسة آلاف ونيّف من الناس، من غير تمييز بين رجال ونساء وبين كبير وصغير. من المؤسف أنّ عدداً من “مفسّري الكتاب المقدّس” يرفض كلّ معجزة مبدئيّاً وبشكل قاطع متأثّرين من أفكار “بولتمان”. يزعمون أنّ المسيح ما كثّر لا الخبز ولا السّمك (هذه مخالفة صريحة لنصّ الانجيل المقدّس الذي يؤكّد وجود خمسة أرغفة وسمكتين) بل أنّ المعجزة كانت “في المشاركة” بين الناس! لا شيء في السرد الانجيلي الكريم يُثبت هذه النظريّة، فلا فضل للناس في الفكرة ولا دور لهم في التوزيع!

أليس الإله المتأنّس قادراً على تكثير الخبز والسمك؟ ألا يستطيع “الذي يحلّ فيه كلّ ملء اللاهوت جسدياً” (عن قولسي 2: 9) أن يكثّر خلائقه وهو “الذي به كان كلّ شيء وبغيره ما كان شيء؟”

كلمة الله تُحيينا وتُشبعنا وتُروينا. وكلام الناس يجعلنا نجوع ونعطش. فلنذهب إلى يسوع معلّم الجليل “الجليل”!

* (1) آلام المسيح بحدّ ذاتها كاملة تامّة مُطلَقَة، ولكنّها ناقصة من ناحية أنّنا علينا نحن المسيحيين أن نشارك فيها، فالمسيحي الذي يتألّم يثكمل دوره في “المسيح الكامل” أي المسيح والكنيسة.