“مَن هو يسوع”

البطريرك بيتسابالا

في إنجيل لوقا نلتقي بزكا مرتين (١٩: ٣- ٤) وهو يحاول رؤية يسوع. تحرّكه رغبة داخلية عميقة، وربّما مجرد فضول بشري.
لم يتوقع زكا أبداً أن تأخذ الأمور المَنحى الذي أخذته: يقول النص أنّه أراد رؤية “مَن هو يسوع” (آية ٣) ولكن لم يحلم باستقباله في بيته. لم يتوقع ذلك، بسبب العقبات التي كانت تحول دون هذا اللقاء: كان زكا قصير القامة، خاطئاً في نظر الجميع (من كبار جباة الضرائب، الآية ٢)، وكان غنيّا إذ جمع ثروته، بكل تأكيد، بصورة غير شرعية.
هذا ما كان الناس يتذمرون به فور دخول يسوع بيت زكا: “دخَلَ بيتَ رجُلٍ خاطئٍ ليُقيم عِندَه“. (آية ٧) ولربما هذا ما اعتقده زكا أيضاً عن نفسه. هو يعلم أنه ليس أهلًا ولا يملك الحقّ في استقبال يسوع في منزله.
في الإنجيل، كثيراً ما نقرأ أن الأشخاص الراغبين في لقاء يسوع يواجهون عقبات يمكن أن تحبطهم. وتتباين طبيعة هذه العقبات: بعضها ذات طبيعة أخلاقيّة (بالنسبة للخاطئ، مثل المرأة الزانية في لوقا ٧: ٣٦– ٥٠)، أو طقسية (كالبرص المفروض عليهم الوقوف على بعد وعدم الدنو من الناس الأصحّاء، لوقا ١٧: ١٢)، وبعضها مرتبط بالموقف الذي يعيشه الإنسان (عند تزاحم الجموع وعدم إمكانيّة الاقتراب في لوقا ٨: ٤٤).
ونجد كل هذه العقبات مجتمعة معا في طريق زكّا. فكان من غير المرجّح لا بل شبه مستحيل، والحالة هذه، أن يلتقي بيسوع.
وبالرغم منها، حصل اللقاء.
لم يتم اللقاء لأن زكا اهتدى الى المسيح، بل بكل بساطة لرغبة قويّة في نفس يسوع. يسوع هو الذي بادر ودعا نفسه إلى منزل زكا.
في الأناجيل كثيراً ما نجد يسوع يتناول الطعام مع شخص ما، ولكن الداعين هم الفريسيّون وحدهم (لوقا ٧: ٣٦؛ ١١: ٣٧؛ ١٤: ١…). هم الوحيدون الذين يرون أنفسهم مستحقين أن يدعوه. بينما في البيوت الأخرى (بيوت من لا يسمحون لأنفسهم دعوته) فإن يسوع هو الذي يبادر ويدخل.
يدخل يسوع منزل زكّا ليس لأن زكا مستحق بل لأن يسوع أراد ذلك، ولأنه جاء خصيصا “ليبحث عن الهالكين ويُخلّصهم” (آية ١٠). في هذا المقطع من الإنجيل، تمّ استعمال فعل “بحث” مرتين. أول مرة كان الفاعل هو زكا، والمرة الثانيّة الفاعل هو يسوع….
في البداية يبدو أن كبير جباة الضرائب هو الذي كان يبحث عن المعلّم، ولكن اتضح أن الواقع كان معاكسًا تماماً.
كان زكّا يحاول فقط رؤية يسوع. أما يسوع فكان يطمح إلى أكثر من ذلك. لم يقبل أن يراه ويلتقيه في الطريق وحسب، بل رغب في دخول بيته، وإنشاء علاقة ألفة معه.
بالنسبة لنا، لنقرّ بأن رغبتنا في إنشاء علاقة مع الرب تتوقف في بعض الأحيان عند مرحلة ما، لا نجرؤ على تجاوزها. لا نجرؤ على التفكير بأن الرب سيَدخل بيتنا، وسيعيش في أعماق حياتنا وسيُعطينا حنانه. لا نجرؤ على التفكير بأن الرب يحبُّنا بلا قيد أو شرط، وأنّه أول من يبادر إلى محبتنا.
جميع هذه الأمور تتجاوز توقعاتنا المهزوزة.
بالعكس، يريد الرب أن يذهب إلى أبعد. يريد أن يمنحنا رحمته لأن رغبته في خيرنا هي بلا حدود.
نحن لا نذهب “إلى أبعد من ذلك“، ربما لأننا نعرف – ونخشى – أن اللقاء مع الرب سيُغيّر حياتنا.
هذا ما حصل مع زكّا الذي “وقف وقال للربّ: «يا ربّ، سأُعطي الفقراء نِصف أموالي، إذا كُنتُ ظَلمت أحداً في شيءٍ، أردّه عليه أربعة أضعاف»”. (آية ٨). صُدم زكا من محبة يسوع له، فتغيّرت نظرته إلى الحياة وأصبحت نظرة إرجاع للمسروق ونظرة مشاركة الآخرين في ما تبقى له. انه وعدٌ تضامني نحو الفقراء. نعم، لقد فهم زكا كلّ شيء.
وما أخذهه زكا مجانا أعطاه مجانا. وها هو يبالغ في إرجاع المسلوب لأنه يستمتع في العطاء ويجد راحة نفسيّة في المقاسمة.
كان الأمر مصدر فرح له. ومن المثير للاهتمام أن الآيات السابقة (لوقا ١٨: ١٨– ٢٣)، تروي لقاء يسوع برجل غني من الوجهاء سمع دعوة المعلّم الى التخلّي، فلرفض ومضى حزيناً. نلاحظ تباينًا واضحًا جداً بينه وبين زكّا الذي استقبل يسوع بـ “فرح” (لوقا ١٩: ٦).
نلاحظ هنا أن مصدر المشكلة ليس الثروة في حدّ ذاتها بل قلب الإنسان، الذي يتعلّق بالخيرات التي يمتلكها، ويغلق قلبه دون عطايا أثمن بكثير. بالفعل، بامكان الانسان الغني أن ينخدع وينغرّ ويشعر بالاطمئنان أمام الكثير الذي يمتلكه، ولكن بامكانه أيضا أن يندهش أمام السعادة التي تنتظره مقابل العطاء.
+ بييرباتيستا