الأحد الأول من الزمن الأربعيني (ج)
الأب لويس حزبون
يصف لوقا الإنجيلي (لوقا 4: 1-13) التجارب الثلاث وموقف يسوع منها. وتشدد هذه التجارب على رفضه الملكية الدنيوية والسياسية. يظهر يسوع هنا بمظهر آدم الجديد وإسرائيل الجديد الذي جُرِّب في البرية. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 4: 1-13)
1″ورَجَعَ يسوعُ مِنَ الأُردُنّ، وهو مُمتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، فكانَ يَقودُه الرُّوحُ في البرِّيَّةِ” : تشير عبارة “الرُّوحِ” الى الروح القدس الذي ناله يسوع في المعمودية، للقيام برسالته (لوقا 4: 14) ولمواجهة الشيطان. وعليه فقد بدأ اول عمل ليسوع بقدرة الروح القدس ليحطِّم قوة ابليس. وهذا يعني ان التجربة تدخل في مخطط الله. وهذا ما يؤكده النبي موسى للشعب ” يَمتَحِنَكَ فيَعرِفَ ما في قَلبِكَ هل تَحفَظُ وَصاياه أَم لا. “(تثنية الاشتراع 8: 1-2). ” اما عبارة “البرِّيَّةِ” فتشير الى برية أريحا، والبرية رمزٌ الى حيث يقيم الشرير، فهي أماكن خربة وقبور بحسب المفهوم اليهودي. والمسيح ذهب للشيطان في مسكنه ليحاربه.
“2أَربَعينَ يوماً، وإِبليسُ يُجَرِّبُه، ولَم يأكُلْ شَيئاً في تِلكَ الأَيَّام. فلَمَّا انقَضَت أَحَسَّ بِالجوع”: تشير عبارة “أَربَعينَ” الى فترة زمنية طويلة، فالرقم (40) هو زمن محنة ينتهي بلقاء مع الرب (التكوين 7: 4). ويرجح ان هذه الفترة تشير الى الوقت الذي قضاه موسى النبي على الجبل (خروج 34: 28) او الى الأربعين سنة التي قضاها بني إسرائيل في البرية (عدد 14: 34) والتي تشير الى مسيرة إيليا النبي أربعين يوما (1 ملوك 19: 8). اما عبارة “يوماً” فتشير للتجربة التي دامت أربعين يوما بعد اقامته في البرية، في حين ان إنجيل مرقس يشير ان التجربة دامت طوال إقامة يسوع في البرية. اما عبارة “إِبليسُ “ διάβολος (أي المشتكي او الفاسد) فتشير الى العدو الذي يعارض الله وإقامة ملكه ويسمى أيضا الشيطان، Σατανᾶς ( أي العدو)ويُدعى أيضا المجرّب او بعل زلول (مرقس 3/ 22) او بليعال او بليعار ( 2 قورنتس 6: 15). وقد أشار إليه المسيح في كلامه عن “النَّارِ الْأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لِإِبْلِيسَ وَمَلَائِكَتِهِ” (متى 25:41). اما عبارة “إِبليسُ يُجَرِّبُه” فتشير الى ان ابليس يجرّب المؤمنين ويسعى الى ان يوقعهم في الخطيئة (تكوين 22: 1) وأما الله فيمتحن شعبه. فالامتحان او الاختبار من الله، أما التجربة من الشيطان، لأنها تقوم على الشر لأجل إغواء الإنسان وابعاده عن الله. وفي هذا قال الرسول ” إِذا جُرِّبَ أَحَدٌ فلا يَقُلْ: ((إِنَّ اللهَ يُجَرِّبُني)). إِنَّ اللهَ لا يُجَرِّبُه الشَّرُّ ولا يُجَرِّبُ أَحَدًا ” (يعقوب 1: 13). أمَّا عبارة “أَحَسَّ بِالجوع” فتشير إلى ان يسوع إنسانا حقاً، وقد تعب يسوع وعطش (يوحنا 4: 6-7). وهكذا شابهنا في كل شيء ما عدا الخطيئة.
“3فقالَ له إِبليس: إِن كُنتَ ابنَ الله، فَمُر هذا الحَجَرَ أَن يَصيرَ رَغيفاً”: تشير عبارة ” إِن كُنتَ ابنَ الله” الى صوت الآب الذي سمعه يسوع وقت عماده ( متى 43: 17). ينطلق الشيطان بنوّة يسوع ” بما أنك ابن الله” لنزع الارتباط بالآب الذي أرسل ابنه الى العالم ليخلص العالم. اما عبارة “فَمُر هذا الحَجَرَ أَن يَصيرَ رَغيفاً” فتشير الى تجربة ابتعاد يسوع عن آدم الانسان الذي أكل خبزه بعرق جبينه إذا ما حوّل يسوع الحجر الى خبز.
“4فأَجابَه يسوع: مَكتوبٌ: لَيَس بِالخُبزِ وَحدَه يَحيا الإِنسان”: تشير عبارة “مَكتوبٌ” الى إجابة يسوع ليس بصفته ابن الله بل بصفته انسان، وهكذا يمكن لأي انسان ان يقولها.
“5فصَعِدَ بِهِ إِبليس، وأَراهُ جَميعَ مَمالِكِ الأَرضِ في لَحظَةٍ مِنَ الزَّمَن، 6وقالَ له: ((أُوليكَ هذا السُّلطانَ كُلَّه ومَجدَ هذهِ الـمَمالِك، لِأَنَّه سُلِّمَ إِليَّ وأَنا أُولِيه مَن أَشاء.” : تشير عبارة” أُوليكَ هذا السُّلطانَ ” الى قول الشيطان الذي يفتخر بان له ” السلطة على العالم، فيعرضه على يسوع ليكون المسيح الدنيوي الذي ينتظره معاصروه. لكن سلطان الشيطان مهدّد كما صرّح يسوع لتلاميذه ” كُنتُ أَرى الشَّيطانَ يَسقُطُ مِنَ السَّماءِ كالبَرْق.”(لوقا 10: 18) ومدة سلطان الشيطان قصيرة (لوقا 22: 53). السلطان الذي يدعو اليه ابليس هو سلطان زمني مؤقت، أما سلطان يسوع الذي يناله من الآب فهو يدوم الى الابد (لوقا 10: 22). أما سلطان يسوع فإنه لا يستمدّه إلا من أبيه كما صرّح يسوع: “قَد سَلَّمَني أَبي كُلَّ شَيء” (لوقا 10: 22). اما عبارة “سُلِّمَ إِليَّ” فتشير الى ان يسوع لم ينكر ما ادعاه الشيطان بل انه يقره.
7فَإِن سَجَدتَ لي، يَعودُ إِلَيكَ ذلكَ كُلُّه)): تشير عبارة “سَجَدتَ لي” الى الشرط الوحيد الذي يضعه إبليس. والسجود معناه الخضوع التام الذي لا يليق إلا بالله (متى 2: 2). فالسجود لغير الله هو عبادة الاصنام كما صنع شعبه في الصحراء فسجدوا الى العجل الذهبي. وان عبادة الاصنام هي في النهاية سجود للشياطين كما قال بولس الرسول (1قورنتس 10: 20-22).
” 8فَأَجابَه يسوع: ((مَكتوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد، وإِيَّاه وَحدَه تَعبُد)). 9فمَضى بِه إِلى أُورَشَليم، وأَقامَه على شُرفَةِ الـهَيكلِ وقالَ له: ((إِن كُنتَ ابنَ الله، فأَلْقِ بِنَفْسِكَ مِن ههُنا إِلى الأَسفَل” : تشير عبارة “أُورَشَليم” الى مكان التجربة الثالثة حيث انه حسب إنجيل لوقا تنتهي التجارب عنده في اورشليم حيث ستكون الآلام آخر تجربة للشيطان (متى 4: 11) ، وهي المعركة الأخيرة وانتصار يسوع النهائي. أما عبارة “شُرفَةِ الـهَيكلِ” فتشير الى اللفظة اليونانية πτερύγιον الى جناح الهيكل، وهو سور الزاوية الناتئ من سفح التل مشرفا على أسفل الوادي. ومن هذه النقطة كان ممكنا ليسوع ان يرى كل اورشليم. وقد طلب الشيطان من يسوع أن يُلقي بنفسه منه ليُظهر “مسيحيته” للجموع التي تحتشد عادة في ذلك المكان. إن الهيكل مع أروقته أعيد بناؤه في عهد هيرودس الكبير. وامتد الرواق حوالي 200 متر مع أعمدة ضخمة وكان الناس يجتمعون هناك. وكان الهيكل هو المركز الديني لكل الامة اليهودية. والمكان الذي كان اليهود ينتظرون مجيء المسيح اليه (ملاخي 3: 1). وضع لوقا التجربة الأخيرة في اورشليم، لان هذه المدينة هي البداية والنهاية في انجيله. اما في انجيل متى، فالجبل هو الأهم، لا سيما ان موسى كان على الجبل حيث رأى أرض الميعاد ولم يدخل اليها.
” 10لِأَنَّهُ مَكتوبٌ: يُوصي مَلائِكَتَه بِكَ لِيَحفَظوكَ”: تشير عبارة “مَكتوبٌ” الى ما ورد في الكتاب المقدس. يلجأ ابليس الى الكتاب المقدس ليحارب يسوع بسلاحه. لم يخطئ الشيطان في اقتباس النص الكتابي، لكنه أساء تطبيقه. أما عبارة “ومكتوبٌ أَيضاً: ((على أَيديهِم يَحمِلونَكَ لِئَلاَّ تَصدِمَ بِحَجَرِ رِجلَكَ)) فتشير الى مزمور 91: 11-21) الذي يصليه المؤمن حين يحتاج عون الله. وهي تستهدف المسيح خاصة بل كل إسرائيلي الذي لا ينتظر العون إلا من الله. ويستشهد الشيطان بالكتب المقدسة بحرفيتها، لكن يسوع يجيبه مستخلصا معناها الجوهري.
“12فأَجابَه يسوع: لقَد قيل: لا تُجَرِّبَنَّ الرَّبَّ إِلـهَكَ”: تشير عبارة “لا تُجَرِّبَنَّ” الى تجربة الإنسان لله إمّا لعصيانه لمعرفة مدى صبره كما كان الحال مع بني إسرائيل في الصحراء الذين جرّبوا الله من خلال مخاصمتهم موسى النبي” لِماذا تُخاصِموَنني ولماذا تُجَربونَ الرَّبّ؟ قائلين: هَلِ الرَّبُّ في وَسْطِنا أَم لا؟ ” (خروج 17: 2-7) وإما استغلال رأفته تعالى لمنافع شخصية كما جاء في قول الله “إِنَّ جَميعَ الرِّجالِ الَّذينَ رَأَوا مَجْدي وآياتي الَّتي صَنَعتُها في مِصرَ وفي البَرِّيّة، وجرَبوني عَشْرَ مَرَّات. ولم يَسمَعوا لِقَولي” (عدد 14: 22). رفض المسيح ان يجرّب الله كما طلب منه ابليس استنادا على كلمة الله ” لا تُجَرِّبوا الرَّبَّ إِلهَكم، كما جَرَّبتُموه في مَسَّة” (تثنية الاشتراع 6: 16).
“13فلَمَّا أَنْهى إِبليسُ جمَيعَ مَا عِندَه مِن تَجرِبَة، اِنصَرَفَ عَنه إِلى أَن يَحينَ الوَقْت”: تشير عبارة “يَحينَ الوَقْت” الى وقت مناسب أي التجربة الكبرى في بستان الجسمانية (لوقا 22: 53). ويروي لوقا الإنجيلي انتصارات عديدة ليسوع على الشياطين في معجزات الشفاء (4: 41 و6: 18 و7: 21) او في حوادث طرْده له (لوقا 8: 2). اما عبارة “جمَيعَ مَا عِندَه مِن تَجرِبَة” تشير الى كل نوع من أنواع التجربة التي تعرضت لها طبيعة الرب البشرية (عبرانيين 4: 15).
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي
بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (لوقا 4: 1-13) نستنتج انه يتمحور التجارب الثلاث وموقف يسوع منها.
1) التجربة
قبل البحث في موقف يسوع من التجربة يجدر بنا ان نتناول معنى التجربة ومكانها وسلاحها وهدفها وموضوعها وعلاقتها مع معمودية يسوع.
التجربة هي محاولة الشيطان ان يحبط مقاصد الله في حياة يسوع وفي حياتنا، وذلك عن طريق الاغراء من الخارج، والتأثير على الإرادة من الداخل لاتخاذ القرار قبولا او رفضا. فهي صراع عاشه يسوع خلال إقامته في البرية. وهي جزء من الخبرة البشرية. ولا تصبح التجربة خطيئة إلا بقرار القبول. فإذا قبل الانسان التجربة، كانت له التجربة موتا وهلاكا. وإذا لم يقبلها كانت له سبب أجرٍ وثواب.
اما موضوع التجربة فهناك الشكوك والتساؤلات التي يُثيرها الشيطان حول أقوال الله. فتبدأ التجربة في التشكيك في الله مما يسهل على الشيطان ان يقنع الانسان بعمل ما يريده. فالشك سلاح دو حدين قد يساعد الانسان على ترك اعتقاداته او تقوية إيمانه.
اما مكان التجربة فقد جرّب الشيطان حواء في جنة عدن، واما يسوع فجرَّبه الشيطان في البرية. ويختار الشيطان الأوقات التي يسدد فيها هجومه، خاصة في أوقات النصر (1ملوك 18-19) او في أوقات الإحباط (متى 4: 1-10). أما فيما يتعلق بتجربة المسيح فحدثت بعد ان امتلأ يسوع من الروح القدس وقت معموديته. فكانت تجارب الشيطان هجوما على موقف التسليم التام لله الذي اتخذه يسوع حينئذ لبدء رسالته العلنية.
اما ظروف التجربة فهي في أحرج الظروف. لم يجرّب يسوع في الهيكل او عند المعمودية، بل في البرية، وهو متعب ووحيد وجائع. والشيطان كثيرا ما يجربنا ونحن أضعف ما نكون عندما نكون متعبين، وعندما نشعر بالوحدة والعزلة، وعندما نواجه قرارات خطيرة، أو يساورنا الشك.
اما سلاح التجربة فقد استخدم الشيطان اقتباسات من الاسفار المقدسة واستشهد بها. لم يخطئ الشيطان في استخدام آيات الكتاب المقدس لكنه أخطأ في تفسيرها. لذا فإن معرفة كلمة الله وطاعتها سلاح فعّال ضد التجربة، كما جاء في تعليم بولس الرسول “واتَّخِذوا لَكم خُوذَةَ الخَلاص وسَيفَ الرُّوح، أَي كَلِمَةَ الله” (أفسس 6: 17). وقد استخدم يسوع الكلمة المقدسة في مواجهة هجمات الشيطان. ولكي نستخدمها بكفاءة وفاعلية لا بد ان نومن بمواعيد الله، لان الشيطان يعرف الاسفار المقدسة وهو بارع في استخدامها بصورة خادعة لتتناسب مع غرضه. وطاعة كلمة الله أهم بكثير من مجرد الاستشهاد بالآيات.
اما هدف التجربة فهو ان يلتقي يسوع مع ذلك العدو ويهزمه على أرض المعركة التي هي حياته “لأَنَّه قَدِ ابتُلِيَ هو نَفسُه بِالآلام، فهو قادِرٌ على إِغاثَةِ المُبتَلَين.”(عبرانيين 2: 18). إذ ان غرض خدمته هو تحدي قوة الشيطان في الآخرين وكسر شوكتها في النهاية. وبانتصاره على ابليس يتمّم وعد الله لما قال في جنة عدن لأبوينا الأولين ” فهُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه ” (تكوين3 :15). وبعبارة أخرى إن هدف التجربة هو انتصار يسوع على الشيطان وتقديم الخلاص لنسل آدم بصفته آدم الجديد. فكما ان آدم سقط في التجربة ونقل الخطيئة الى كل الجنس البشري، كذلك على يسوع آدم الجديد ان يقاوم التجربة وينتصر على الشيطان ويقدم الخلاص لكل نسل آدم (رومة 5: 12-19). وحيث خان آدم، كان يسوع أميناً، فصار مخلص جميع الذين يتقبلونه. جُرِّب فعرف ضعفنا، وصار ” مُشابِهًا لإِخوَتِه في كُلِّ شَيء، لِيَكونَ عَظيمَ كَهَنَةٍ رَحيمًا ” (عبرانيين 2: 17). واستطاع ان يساعد المجرّبين “ولأنه قَدِ ابتُلِيَ هو نَفسُه بِالآلام، فهو قادِرٌ على إِغاثَةِ المُبتَلَين” (عبرانيين 2: 18). وأخيرا بثبات يسوع على أمانته تجاه التجربة، كان مثال الثبات للمؤمنين.
ولذا إنَّ هدف التجربة أيضا هو تضامن يسوع مع الانسان الذي يتعرض لتجارب الشيطان كونه هو نفسه انسان. وحيث إنه إنسانٌ كاملٌ، لقد جّرب “فلَيسَ لَنا عَظيمُ كَهَنَةٍ لا يَستَطيعُ أَن يَرثِيَ لِضُعفِنا: لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة. (عبرانيين 4: 15). إن يسوع تجرَّب مثلنا، لكنه لم يستسلم مطلقا ولم يخطئ ابداً، فقدَّم لنا مثالا نحتذيه عندما نتعرض للتجربة، وذلك في كيفية مواجهة التجربة والتغلب عليها. فهو يعرف عن طريق اختباره ما نتعرض نحن له، وما نحن بحاجة اليه، وهو قادر ان يعيننا في تجاربنا.
وأعطت التجربة يسوع الفرصة ليثبّت خطة الله في خدمته. لقد كانت تجربة يسوع هامة لأنها أثبتت أنه كامل قدوس بلا خطيئة، فهو يواجه التجربة ولكنه لا يستسلم لها.
واخيرا فهناك صلة بين المعمودية والتجربة. فبالمعمودية تلقّى يسوع قوة الروح القدس وكرّس نفسه لطريق الصليب كي يموت لأجل خطايانا ويمنحنا فرصة لنيل الحياة الأبدية. امّا في التجربة فعرض الشيطان ليسوع طرقا لإنجاز خدمته دون ان يتعرّض للصليب. في المعمودية أكمل يسوع البر، وفي التجربة كان بِرَّه تحت الامتحان. ومنذ بداية رسالته العلنية جُرَّب يسوع في البرية ليدل على انه يحيا من كل كلمة تخرج من فم الله، بل دلّ أنه هو الكلمة. وهنا تضامن كل التضامن مع الوضع البشري، فقبل ان يجرِّبه ابليس كما يجرّبِ كل إنسان.
2) موقف يسوع من التجارب
يصف لنا أنجيل لوقا ثلاث تجارب تغوي الانسان في التمسك في الدنيا، وهي شهوة الجسد وشهوة العين وكبرياء الغنى، (1 يوحنا 2: 16) أشار اليها يوحنا الإنجيلي كشرط مطلوب صرف النفس عنها كي نسير في نور المسيح كما هو في النور.
التجربة الأولى: شهوة الجسد
تدل شهوة الجسد على الاهواء المنحرفة في الطبيعة البشرية. تقوم التجربة الأولى على ان يجعل يسوع من الحجارة خبزا، وذلك تلبية لحاجة جسدية وهي الجوع. استغل الشيطان الجوع والحاجة الجسدية لإثبات انه ابن الله. إذ استند الشيطان الى بنوَّة يسوع الإلهية وهي التي أعلنها الآب عند اعتماد يسوع “أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضِيت” (لوقا 3/ 22)؛ فاقترح ابليس على يسوع ان يستخدم قدرته العجائبية للتخلص من الجوع. أما يسوع فرفض هذه التجربة وقاومها، لأنه لا يريد ان يجري معجزة لمنفعته الشخصية. وقد صدق فيه قول الرسول بولس: “لِأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ” (رومية 15:3). وخير مثال على ذلك موقف يسوع من هيرودس أنتيباس الذي كان “يَرْجو أَن يَشهَدَ آيَةً يَأتي بِها يسوع” أَمَّا يسوع فلَم يُجِبْهُ بِشَيء” (لوقا 23: 8-11). وقد صنع يسوع معجزات كثيرة فيما بعد، لا لأجل الإدهاش، ولا كوسيلةٍ لجذب الناس إلى الإيمان به، بل صنعها تثبيتاً للذين قد آمنوا. وقد استند يسوع في جوابه لإبليس على كلمة الله “لا بالخُبزِ وَحدَه يَحْيا الإِنْسان، بل بِكُلِّ ما يَخرُجُ مِن فَمِ الرَّبِّ يَحْيا الإِنْسان” (تثنية الاشتراع 8: 3). فليست الخطيئة في الفعل ذاته أي تحويل الحجارة الى خبز، بل في سبب الفعل ودافعه وهو اخراج يسوع من مخطط الله. قد استطاع الشيطان ان يدفع بني إسرائيل للتذمُّر على الله والاستقلال عنه بحجة الطعام والشراب (خروج 16: 3). لكن المسيح أظهر لإبليس أنه لا يتذمر على الآب بسبب جوعه، لأن عنده كلامه، وهذا أهم من الطعام الجسدي، وأنه لا يستقل عن مشيئة الآب، ولا يسعى للتخلُّص من الجوع إلا بأمره. وقد ظهرت أفكاره من هذا القبيل لمّا قال: “طَعامي أَن أَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني وأَن أُتِمَّ عَمَلَه” (يوحنا 4: 34). دّل يسوع على انه يحيا من كل كلمة تخرج من فم الله، بل دلّ انه هو الكلمة.
كان يسوع جائعا، متعباً بعد صومه أربعين يوماً. ولكنه لم يشأ ان يستخدم قوته الإلهية لإشباع حاجته الطبيعية الخاصة (الخبز). والطعام امر طيب. ولكن التوقيت كان خاطئا. وقد جُرّب لإشباع رغبة طبيعية بطريقة خاطئة او في وقت خاطئ، في حين يجب اشباعها في طريقة صائبة وفي الوقت المناسب. لم يستخدم يسوع قوى روحية لغايات دنيوية. ولا يطلب من الله ان يُنقذه بطريقة سحرية عن طريق معجزة. رفض يسوع مسيحانية أرضية تنسيه أنه إنسان من الناس يجب ان يعمل بيديه مثل آدم (تكوين 3: 19).
ولا يكفي ان نعرف كلمة الله فحسب، بل علينا ان نطيعها أيضا. إن كلمة الله هي سلاح، مثل سيف ذي حدّين، للاستخدام في الحرب الروحية، فمعرفة آيات الكتاب المقدس خطوة هامة في مساعدتنا على مقاومة هجمات الشيطان، ولكن علينا ان نطيع كلمة الله، فالشيطان نفسه يحفظ الكتاب المقدس، ولكنه لا يطيعه. إن معرفتنا بالكتاب المقدس وطاعتنا له يساعدنا على ان نتبع رغبات الله لا رغبات الشيطان. فالشيطان استطاع ان يقتطع بعض آيات الكتاب المقدس ويلونها لتأييد ما يريد ان يقوله كما جاء فلي تعليم بولس الرسول “لا نَسلُكُ طُرُقَ المَكرِ ولا نُزَوِّرُ كَلِمَةَ الله” (2 قورنتس 4: 4). فيبين لنا يسوع أهمية وفعالية معرفتنا لكلمة الله وتطيقها لمواجهة التجربة.
التجربة الثانية: شهوة العين
تدل شهوة العين على الرغبة في تملك كل ما نراه. تقوم التجربة الثانية على ان يسجد يسوع للشيطان، وذلك تلبية لحاجة نفسية وهي التملك والقوة والنفوذ على ما يراه من ممالك. ويبدو ان للشيطان سلطة وقتية على الأرض “رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ” (يوحنا 16:11). فعرض ابليس على يسوع الحصول دون مشقة على مُلك هذا العالم، بمجرد السجود له وبذلك يُغنيه عن الأتعاب والإهانات والآلام والصلب. فحاول ان يحوّل يسوع عن هدفه ويجعله ان يركز بصره على السلطة العالمية وليس على مخطط الله.
لم يتم يسوع مهمته بواسطة مساومة مع الشيطان تتيح له اقتسام العالم. ولم يسجد للشيطان ليسود العالم سيادة سياسية؛ لذا رفض السجود للشيطان وقاوم التجربة من خلال جوابه مستندا على كلمة الله ” لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد، وإِيَّاه وَحدَه تَعبُد” (لوقا 4: 8) مستنداً على كلمة الله (تثنية الاشتراع 6: 13). وقد رفض يسوع هذه التجربة، لأنه لا يريد ان يكون مديناً لاحد بمُلكه إلا لأبيه، وفقا للطريق الذي اختارها أي طريق الصليب والفقر. إن يسوع المسيح يعرف أنه فادي العالم فقدّم حياته ذبيحة على الصليب بعيدا عن تحالفه مع الشيطان. رفض مسيحانية ارضية تنسيه أن عليه ان يمرّ في الآلام قبل ان يمرّ في المجد (متى 6: 21-22). لكن الشيطان ما زال الى اليوم يقدّم لنا العالم بمحاولة إغرائنا بالماديات والقوة. فلا ننسي لمواجهته كلمة الله ” الرَّبَّ إِلهَكَ تَتَّقي وإِيَّاه تعبُدُ ” (تثنية الاشتراع 6: 13).
التجربة الثالثة: الكبرياء
تدل الكبرياء على اكتفاء الانسان بالذات والأمان بصرفه عن الاتكال على الله. تقوم التجربة الثالثة تجربة نجاة يسوع من الموت لأنه ابن الله. فجاء قول ابليس ” إِن كُنتَ ابنَ الله، فأَلْقِ بِنَفْسِكَ مِن ههُنا إِلى الأَسفَل “فالله قادر ان ينجيك استنادا على كلمته ” لأَنَّه أَوصى مَلائِكَتَه بِكَ لِيَحفَظوكَ في جَميعِ طرقِكَ. على أَيديهم يَحمِلونَكَ لئَلاَّ تَصدِمَ بحَجَر رجلَكَ” (مزمور 91: 11-12). فالمقصود في آية مزمور هو إظهار حماية الله لشعبه، وليس تحريض الناس على استخدام قوة الله في تقديم عروض جسدية حمقاء كما عرضها الشيطان على يسوع. استغل الشيطان حاجة عاطفية وهي الأمان والكبرياء ليجرّب يسوع كي يفتخر بقوته، فيُظهرها أمام الجمهور. لكن يسوع رفض مطلب ابليس لأنها “تجربة الله”، إذا طلب الشيطان من يسوع بتدخّل الله بصورة غير مطابقة للمخطط الإلهي. فرفض يسوع ان يجعل من لقبه كابن الله لتأمينه ضد جميع الاخطار او اظهار قوته وعظمته، وذلك احتراما لحرية ابيه السماوي. رفض هذه التجربة وقاومها من خلال جوابه مستندا على كلمة الله ” لا تُجَرِّبوا الرَّبَّ إِلهَكم، ” (تثنية الاشتراع 6: 16). رفض ان يجرّب الله بل قدم نفسه ليكون بكليته في خدمته تعالى وخدمة الملكوت.
ولم يُتم يسوع خدمته بواسطة قوة سحرية ليُبهر الجموع (أَلْقِ بِنَفْسِكَ مِن ههُنا إِلى الأَسفَل) فيرافقونه لحظة (يصفّقون له ويتعجّبون) ثم يتركونه في طريق الصليب. لذا كان جواب يسوع على الشيطان هو الا نجرّب الله بطلب أمور نستحسنها (تثنية الاشتراع 6: 16). وخير مثال على ذلك مثل الغني ولعازر، إذ طلب الرجل الغني ان يصنع الله آية بإرسال أحد الموتى الى اخوته ليؤمنوا، لكن يسوع قال إن الناس الذين لا يؤمنون بالمكتوب في الكتاب المقدس، لن يؤمنوا أيضا ولو قام واحد من بين الأموات (لوقا 16: 31). فطلب علامات من الله هو محاولة تحريك الله كما نشاء، اما الله فيريدنا ان نحيا بالإيمان.
وقد كانت تجارب يسوع تجارب حقيقية، لا رمزية فقط. كما جُرِّب شعب إسرائيل في البرية (خروج 15-18)، كذلك جُرّب يسوع لتضامنه مع شعبه. جُرِّب كما نجرّب نحن ولكنه لم يخطأ كما ورد في الكتاب المقدس “لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة” (عبرانيين 4: 15)، لأنه ابن الله، ما خطئ البتة وفي هذا الصدد قال بولس الرسول “ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَله اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا كَيما نَصيرَ فيه بِرَّ الله” (2 قورنتس 5: 21). فقد واجه المُجرِّب كما نواجه كل واحد منا، واستعمل سلاحا يجب ان نستعمله: سلاح الروح الذي هو كلام الله (أفسس 6: 17). أراد ابليس ان يُبعده عن مخطط الله بوساطة الغنى والنفوذ والسلطة. فواجه يسوع التجارب الثلاث بكلمة الله رافضا مسيحانية بشرية دنيوية وانتهت التجارب بالموت والقيامة.
بعد ان أنهي ابليس جميع تجاربه، هُزم ابليس وانتصر يسوع، وتقرر فوز زعيم البر على زعيم الإثم، وانتصاره حاسم لكنه ليس نهائياً، لان ابليس سيعود عند الالام من خلال يهوذا الإسخريوطي الذي دَخَلَ الشَّيطانُ فيه (ّلوقا 22: 3)، ومن خلال عُظَماءِ الكَهَنَة وقادَةِ حَرَسِ الهَيكَلِ والشُّيوخ (لوقا 22: 53). ولم تكن آلام يسوع الاَّ امتداد للتجربة وهجوم إبليس الأخير على يسوع (1 قورنتس 2: 8). فقبل إتمام المرحلة النهائية من رسالته تعرض يسوع للتجربة الأخيرة وهي نزاعه في بستان الزيتون (لوقا 22: 40)، وهكذا، بانتصاره على المُجرِّب الشيطان منذ البداية حتى النهاية (لوقا 4: 13)، أُدخل المسيح البشرية الجديدة في وضعها الحقيقي وفي دعوتها الى البنوة كما جاء في تعليم صاحب الرسالة الى العبرانيين “فلَمَّا كانَ الأَبناءُ شُرَكاءَ في الدَّمِ واللَّحْم، شارَكَهُم هو أَيضًا فيهِما مُشاركةً تامّة لِيَكسِرَ بِمَوتِه شَوكَةَ ذاكَ الَّذي لَه القُدرَةُ على المَوت، أَي إِبليس، ويُحَرِّرَ الَّذينَ ظَلُّوا طَوالَ حَياتِهِم في العُبودِيَّةِ مَخافَةَ المَوت” (عبرانيين 2: 14-15).
فالتجربة تشير الى طبيعة يسوع البشرية إذ جُرّب مثلنا، وتشير أيضا الى انتصاره على الشر، وقد رفض يسوع ان يستغل امتيازاته كابن الله لينجو من الجوع والموت والوصول الى ملكه دون مشقة كما جاء في تعليم بولس الرسول ” هو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب” (فيلبي 2: 6-8). والصليب هو الاختبار الأخير (يوحنا 12: 27-28) الذي يثبت به الله محبته (يوحنا 3: 14-16).
خلاصة
في البرية هاجم ابليس السيد المسيح بأنواع التجربة الثلاثة ” شَهوَةِ الجَسَد وشَهوَةِ العَين وكِبرياءِ الغِنى ” (1 يوحنا 2: 16). ولقد وضع الشيطان سيدنا يسوع المسيح في المواقف التي كان قد سقط فيها آدم وبني إسرائيل. تجرّب الرب يسوع من الشيطان ولكن يسوع انتصر على الشيطان في البرية. بسقوط آدم الأول تحوّلت جنة عدن إلى برية، وبثبات آدم الثاني تحولت البرّية جنة. فيسوع هو الانسان الذي يحيا بكلمة الله، وفي الوقت نفسه هو إله المخلص، الذي يستمر شعبه في تجربته (متى 16: 1)
والتجربة في ذاتها ليست خطيئة، لكن نخطئ عندما نستسلم للتجربة ونخالف الله. والشيطان هو حقيقية، وهو في حرب مستمرة ضد من يتبعون الله ويطيعونه، وهو يحاول ان يجعلنا ان نتصرّف بحسب هواه او هَوانا وليس حسب طريق الله. يسبر الله غور القلوب ويختبرها (1 تسالونيقي 2: 4)، ويسمح فقط بالتجربة (1 قورنتس 10: 13) التي يثيرها المجرّب (أعمال 5: 3) خلال العالم (1 يوحنا 5: 19) وخصوصاً خلال المال (1 طيموتاوس 6: 9). ولذلك يجب أن نطلب ألاّ “ندخل في تجربة” (متى 6: 13)، فهي تقود إلى الموت (يعقوب 1: 14-15). وإن التجربة التي لا يسقط فيها المرء، وتفضي به إلى الحياة. إنها تجعل الإنسان يعبر من الحرية المعروضة إلى الحرية المعاشة، ومن الاختيار إلى العهد. فإنَّ حقيقية الانسان لا تظهر إلا متى تعرضت للامتحان.
ولا بد ان نتعرض للتجربة، فعلينا ان نكون متيقظين ضد هجمات ابليس ومستعدين لها، حتى لا تغلبنا كما أوصّانا السيد المسيح “إِسهَروا وصَلُّوا لِئَلاَّ تَقَعوا في التَّجرِبَة. الرُّوحُ مُندَفع وأَمَّا الجَسدُ فضَعيف” (متى 26: 41). والصوم والصلاة أقوى أسلحة ضد الشيطان كما علمنا السيد المسيح “هذا الجِنسُ مِنَ الشَّيطانِ لا يَخرُجُ إِلاَّ بالصَّلاةِ والصَّوم ” (متى21:17). إن ربط التجربة بالمعمودية يفيد عن معنى الحياة المسيحية، وهو كل ابن الله يجب أن ينتصر على الشيطان. فنتهلل مع الرسول مرنمين: “الشُّكرُ للهِ الَّذي آتانا النَّصْرَ عَن يَدِ رَبِّنا يسوعَ المسيح! ” (1 قورنتس 15: 57).