الأحد الثالث والثلاثون لزمن السنة ب (بيتسابالا)
البطريرك بيتسابالا
في أيام الآحاد الأخيرة من زمن السنة يعود موضوع “النظر” مرارا: آخر لقاء ليسوع في طريقه إلى أورشليم هو اللقاء مع بارتيماوس (مرقس ١٠: ٤٦–٥٢)، الذي يُشفى من عماه؛ تبع ذلك، يوم الأحد الماضي، رواية الأرملة، ونظرة يسوع إلى مبادرتها، والحذر من أولئك الذين يحاولون لفت نظر الناس إليهم ويبحثون عن استحسانهم (مرقس ١٢، ٣٨–٤٤).
قبل الدخول في أيام الآلام، يبدو أن يسوع أراد أن يحثّ تلاميذه أن يتعلّموا النظر إلى الأمور بعيون جديدة.
يقع المقطع الإنجيلي لهذا اليوم في الفصل الثالث عشر من مرقس (مرقس ١٣: ٢٤–٣٢)، أي في الحوار الأخروي المتعلق بنهاية العالم.
يبدو أنّ حاسة النظرالّتي تمّ تدريبها أثناء المسيرة، ستثمر ثمارا غنية.
يتحدّث يسوع، في المقام الأوّل، عن قرب وصول أيّام الضيق والمحن والألم. يقول أنّ شيئاً ما، وهو خطير جدّاً، ولم يًسمع عنه من قبل، سوف يحدث، وأنّ كلّ شيء سينقلب رأساً على عقب.
إنّه لا يتحدّث عن نهاية الأزمنة، بل عن الزمن الحاضر، عن حياة كلّ إنسان: إنّ الأزمنة الأخيرة هي تلك الأيام الّتي كانت بدايتها مع الفصح، ولا سيما مع لحظة الصليب. في الواقع، نجد في الآيات الّتي نقرأها اليوم، العديد من الإشارات إلى المقطع الّذي يروي موت يسوع. ويمكننا القول أنّ يسوع، في هذا الحوار الأخروي، لا يروي سوى ما سوف يحدث على الصليب، وما بعد الصليب.
أوّل شيء ينبغي رؤيته هو أنّ كلّ شيء سوف يُظلِم (مرقس ١٣، ٢٤)، الشمس والقمر والنجوم، وسوف يتوقّف كلّ شيء عن إصدار النور، ولهذا ستصبح الرؤية صعبة.
الشمس والقمر والنجوم: هي مرجعيّتنا في السماء، بل هي الشيء الّذي يبدو لنا الأكثر استقراراً وأماناً في الخلق. حتّى هذه سوف تتراجع. وهذا إشارة إلى أنّ عالماً ما يوشك أن ينتهي، وأنّ الزمن كذلك.
عندما سيُرفع يسوع على الصليب، ستظلم الشمس (مرقس ١٥، ٣٣)، وسوف يُقال أنّ عالماً ما ينتهي بموته. إنّ الصليب هو، في المقام الأوّل، نهاية شيء ما، وهذا الشيء هو عالم الخطيئة، العالم الّذي يستعبد الإنسان للشر. ومع صليب يسوع ينتهي هذا العالم.
لكن ليس هذا كل شيء. في الظلمة الدامسة يتمكن أحد من رؤية شيء جديد، وهو أن ابن الإنسان قادم (“حينئذ يرون ابن الإنسان آتياً في الغمام بملء القدرة والمجد” – مرقس ١٣، ٢٦) وأنّه على الصليب يُقدّم الربّ حياته.
يمكننا القول أن الصليب هو مثل الحدود الفاصلة: أمام مشهد هذا الرجل المصلوب، هناك شخص لا يستطيع أن يرى، ولا يسعه سوى أن يسخر من المصلوب ويهينه. ولكن، إلى جانبه، هناك شخص آخر يرى: وهذا الشخص، في مرقس، هو قائد المئة، الجندي الوثني، والإنسان الخاطئ. هو في الظلام لكنه يرى أن من يموت مثل هذه الميتة، ولا ينقذ نفسه من أجل أن يُخلّص الآخرين، لا يمكن أن يكون سوى ابن الله (مرقس ١٥، ٣٨).
ومن الغريب أن التلاميذ ليسوا هم الذين يرون ذلك، بل شخص موجود هناك بالمصادفة. وهذا يقول لنا أن التلميذ هو، في المقام الأوّل، الشخص الذي يحيا من النعمة، الذي يتقبّل الهبة، الّذي يرى ليس لأنّه قد فهم، بل لأنه يتقبّل هبة غير مستحقة على الإطلاق. إن مسيرة التلميذ هي عبارة عن تقبّل نعمة الرؤية بعيون الربّ القائم.
ومن ثمّ يمكننا أن نقول أنّ ما يُشكّل الفرق في أيام الحياة البائسة هو النظر. ليس القوة، ولا الوضع الاجتماعي، ولا المال والثروة. لا شيء من هذه يدوم. ولكن إذا تمكّنا من رؤية أبعد من ذلك، فسنُدرك أنّ النور يشع بالتحديد في الظلام. وأنّ الحياة لا تأتي سوى من موت يسوع.
إنّ النظرة المسيحية هي نظرة تدرك إيقاع الفصح في وقائع الحياة، بنفس ثقة الشخص الّذي ينظر إلى براعم شجرة ما، فيعرف أن الصيف قريب (مرقس ١٣، ٢٨).
وهو يعرف كيف يبدأ من جديد. وبالتحديد، عندما يبدو أن كلّ شيء قد انتهى.
لذلك، ليس الأمر هو مجرد انتظار حدوث شيء جديد، يتم من أجله تأجيل خيارات وقرارات الحياة إلى لحظة افتراضية أخرى: إنّ كل شيء قد حدث بالفعل، والأمر، في المقام الأوّل، هو إدراكه، ورؤيته بدقة، واختياره. إنها مسألة السماح لأنفسنا بأن نشفى من تشتتنا وأوهامنا الخاصة، كي نغمر أنفسنا في الحياة دون خوف.
لقد أكدنا على مركزية النظرة، لكن المقطع الإنجيلي لهذا اليوم ينتهي بموضوع الإصغاء والسماع: عندما ينتهي كل شيء، فإن ما يبقى هو الكلمة الأبدية والأمينة (“السماء والأرض تزولان، وأمّا كلامي فلا يزول” – مرقس ١٣، ٣١). وكأننا نقول بأن أولئك الذين يسمعون ويعتمدون على كلمة الله هم وحدهم قادرون أن يروا العالم الجديد الّذي يولد حقّاً، وبالتالي ينتظرون الكشف الكامل عن العالم المستقبلي، الذي يستمر الآب في تقديمه للإنسان، ويوحّده دائماً بشكل أوثق مع فصح الربّ الرب يسوع.