الأحد الثامن والعشرون من زمن السنة ب (أ. مدروس)
الأب بيتر مدروس
القراءة الأولى مأخوذة من سِفر الحكمة ( 7: 7 – 11) وهو مع سموّه وقُربه من العقلية الإنجيلية المسيحيّة وخصوصاً إنجيل يوحنّا “الرّوحانيّ” مرفوض عند العبرانيين (منذ أواخر القرن الميلادي الأوّل). وعند معشر المحتجّين على الكنيسة الكاثوليكية منذ قرّر أندرياس بودنشتاين الملقّب باسم مدينته “كارلشتاد” – وأحسبه عبرانيّ النّسب- حذفه سنة 1520 في مؤلّفه – باللاتينية – “في لائحة الكتب المقدّسة”. في هذا النص يظهر سليمان حكيماً محبّاً للحكمة مؤثراً إيّاها على الغنى. وهنا يلمس المرء غضّاً للنظَر عن مساوىء الملك المذكور. وفعلاً ، سيستمرّ بعدها الفكر التلموديّ في “تنزيه” سليمان إلى حدّ إغفال كامل لهفواته. ولكنّ الكتاب المقدّس والكنيسة يعترفان بالخطايا ويشكران المولى القدّوس على أنها ما وقفت ولن تقف عائقاً أمام الوحي والإلهام بما أن النبيّ – في الفكر المسيحيّ وفي العهد القديم (لا التلمود) معصوم عن الغلط فقط عندما يتكلّم باسم الله (وهذا معنى “نبي” في اللغات السامية و”بروفيتس” προφητης في اليونانية) وليس معصوماً عن الخطأ في التصرّف ولكن تألّق كلّ الأنبياء بالإيمان المطلق العميق الذي كان لهم بِرّا واستغفر منهم من أخطأ.
من بشارة مرقس: يسوع والشابّ الثريّ
نفضّل في لسان الضّاد وثقافته أن نقول عن إنسان موسر أنّه “ثريّ” لا “غنيّ” فالغنيّ هو الله وحده لأنه وحده في غنى عن الكلّ، في حين أنّ كلّنا بحاجة إلى أناس وإلى أشياء. يتقدّم شاب موسر من يسوع مادحاً “أيّها المعلّم البَرّ”. ويعترض يسوع: “لماذا تدعوني بَرّا، ما بَرّ إلاّ الله”! يقفز هنا رافضو ألوهية المسيح على هذا النّص ويفركون أيديهم انشراحاً لصدورهم! ها هو يسوع نفسه ينكر لاهوته! – لا ! بل الحلّ أنّ السيّد المسيح له المجد لمس في كلام الشاب “تملّقًا” يبُعده يسوع عنه بحزم وهو –له المجد – “الوديع متواضع القلب” الذي يريد أن نُتَلمَذ له بسبب تواضعه ولطفه. ويرى القدّيس يوحنا فم الذهب أنّ ما قصده يسوع هو ” لا أحد من البشر بَرّ” كجواب مباشر على شاب لا يرى في يسوع إلاّ الطبيعة البشرية. وبهذا المعنى، يكتب الأب البندكتيني “كالميه”: “يسوع ينسب الجودة والطيبة والبِرّ إلى الطبيعة الإلهيّة” (التي لا يراها الشاب).
أحيانا يتكلّم المرء عن نفسه في صيغة الغائب أو بنوع من التمويه، حرصاً على عدم صدم الناس أو من باب التواضع – بالضبط. القديس بولس رسول الأمم الإناء المختار في رسالته الثانية القانونيّة إلى القورنثيين يميّز – من باب الاتّضاع ونكران الذات – بين “ذلك الرجُل” الذي ظهر له الرب وبين بولس نفسه مع أنّه ذاته (12: 2 وتابع): ” أعرف رجُلاً في المسيح (أي هو ذاته) اختُطف إلى السماء الثالثة منذ أربع عشرة سنة … هذا الرجُل اختُطف إلى الفردوس وسمع كلمات لا تُلفَظ ولا يحِلّ لإنسان أن يذكرها. أمّا ذاك الرجُل فسأفتخر به، وأمّا أنا (مع أنه هو ذاته) فلن أفتخر إلاّ بحالات ضعفي”.
من الوصايا إلى المشورات الإنجيليّة
لا يكتفي يسوع لبعض الناس بحفظهم الوصايا العشر بل يطلب منهم أكثر أي طريق الكمال عن طريق المشورات “الإنجيليّة” أي الفقر الاختياري والعفّة الكاملة والطاعة الطوعيّة. ومن المحزن منذ العصور الوسطى أن صفة “إنجيليّة” تُطلق على مجموعات رفضت المشورات الإنجيليّة ورأى بعض مؤسسيها في التخلّص منها “نعمة” ربّانيّة هي إلى عقليّة الربابينيين التلموديين أقرب (طبعة “ده فيتيه”، المجلّد الثّاني، ص 640، ثمّ دنيفليه ، المجلّد الأوّل، ص 27 – 28). ولكنّ نعمة المسيح الحقيقيّة تلمس النفوس السامية التي عادت تدريجياً إلى تلك المشورات (مثلاً في نشوء رهبنات عند إخوتنا الأنجليكان واللوثريين). وبخلاف البدع الفوضوية عديمة المرجعية ،رفضت الجماعات الرسميّة الأساسية main line “العصيان” والانفراديّة الاعتباطية – هذه المخالفة الخطيرة للطاعة للسلطة الكنسية وهذا العصيان المسؤولَين عن نشوء المئات بل الآلاف من الفئات المفتّتة للكيان المسيحيّ المشتّتة التي لا تجمع مع يسوع بل تفرّق.
فليجمعنا حبّ المسيح وليضمّنا حنان السيّدة العذراء البتول أمّ البتول الفقير المطيع ييسوع ولنسمونّ على علاّتنا وخطايانا فوق الماديات والدنيويات ولنبتع السيّد المسيح الذي هو وحده معلّم الحياة والسعادة الحقيقيّتين ونحن نسمع عبر الأجيال من تطويباته: “طوبى لفقراء الروح فإنّ لهم ملكوت السماوات، طوبى للودعاء، طوبى لأنقياء القلوب، طوبى للذين لم يروا وآمنوا!”