Liturgical Logo

الأحد الثامن والعشرون من زمن السنة ب (أ. بيتسابالا)

البطريرك بيتسابالا

كي ندخل في النص الإنجيلي لهذا اليوم، دعونا نخطو إلى الوراء ونستذكر ما ورد في نهاية عظة الأحد السابق.
كنا رأينا أن للتلاميذ الذين يهيمن عليهم جنون العظمة، يقدّم يسوع أسلوب حياة يتمثل باحتضان الأطفال، في لفتة حنان.
هذا الحنان يمكن أن يكون مفتاح قراءة اللقاء بين يسوع والرجل الغني الوارد في الفصل العاشر من إنجيل القديس مرقس.
في هذا اللقاء نجد نفس الموقف السابق. من ناحية نرى رجلاً غنيّاً بدون اسم، يطيع الشريعة ويمتلك خيرات مادية كثيرة، ومن ناحية آخرى ينظر يسوع إليه من منظور المحبة. يُحدّق إليه يسوع ويحبه (مرقس ١٠: ٢١).
ويبدو أن هذا الرجل لا ينقصه شيء (مرقس ١٠: ٢١) سوى المحبة! إن هذا النقص بالتحديد هو ما يجعله غير راض وفي حالة اضطراب، ويبحث عن الحياة.
وما دامت حياتنا مقتصرة على مستوى الفرائض والبحث عن سعادة هي ثمرة طاعتنا وجهدنا فقط، فليس بوسعها إلا أن تتسم بالغموض دون أن تجد ما هو أساسي في الحياة. وستبقى هذه الحياة منغلقة على ذاتها.
إن الحياة الأبدية، في المقابل، مصدرها اللقاء مع الآخر والمحبة المجانية التي بها يُنظر إلينا. لم يقم هذا الرجل بأي أمر جعله يستحق أن ينظر إليه يسوع. مع ذلك، لا نجد في إنجيل مرقس أي لقاء آخر تستخدم فيه عبارة قوية كهذه تتكلم نظرة يسوع ومحبته.
يبدأ اتباع يسوع متى أصبحت نظرته مؤثرة في حياتنا بحيث تقلبها رأسا على عقب، لا بل تصبح الحياة ذاتها. أما ما يتبقى من الخيرات والأحكام والطاعة والعلاقات والمشاكل، فستفقد أهميتها وستأخذ معنى جديداً أساسه نظرة حب يسوع حيث يمكن للإنسان أن يرجع إليها ويستقي منها. إن هذه النظرة هي ما تمكّننا من العيش.
بسبب هذا الحب، تُغيّر الحياة مجراها. هناك دوماً أمر مشترك بين أولئك الذين يلتقون الرب وهو أن حياتهم تأخذ منعطفاً جديدا. هذا ما حدث تماما مع المجوس وزكا العشار. ومن الأمثلة الجلية على ذلك والقريبة من النص الذي نقرأه اليوم، قصة برطيماوس الذي يلقاه يسوع وهو خارج من أريحا (مرقس ١٠: ٤٦– ٥٢). بينما هو جالس يتوسل على جانب الطريق، سمع بمرور يسوع وتضرع إليه ثم شُفي، “فأبصر من وقته وتبعه في الطريق” (مرقس ١٠: ٥٢). لقد أبصر وغيّر مساره، خاصة وأن طريقه قد أصبحت نفس طريق يسوع المؤدية إلى أورشليم.
أما الرجل الغني في قراءة إنجيل اليوم فإنه لا يبصر وعليه لا يُغيّر مساره. يعود إلى الطريق التي جاء منها وهو يشعر أن الفراغ التهمه. لا تصبح طريقه اتباعاً للمسيح بالرغم من جميع نواياه الحسنة والجيدة التي جعلته يقترب من الرب.
لماذا لا يرى؟
لقد رأينا تميّز الحدث الإنجيلي لهذا اليوم لأنه المرة الوحيدة في الانجيل التي بها نقرأ أن يسوع يحدّق ويحب. والمحير هنا أن هذا اللقاء هو واحد من اللقاءات الفاشلة.
وعليه فإن هناك خطرا حقيقيا يتمثل في عدم رؤية نظرة يسوع وعدم السماح لأنفسنا بالوصول إلى أعماقها. ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة.
هذا الرجل الغني لا يتقبل الحب لأن قلبه لا يملك حيزا للحب، ولأنه يفتقر إلى القدرة لعمل مساحة له في داخله. قلبه متعلق بالخيرات التي منها يأمل الحصول على الحياة. إنه يحب ولكنه منشغل بأمر آخر. إن هذا الإنشغال هو مرضه، وهو مرض يصعب الشفاء منهاكما يقول يسوع (فأجال يسوع طرفه وقال لتلاميذه: ما أعسر دخول ملكوت الله على ذوي المال (مرقس ١٠: ٢٣). إنه مرض ولا تهدف التجربة الدينية تجريده ا بل إغنائه وتوسيع افاق ذاته.
إن الغنى الذي يشوش القلب ليس بالضرورة أمراً مادياً. يمكن أن يكون فكرة أو ذكرى أو شخصاً أو ذريعة أو مكاناً أو قرارا أو حتى شعورا ما.
هل نفقد الأمل إذاً؟
الأمل الذي يقدم النص إشارة إليه يتمثل في الحزن. انصرف الرجل حزيناً (مرقس ١٠: ٢٢) على غرار من يدرك فشله في إنجاز مهمة هامة.
من المثير للاهتمام أن القديس مرقس كان قد استخدم كلمة “حزن” مرتين؛ واحدة في هذه الفصل والثانية في الفصل ١٤في الآية ١٩ التي تشير إلى التلاميذ الذين شعروا بالحزن لما علموا أن واحداً منهم سيسلم يسوع.
هذا يعني أن الحزن يمكن أن يكون جزءاً من خبرة التلميذ. هذا الحزن هو علامة على بداية مسيرة تجمعنا جميعاً، و“تقيس” عجزنا الكامل أمام هذه المهمة الصعبة في اتباع المسيح. إن الفصح وحده يمكنه أن يحوّل هذه الحزن إلى فرح حيث يسطع نور مجانيّة الحب من جديد ويفتح عيون الذين وصل إليهم النور.