Liturgical Logo

الأحد الحادي والثلاثون من زمن السنة (بيتسابالا)

البطريرك بيتسابالا

رأينا يسوع يوم الأحد الماضي يخرج من أريحا، حيث يلتقي ويشفي بارتيماوس، الذي، فيما بعد، يبدأ يتبعه على طول الطريق (مرقس ١٠: ٤٦– ٥٢).
إن سياق المقطع الإنجيلي لهذا الأحد مختلفً تماماً: لقد أنهى يسوع صعوده إلى أورشليم، وقد أتمّ دخوله الإحتفالي إلى المدينة المقدّسة، ودخل إلى الهيكل (مرقس ١١: ١– ١١). يلتقي هنا في الهيكل مجموعات مختلفة من الكتبة والفرّيسيّين وشيوخ الشعب والصدّوقيين والهيرودوسيّين، الّذين يطرحون عليه أسئلة تؤدي إلى بعض الخلافات.
والحوار الّذي نسمعه اليوم هو ثالث هذه الخلافات، ويطرحه كاتب يبدو أنّه، بخلاف المتحاورين الآخرين، رجل ذو نيّة حسنة. وهو لا يدنو من يسوع كي يُحرجه، بل من أجل الحوار ذاته: إنه مُستمع جيّد.
إنّ السؤال الذي يطرحه الكاتب هو سؤال جوهريّ، ويُذكّرنا، إلى حد كبير، بما قد رأيناه في أحد سابق،وهو اللقاء بين يسوع والشابّ الغني، الذي يبحث عن أساسيات الشريعة، وأساسيّات الحياة (مرقس ١٠: ١٧– ٢٢). وسؤال الكاتب هو التالي: من بين العديد من العناصر التي تشكل العالم الديني، والتي تتعلّق بعلاقتنا مع الربّ، ما هي الوصيّة الأكثر أهمية؟ ما هو الأساسي، الذي بدونه لا يمكننا القول بأننا قد التقينا بالرب؟
إنّ ردّ يسوع مباشر وبسيط، تماماً كما كان السؤال مباشراً وبسيطاً.
بادئ ذي بدء، يسوع لا يخترع أي جديد: فهو، ببساطة، يقتبس من الكتاب المقدس، لأن الردّ على السؤال حول الحياة موجود فيه بالفعل. ليس المطلوب منّا هو أن نخترع، فنحن لا نبتدعه، وكلّ ما علينا هو البحث في كلمة الربّ، ويجب علينا أن نُقرّ: أن يسوع نفسه أيضاً يأخذه من الآب.
ولهذا السبب بالضبط، إن الموقف الأول للإنسان هو الاستماع.
يقتبس يسوع الصلاة اليهوديّة الرئيسيّة المسماة “إسمع” (تثنية ٦: ٤)، ويضعها كأساس لأيّ علاقة صادقة مع الربّ، كما لو كان يقول أنه لا يوجد أي إمكانية لعيش أي اختبار للربّ، وليس هناك أيّ إمكانية لحياة كاملة وأصيلة دون الاستماع. إنّ الاستماع هو الباب الذي بدونه لا يمكن للإنسان الدخول إلى البيت. إنّه أساس التتلمذ والاتّباع.
لأن الاستماع هو التفكير في علاقة مع الاخر ، وهوالانفتاح عليه؛ هو الخروج من الموقف الفردي الشخصي، ومن العقلية الشخصيّة الضيقة، والدخول إلى المنظور الّذي يقول أنّ ما يُخلّصني لا يُمكن أن يأتيني سوى ممّا يُعطيني إياه شخص آخر. إنه إعطاء الأولوية لشخص آخرليس هو أنا. إنّ الاستماع هو قبول الهبة الّتي لا أملكها، والّتي تنقصني كي أحيا، لأن الإنسان يعيش ممّا يسمعه.
إنّ الاستماع، إذاً، هو بالفعل موقف إيماني: إذا استمع الإنسان، يكتشف أنه لا يوجد سوى شيء ضروريّ واحد، ويكتشف أن الرب هو واحد ووحيد، ويمكننا أن نعهد بحياتنا الشخصية إليه.
دعونا نعود إلى الشاب الغني الذي صادفناه في الجزء الأخير من رحلة يسوع نحو أورشليم: لقد ذهب للقاء يسوع، واصفا إياه بـ “الصالح” (مرقس ١٠: ١٨)، لكنه بعد ذلك ابتعد عنه حزينا، لأنه كان ذا “مال كثير” (مرقس ١٠: ٢٢). هنا، بالضبط تكمن مشكلة الإيمان: كل شيء يتعلق بالإقرار بأن الربّ ليس صالحاً وحسب، بل أنه الصالح الوحيد (مرقس ١٠: ١٨)، وأنّه الخير الوحيد. عندها فقط نبدأ في اتباعه والسير خلفه.
لكن إلى ماذا نستمع؟ ماذا يقول الربّ؟ الربّ، الذي هو واحد، يقول في الأساس شيئا واحدا، أي أن الحياة هي الحب. يقول أن كل العلاقة معه لا تتكون من أي شيء آخر سوى هذا؛ إنّ الأمر لا يتعلّق بالخدمة، ولا بالواجب، ولا بالتضحية، ولا بأي شيء آخر، إن لم يكن المحبّة.
يقتبس يسوع مقطعين من العهد القديم، يتعلّق أحدهما بمحبة الربّ والآخر بمحبّة القريب. إنّهما، في الكتاب المقدس، وصيتان متباعدتان عن بعضهما البعض: الأولى في سفر التثنية (٦: ٤– ٥)، والثانية في سفر الأحبار (١٩: ١٨). يقوم يسوع بتقريبهما من بعضهما البعض، كما يقوم بعملية مثيرة للاهتمام.
يقول يسوع، في الواقع، إنّ الربّ واحد ووحيد، ولكن هذا غير كاف لمحبّته. لقد سأل الكاتب عن الوصيّة الأولى، لكن يسوع لا يجيب بأنّ هناك الوصيّة الأولى دون الوصيّة الثانية. وهذا يعني أنّ الشكل الحقيقي لمحبّة الربّ وتكريمه هو محبّة الإخوة.
ولكنّه يقول أيضاً إنّ محبّة القريب ليست ممكنة، إن لم تتقدّمها محبّة الربّ، وإن نحن لم نقم بمحبّته بكلّ كياننا. هذه هي الحقيقة الأساسيّة لإيماننا.
وبهذا، يبدو أن الكاتب يتفق مع كلمات يسوع، لكن هذا، في حدّ ذاته، غير كاف. يسوع، في الواقع، يمتدحه، لكنه يقول له أنّ هناك شيئاً ما لا زال ينقصه. إنه ليس بعيد عن الملكوت، ولكنه ليس في داخله بعد. ما هي الحلقة المفقودة؟
إنّ ما ينقصه هو الدخول، والقيام بما دُعي الشاب الغنيّ إلى القيام به: التخلّي عن كلّ شيء من أجل اللحاق بالخير الوحيد. لأنّه لا يكفي أن نكون قد فهمنا: نحن نفهم أموراً كثيرة، غير أنّ الحياة لا تتغيّر.
وعوضاً عن ذلك فإنّ الحياة تتغيّر عندما نتقيّد بما هو الضرورة المطلقة، وهي أن نحب.