Liturgical Logo

الأحد الخامس من الزمن الأربعيني، السنة ب

البطريرك بيتسابالا

اليوم ننتقل إلى قراءة الفصل الثاني عشر من إنجيل القديس يوحنا.
في هذه الأثناء نقترب من رواية الآلام التي تبدأ في الفصل الثالث عشر بالعشاء الأخير ليسوع مع تلاميذه. وفي الفصل الثاني عشر نقرأ عن حادثة دهن مريم من بيت عنيا لقدمي يسوع بالطيب (آية ١– ١١) وعن دخول يسوع الملوكي إلى أورشليم (آية ١٢– ١٩). أما المقطع الأخير فينتهي بملاحظة أبداها الفريسيون وقد أصيبوا بالإحباط أمام “نجاحات” يسوع: “قال الفرّيسيُّون بَعضهم لبَعض: ترون أنّكم لا تَستفيدونَ شَيئاً. هوذا العالَمُ قد تَبِعه” (يوحنا ١٢: ١٩).
يتكلم إنجيل اليوم عن قدرة يسوع على جذب الناس: الإطار الزمني هنا هو عيد الفصح الذي شارك فيه بعض اليونانيين، وهم من جملة الذين صعدوا إلى أورشليم للعيد، فأرادوا رؤية يسوع.
إن ما حدث هو أمر فريد فعلاً: يُخبر اليونانيون فيلبس عن رغبتهم في رؤية يسوع، فيذهب فيلبس ويخبر أندراوس عن هذا الأمر، ثم يذهب فيلبس وأندراوس ويخبران يسوع. (يوحنا ١٢: ٢١– ٢٢). في النهاية تختفي كل هذه الشخصيات ولا نعرف إذا ما تم اللقاء بين يسوع واليونانيين. إلا أن الجواب موجود في المقطع الذي سمعناه ولا سيما في الآية ٣٢ (“جَذَبتُ إليَّ الناسَ أجمَعين“). بالنسبة إلى طلب رؤيتهم له، يجيب يسوع أن الجميع سيرونه حين يُرفع من الأرض ويجذب إليه الجميع. يكشف يسوع عن المنطق العميق الذي أحيا كامل وجوده والذي سينتهي عند مجيء ساعته التي أوشكت (راجع ٢: ٤، ٧: ٣٠). يقوم بذلك من خلال سرده لمَثَل حبّة الحنطة: “إنَّ حَبّةَ الحِنطةِ التي تَقَعُ في الأَرض إن لَم تَمُتْ تَبقَ وحدَها. وإذا ماتَت، أخرجَت ثَمراً كثيراً” (يوحنا ١٢: ٢٤).
يكمن في هذه السطور القليلة أمر جديد يفاجئنا، وهو قول يسوع أن ثمة منطقيْن يمكن للمرء العيش وفقا لهما: الأول هو منطق العزلة والثاني هو منطق الانفتاح والمشاركة. في إطار هذا المنظور، يقدّم يسوع تفسيراً عن آلامه وقيامته.
إن الحياة التي تمضي سريعاً وتتسم بانغلاقها على نفسها هي حياة تبقى وحدها ولا تعرف إلا مساحات “الأنا” الضيقة، وسيكون مصيرها الزوال. أما الحياة التي يُضحَّى بها من أجل الآخرين والتي تُحب وتُعطي ذاتها، فهي حياة تدخل في منطق العلاقة وتُعتبر حياة في طور الاكتمال.
يعي يسوع جيداً أن اختيار منطق المشاركة يترتب عليه ثمن ما، ألا وهو موته وتسليم نفسه إلى هؤلاء الذين سيفعلون به ما يشاؤون؛ وهو أمر سيسبب له الاضطراب (يوحنا ١٢: ٢٧).
ومن ناحية أخرى يعلم يسوع أيضاً أنه بين يدَين قويتين وعظيمتين، بين يدَي الآب، يدَيْن تعطيان المجد الحقيقي والحياة الحقيقية: وأمام قرار يسوع أن يمضي إلى نهاية طريق المشاركة، يؤكد الآب قراره بعدم ترك ابنه الحبيب ولذا يُسمِع صوته. (يوحنا ١٢: ٢٨). لقد مجّد اسمه وسيمجّده أيضاً.
ما معنى ذلك؟ ما هو هذا الاسم؟ إن اسم الله هو “أبتِ“: يردده يسوع عدة مرات في إنجيل يوحنا. سيستمر الرب في كونه آبا ومانحا للحياة. لن يترك الابن وحده لأنه يشاطره منطق المشاركة والمحبة، ولهذا السبب لا يمكن لعلاقتهما أن تنتهي.
إن ساعة الآلام في هذه المرحلة ستصبح ساعة المجد (يوحنا ١٢: ٢٣)، وساعة الوحي الكامل للحقيقة التي هي محبة الله: محبة عظيمة وقوية تكون قادرة على تغيير الموت إلى حياة، والنهاية إلى بداية جديدة. “سيُرفع” يسوع (يوحنا ١٣: ٣٢): كلمة واحدة تلّخص الصليب والمجد ذلك لأن الصليب والمجد من الآن وصاعداً لا يمكن الفصل بينهما.
ومن هذا الرفع سيولد شعب جديد يستطيع الجميع أن ينضم إليه: “أنا إذا رُفِعتُ مِنَ الأرض جَذَبتُ إليَّ الناسَ أجمَعين” (يوحنا ١٢: ٣٢).
إن كل من يشعر في عمق قلبه بالانجذاب العميق الذي يسببه حب كهذا، سيتجاوز كل هزيمة واخفاق، وسيدخل في منطق حياة جديدة وسيتبع الرب حيثما يكون (يوحنا ١٢: ٢٦).
الأحد الماضي دُعينا للنظر إلى الأفعى التي رُفِعت في الصحراء (يوحنا ٣: ١٤)، للحصول على الشفاء والحياة. اليوم إننا مدعوون مرة أخرى للنظر إلى يسوع المرفوع على الصليب، والذي هو خلاصنا.
إن ثبتنا في نظرتنا إليه، في حاجتنا المتواصلة للخلاص، سنختبر قوة جذبه التي تحمينا من تشتتات الحياة العديدة وتوحّدنا معه وفيما بيننا.