الأحد الرابع والعشرون من زمن السنة ب (أ. مدروس)
الأب بيتر مدروس
يكتب مار يعقوب أوّل أساقفة مدينتنا المقدّسة عاصمة مسيحيّتنا وعروس وطننا وسائر عروبتنا: “الإيمان إن لم يقترن بالأعمال صار ميّتا في ذاته”. ولا تناقض بين القدّيس يعقوب ومار بولس الّذي كتب (رومية 3: 20 و 28، ثمّ 4: 13 ) أنّ الإيمان بيسوع المسيح من غير أعمال شريعة موسى الخارجيّة الطّقسيّة يكفي للتبرير بالطاعة للوصايا العشر التي تتلخّص بالمحبة لله وللقريب كما كتب رسول الأمم: “الإيمان العامل بالمحبّة” (غلاطية 5: 6). ولا نغفلنّ نشيد المحبّة الخالد في الرسالة الأولى إلى القورنثيين :”إن كان لي الإيمان كلّه حتّى أنقل الجبال ولم تكن فيّ المحبّة فلستُ شيئًا” (1 قور 13: 2 ب).
تكتب الرّسالة إلى العبرانيّين: “ليس الله ظالمًا فينسى أعمالكم وما أظهرتم من محبّة من أجل اسمه” (6: 10). ويمكن أن يزيد المرء هنا أنّ الرّبّ ليس ساذجًا ليكتفي بإعلان البشر لإيمانهم وكأنّه تعالى “يرضيه الكلام” أي الأقوال من غير الأعمال والمشاعر من غير إنجازات، كقولك لأخ جائع عارٍ “كُل واستدفء” فقط بالكلام!
وهنالك شواهد أخرى كثيرة من العهد الجديد عن المحبة الكاملة وأجرها عند الرب (متّى 5: 46 – 47). ويحاسبنا الرب على أعمال المحبّة خصوصًا نحو الصغار (متّى 25: 34 وتابع). وذكر بولس “جهاده الجهاد الحسن وإتمامه لسعيه وحفظه الإيمان “(2 تيموثاوس 4: 7). ويؤكّد الإناء المختار في الأولى إلى أهل قورنثوس ( 3: 8): “كلّ واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه”.
الإيمان والأعمال : للموضوع خطورة ولإيضاحه ضرورة
منذ القرن السّادس عشر أساء قوم فهْم بعض ما كتب القدّيس بولس خصوصاً إلى الرومانيين والغلاطيّين، وأعلنوا الاستغناء عن كلّ الأعمال الصّالحة حتّى الوصايا العشر ، بخلاف القول السيّدي :”إن أردتَ أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا” (متّى 19: 17). وكان لتلك الأفكار – وما زال- كبير الضّرر كما يُثبت التاريخ. فعلاً، نزل مستوى المدارس والأبحاث وأغلقت المستشفيات وسائر أعمال الرّحمة (عن إيراسموس، رسالة رقم 1101، طبعة يانسن – المجلّد السّابع، القسم الثالث، فصل 1 – 3 ، ثمّ المجلّد الثّاني ، ص 310 و 322، الثالث ص 24 و 759-772). وشهد إيراسموس (رسالة رقم 902، سنة 1527): “امتلأت مدن ألمانيا بالأضاليل … لا قناعة في العيش. وحيثما حلّوا انتهت الأخلاق وماتت التقوى والانضباط”.
وتذمّر شاكياَ أحد المحتجّين على الكنيسة وقد أدرك بعد فوات الأوان خطورة تعاليمه الداعية إلى نبذ الأعمال والاكتفاء بالإيمان: “نرى أنّ الشّعب أصبح أكثر بخلاً وقساوة … وقد قلّ حياؤه وزاد لؤمه، وكلّ هذا (سبع مرّات) أسوأ ممّما كان عليه تحت لواء البابويّة” (طبعة فابمر، قسم 37 ، ص 203، بتاريخ 7 – 10 – 1533، ثم المجلد الثامن والعشرون، ص 763).
لزوم تدريس تاريخ الكنيسة الحقيقيّ وإدخال تصحيحات على كتب التاريخ المدرسيّة إحقاقاً للحقّ ولخيرنا الروحانيّ
منذ الانتداب البريطاني انتشرت شائعات ومغالطات ومبالغات تشوّه الحقيقة التاريخية حول الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى. وهنا وقع المنتقدون – وما يزالون – في تناقض مبين: من جهة يعلّمون ويُعلنون أنّ الأعمال الصالحة غير مطلوبة، ومن جهة أخرى ينتقدون “رجال الكنيسة ورعاياها” لفساد أخلاقهم (كما يُزعَم في تعميم متسرّع متهوّر جائر ). أمّا الواقع التّاريخيّ فكان خلاف ما كتبته كتب الانتداب البريطاني، وما ردّده بلا بحث ولا تدقيق ولا استشارة لأهل المعرفة والكفاية مؤلّفون غير مسيحيين وغير كاثوليك من كاتبي المناهج الدراسيّة، عن قصد أو بغير قصد.
ما تخلّت الكنيسة يوماً عن ضرورة الأعمال الصالحة، ومع ذلك زلّ كثير من رعاتها وابنائها في الخطأ كبشر ضعفاء تلزمهم التوبة في كلّ حين. وكما سلف، التعليم القائل بالاكتفاء بالإيمان من غير أعمال أخطر بكثير إذ يُطلق العنان، من حيث المبدأ، للخطأ والشّرّ وكأنّ كلمة “يا رب يا رب” أو “أنا أومن” كافية لمحو الخطايا وتعويض الأضرار (بخلاف التعاليم السيّدية الواردة في متّى 7: 21).
وتغفل كتب التاريخ المدرسيّ المشار إليها جحافل القدّيسين العظماء والعباقرة بالذات في القرون الوسطى أمثال القديس فرنسيس وكلارا الاسيزيين والمصلحين الحقيقيين من داخل الكنيسة، ومن أرفعهم شأناً على سبيل المثال لا الحصر: القدّيسون والقدّيسات اغناطيوس ده لويولا مؤسس اليسوعيين، وعبد الأحد مؤسس الدومنكان (وهما من الرهبنات المتسوّلة )، وكارلو بوروميو وفرنسسيس السالسي، وتريزا الأفيليّة ويوحنا للصليب مجدّدَي أديرة الكرمل وسواهم كثير…
خاتمة: نعمة الإيمان والأعمال والرّضى الربّانيّ
لا يفتخر أحد منّا بأعماله الصالحة فهي أيضاً نعمة، “ومن يفتخر فليفتخر بالرب” (عن 2 قور 10: 17) الّذي يقدّرنا “أن لا نتشبّه بهذه الدنيا بل أن نتحوّل بتجدّد عقولنا لنتبيّن ما هي مشيئة الله أي ما هو صالح وينال الرضى وما هو كامل” (رومية 12: 2). ولنصغِ إلى وصيّة رسول الأمم الإناء المختار: “تبيّنوا ما يُرضي الرّبّ ولا تشاركوا في أعمال الظّلام العقيمة ” (أفسس 5: 10 أ )، وأيضا: ” وبعد ،أيها الإخوة ، فكلّ ما كان حقّاً وشريفاً وعادلاً وخالصاً ومستحبّاً وطيّب الذّكر، وما كان فضيلة وأهلا للمدح ، كلّ ذلك قدروه حقّ قدره. وما تعلّمتموه منّي (أيضاً عن قورنثوس الأولى 11: 1) وأخذتموه عنّي وسمعتموه منّي وعاينتموه فيّ، كلّ ذلك اعملوا به، وإله السلام يكون معكم!” (فيليبّي 4: 8 -9).