الأحد السابع والعشرون من زمن السنة ب (أ. بيتسابالا)
البطريرك بيتسابالا
كي ندخل في عمق المقطع الإنجيلي لهذا الأحد، دعونا نستهلّ تأمّلنا بمقدّمة.
كما نعلم، يسوع في طريقه نحو أورشليم، حيث سيبذل حياته على الصليب لخلاص الجميع. وهو لن يقوم بهذه المبادرة لأنّ الشريعة تتطلّب ذلك، حيث لا يمكن لشريعة أن تطلب من الإنسان أن يموت من أجل الآخرين. المحبّة وحدها يمكنها طلب ذلك، وسوف يبذل يسوع حياته بدافع المحبّة ليس إلاّ.
في المقطع الإنجيلي لهذا الأحد يسأل الفرّيسيّون يسوع إن كان مشروعاً أن يُطلّق الرجل زوجته (مرقس ١٠: ٢). في الواقع السؤال في حدّ ذاته سيّئ الطرح، لأنّه يستخدم الشريعة، بشكل مشوّه، مستغلا إياها لتبرير الأنانية الشخصيّة، وللتهرب من الشعور بالذنب. كما لو كان التقيّد الحرفي بالشريعة كافياّ لحياة ناجحة.
يردّ يسوع بإعطاء كل شيء معناه الخاص وكرامته الخاصّة مرّة أخرى، أي تلك الدعوة الّتي أعطيت للإنسان منذ البدء (منذ بدء الخليقة جعلهما الله ذكرا وأنثى (١٠ :٥)، والّتي تُعيد صياغة كلّ شيء في مسار موحّد.
وهو يفعل ذلك أولاً وقبل كل شيء مع الناموس، الذي أعطاه موسى، في هذه الحالة، إلى الإنسان بسبب صلابته (“من أجل قساوة قلوبكم كتب لكم هذه الوصية” – ١٠: ٥). كانت الشريعة معطاة لأشخاص غير قادرين على المحبّة، بقصد وضع حد لصلابتهم المدمّرة العاتية. وبالتالي، فإن قانون الطلاق كان مصمماً من أجل كبح ظلم الرجل للمرأة، حتى لا يكون تعسّفياً بشكل مطلق. أولئك الذين أرادوا تطليق زوجاتهم، كان عليهم أن يفعلوا ذلك علانية، وأن يتحملوا المسؤولية عن ذلك، وكان ينبغي أن يكون لديهم أسباب وجيهة للقيام به. لكننا نفهم أن هذا لا يمكن أن يسود علاقة الحب بين الرجل والمرأة. إنّ ما سمح به الرب كان أمرا مؤقتاً.
في الواقع يتّخذ يسوع خطوة أخرى، ويُعيد صياغة أساس الزواج وفقاً لمخطّط الرب: فكي نفهم ما هو الحبّ الزوجيّ، لا تكفي الإشارة إلى المسموح أو الممنوع من الشريعة؛ بل يجب أن نعود إلى ما هو مكتوب منذ البداية في قلوبنا، في حامضنا النووي (DNA) ؛ يجب العودة إلى دعوتنا الأصليّة. وهناك مكتوبُ أنّ الحب يعني الاتّحاد بالآخر وأن يصبح الزوجان شيئاً واحداً (“…فيصير الإثنين جسداً واحداً– ١٠: ٧– ٨) وعندما يصبحان، حقّاً وبكامل الحرّية، شيئاً واحداً، كيف يمكننا أن نفصل بينهما؟
عندما ترك الإنسان ماضيه حقّاً من أجل القيام بشيء جديد، فكيف يمكنه العودة إلى الخلف؟
وبالتالي فإن الأمر لا يتعلّق بالشريعة، بل بدعوة الإنسان العميقة. وإذا افتقر الإنسان إليها فإنّه يفتقر إلى نفسه.
الأمر، إذا، يتطلب التفكير المليّ ليس متى يمكن تطليق الزوجة، بل كيف يمكن تغيير القلب، بحيث لا يبقى قاسياً، غير قادرٍ على الحبّ.
من المثير للاهتمام، كما هو الحال في المقاطع الإنجيليّة الّتي تُليت في أيام الآحاد الماضية، أنّ الأمر هنا أيضاً هو مسألة سلطان وهيمنة. إن القلب المتصلب هو قلب أولئك الّذين يعتقدون أنهم يستطيعون ممارسة القوّة على حياة الآخرين دون الالتزام بحبّهم. لكن هذا ليس في تصميم الربّ الأصلي على الإنسان.
وهناك خطوة أخرى، لا يشرحها يسوع علناً، أمام الجميع، بل لتلاميذه الّذين يسألونه مرة أخرى عن الموضوع (مرقس ١٠: ١٠). وهو أنّ الأمر المطروح لم يعد يتعلق بالرجل وحده، كما لو أن المرأة عديمة القيمة ودون اعتبار: هي أيضاً، تماماً مثل الرجل، شريكة متساوية لأن الخليقة الجديدة، ومسيرة الحبّ الجديدة والمُلزمة الّتي يقترحها يسوع، لا يمكن أن تتحقّق بدون الإسهام الكامل لحريّة كل من الرجل والمرأة: ليس من الممكن أن يصبحا شيئاً واحداً بدون هذا الإدراك الجديد.
فالحب إذاً، وفقا لمنطق الملكوت، يتناقض تمامًاً مع كل شكل من أشكال الهيمنة والقوة، وهو على خلاف معها، ويتم تحقيقه في بذل الحياة، وفي وضع الذات في خدمة الآخر: وبهذه الطريقة يُحقّق الإنسان ذاته، وبالتالي يُصبح الملكوت قريباً حقّاً.
يمكن قراءة الجزء الثاني من المقطع الإنجيلي لهذا الأحد (مرقس ١٠: ١٣– ١٦) وفقاً لنفس المنطق: كما أنّه لو لم يعد هناك أيّ اختلافُ في الكرامة بين الرجل والمرأة، تماماً كما أنّه لا يوجد أي اختلاف بين البالغين والأطفال.
مرّة أخرى يسمح التلاميذ لأنفسهم بالسعي وراء سلطان استبدادي، من خلال إبعاد الأطفال الّذين كانوا يُحملون إلى يسوع. ويقلب يسوع مفاهيمهم مرّة أخرى: ليس من يدخل ملكوت السموات هو ذاك الّذي يسمح لنفسه بأن يهيمن على الآخرين، والّذي يمارس التسلط والتفوّق، بل هو المحروم من الحقوق، والّذي لا يملك أي امتياز ولا أيّة مكانة، والّذي يتقبّل الحياة كهبة نقيّة طاهرة.
يغضب يسوع مرّة أخرى من تلاميذه، الّذين يواصلون صمّ آذانهم عن اللوم الّذي وُجّه إليهم بعد إعلانه الثاني عن آلامه (مرقس ٩: ٣٠– ٣٢)، ويُبدون رغبة في الاستمرار في الاعتقاد بأن اتّباع معلّم موثوق به إلى هذا الحدّ لا يمكنه سوى ضمان عظمة أرضيّة لهم.
إنّ مسيرة ارتداد التلاميذ لا زالت بعيدة، وسوف يعود سوء الفهم هذا مرة أخرى في هذا الفصل، من خلال طلب يعقوب ويوحنّا (مرقس ١٠: ٣٥ وتابع) بالجلوس عن يمين يسوع وعن يساره.
أمام هؤلاء التلاميذ يقوم يسوع بحركة ذات مغزى، وهي احتضان الأطفال وضمّهم إلى صدره، ومباركتهم (مرقس ١٠: ١٦): وعوضاً عن جنون العظمة لديهم، يقوم يسوع بلفتة حنان. على التلاميذ، كما علينا اليوم، أن نتساءل: أيٌّ من هذين الأسلوبين هو الأكثر صدقا وانسانية وإقناعاً؟