الأحد السادس من زمن السنة (ج)
الأب لويس حزبون
بعد صلاة يسوع على الجيل ودعوته للرسل تكلم لوقا الإنجيلي عن عظة يسوع الكبرى مما يوكّد ان اعماله تسبق أقواله (لوقا 24: 19 واعمال الرسل 1: 1). وفي عظته يصف سلوك التلميذ الكامل بإعلان احتفالي لقيم الملكوت من خلال التطويبات. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 6: 17، 20-26)
17ثُمَّ نَزَلَ معَهم فوَقَفَ في مَكانٍ مُنْبَسِط، وهُناكَ جَمعٌ كَثيرٌ مِن تَلاميذهِ، وحَشْدٌ كَبيرٌ مِنَ الشَّعْب مِن جَميعِ اليَهودَّية وأُورَشَليم، وساحِلِ صورَ وصَيْدا”: تشير عبارة “مَكانٍ مُنْبَسِط” الى السهل ربما رمز الى سهل مؤاب حيث أُعطي سفر التثنية الاشتراع للشعب. فالسهل يدلُّ على انفتاح رسالة المسيح على العالم الواسع، العالم الوثني. اما عبارة “جَميعِ اليَهودَّية وأُورَشَليم” فتشير الى العالم اليهودي؛ واما عبارة ” ساحِلِ صورَ وصَيْدا: فتشير الى العالم الوثني. وعليه فان الناس الذين جاؤوا ليسمعوا يسوع ليس هم فقط من العالم اليهودي، ولكن أيضا من العالم الوثني. فالبشارة موجّهة الى جميع البشر يهودا كانوا أم وثنيين.
20وَرَفَعَ عَيْنَيْه نَحوَ تَلاميذِه وقال: “طوبى لَكُم أَيُّها الفُقَراء، فإِنَّ لَكُم مَلَكوتَ الله”: تشير عبارة “َالتلاميذ “الى ان العظة كانت موجّهة الى التلاميذ اولا، وإن كانت الجموع تصغي اليه أيضا. أما عبارة “الفُقَراء” في انجيل لوقا فتشير الى أولئك الفقراء المحتاجين الى خيرات هذه الدنيا، في حين الكلام يدور في انجيل متى حول الفقراء بالروح (متى 5: 3). اما عبارة “لَكُم” فأنها موجّهة لا الى التلاميذ فقط بل الى الفقراء عامة، والى مسيحيين فقراء وبؤساء خاصة.
“21طوبى لَكُم أَيُّها الجائعونَ الآن فَسَوفَ تُشبَعون. طوبى لَكُم أَيُّها الباكونَ الآن فسَوفَ تَضحَكون”: تشير عبارة “الجائعونَ الآن فَسَوفَ تُشبَعون” الى انقلاب الوضع الحالي كما ورد في نشيد تعظم “أَشَبعَ الجِياعَ مِنَ الخَيرات والأَغنِياءُ صرَفَهم فارِغين “(لوقا 1: 53). وقد سبق وأعلن الأنبياء اشعيا، وارميا وحزقيال عن “شبع الجياع” (اشعيا 49: 10، وارميا 31: 12، وحزقيال 34: 29). وأما عبارة” الباكون ” فتشير الى ضحايا الظلم الاجتماعي. اما عبارة ” فسَوفَ تَضحَكون” تشير الى الانباء بالفرح الذي يعقب البكاء كما ورد في نبوءة اشعيا “يمسَحُ السَّيِّدُ الرَّبُّ الدُّموعَ عن جَميعِ الوُجوه ويَرفَعُ عارَ شَعبه عن كُلِّ الأَرض لِأَنَّ الرَّبَّ قد تَكَلَّم. فيُقال في ذلك اليَوم: هُوَذا إِلهُنا الَّذي آنتَظَرْناه وهو يُخَلِّصُنا هُوَذا الرَّبُّ الَّذي آنتَظَرْناه فلنَبتَهِجْ ونَفرَح بِخَلاصِه”(اشعيا 25: 6-9). فالبكاء والضحك تميزان البؤساء والسعداء في هذا العالم. ولكن الانجيل يُبيّن انه لا يكفي الانسان أن يكون بائسا او سعيداً في الواقع لينال السعادة أو البؤس، بل لا بد له ان يتفهّم ويتقبّل وضعه في ضوء الخلاص. اما عبارة الآن” فتشير الى الحاضر الذي يستمد معناه من المستقبل. وكل ما في الوقت الحاضر من قيود ومتطلبات فهي تشكل الحقائق التي ينبثق منها الرجاء السعيد للمؤمن.
22طوبى لَكمُ إِذا أَبغَضَكُمُ النَّاس ورَذَلوكم وشتَموا اسمَكُم ونَبذوه على أَنَّه عار مِن أَجلِ ابنِ الإِنسان”: تشير هذه الآية الى التشهير والاضطهاد. فالسعادة تجد ينبوعها في حضور يسوع وتحمل البغض والتشهير والاضطهاد من أجل اسمه.
23اِفرَحوا في ذلك اليَومِ واهتُّزوا طَرَباً، فها إِنَّ أَجرَكُم في السَّماءِ عظيم، فهكذا فَعَلَ آباؤهُم بِالأَنبِياء. كثيرا ما ذكّر يسوع استشهاد الأنبياء (لوقا 11: 47-51 و13: 33 و34). بعد التذكير بالمضطهدين في الماضي وهم الأنبياء، يسوع يتنبأ بان التلاميذ هم ايضاً يضطهدون وبالتالي يواصلون هم عمل الأنبياء.
24لكِنِ الوَيلُ لَكُم أَيُّها الأَغنِياء فقَد نِلتُم عَزاءَكُم. تشير عبارة “الوَيلُ” لا الى لعنة او حكم لا رجوع عنه، بل الى رثاء بمعنى “ما أتعسكم!” وتهديد. وبالتالي فهي دعوة قوية الى التوبة كما جاء في تهديد يسوع الى مدن بحيرة طبرية” الوَيلُ لكِ يا كُورَزِين! الوَيلُ لكِ يا بَيتَ صَيدا! فلَو جَرى في صورَ وصَيدا ما جَرى فيكُما مِنَ المُعجِزات، لَأَظهَرتا التَّوبَةَ مِن زَمَنٍ بَعيد، فلَبِستا المُسوحَ وقَعَدتا على الرَّماد” (لوقا 10: 13). فالشبع في الغنى لا يكسب الانسان الاّ المال، والمال لا يدوم.
25الوَيلُ لَكم أَيُّها الشِّباعُ الآن فسَوفَ تَجوعون. الوَيلُ لَكُم أَيُّها الضَّاحِكونَ الآن فسَوفَ تَحزَنونَ وتَبكون. 26الوَيلُ لَكُم إِذا مَدَحَكم جَميعُ النَّاس فَهكذا فَعَلَ آباؤُهم بِالأَنبِياءِ الكَذَّابين. تشير عبارة “ِالأَنبِياءِ الكَذَّابين” الأنبياء الكذبة في أيام العهد القديم. وكانت الجموع والملوك يمدحونهم بسبب تكهناتهم عن الازدهار والانتصار في الحروب، وهي تكهنات محبوبة لكنها غير صادقة وغير حقيقية. فالأنبياء الكذبة هم انبياء فيهم أرواح شريرة يتنبؤون باسم الله برؤيا كاذبة وبالعرافة والباطل ومكر قلوبهم (ارميا 14: 41)، وأحيانا يحاربون الأنبياء الحقيقيين مثل النبي الكاذب صدقيا بن كنعه الذي قاوم ميخا النبي (1ملوك 22: 24) ومثل النبي الكاذب حننيا بن عزور الذي قاوم النيي ارميا (ارميا 28: 1-17).
ثانياً: تطبيقات نص الإنجيلي (لوقا 6: 17، 20-26)
انطلاقا من هذه الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي يمكننا ان نستنتج ان النص يتمحور حول التطويبات والويلات التي استهلها السيد في عظته الكبرى في السهل. ومن هنا نتساءل ما هو مفهوم التطويبات والويلات في ضوء انجيل لوقا؟
السؤال الأول: ما هو مفهوم التطويبات في أنجيل لوقا؟
تستهل عظة يسوع الكبرى في انجيل لوقا بتطويبات. ويروي أربع تطويبات من تسع تطويبات ورد ذكرها في متى (5: 1-12). ويبدو ان لوقا يتناول احوالا حاضرة تدعو الى العمل، أما متى الإنجيلي فيتناول مواقف يقوم عليها البِر. فمتى يُشدد على دور التطويبات الارشادي، وأما لوقا فيشدد على طابعها الاجتماعي. ومن هنا نتساءل عن كلمة معنى كلمة “طوبى” كي ننتقل الى مفهوم التطويبات في مفهوم لوقا الإنجيلي.
طوبى في العربية معناها غبطة وسعادة، وخيرٌ دائم وهي من الطِّيب. اما في الكتاب المقدس فكلمة “طوبى” مأخوذة من أصل عبري אַשְׁרֵי، ومعناها ” هنيئا. بركه او سعادة (اشعيا 56: 2). وعليه يستخدم يسوع أسلوبا مألوفا في الكتاب المقدس، يُستعمل لتهنئة أحدٍ نال هبة (لوقا 10: 23) او لتبشير فئة من الناس بالسعادة (لوقا 11: 28) او للكشف عن هوية هم الذين في أفضل حال لنيل ملكوت الله (لوقا 6: 20-22)، ولكن معظم التطويبات هي مواعد للذين يتقبّلون رسالته (لوقا 12: 37 و38 و43 و14: 14). فالتطويبات نداءات يوجهها يسوع الى من يريد ان يتبعه (لوقا 11: 27-28)، على مثال سيدتنا مريم العذراء (لوقا 1: 45) وبطرس الرسول (متى16: 17). فالتطويبات لا تكتسب معناها الحقيقي ما لم تربط بيسوع الذي يتكلم ويبذل نفسه.
وبعبارة أخرى، كلمة “طوبى” هي تهنئة من اجل حالة من السعادة أو الفرح وعِلّة هذه السعادة. فتصف الإنسان السعيد حقاً وتعلن عن الطريقة التي يمكن أن يكون تلميذاً حقيقياً للسيد المسيح وحاملا للإنجيل. ومن هنا جاء لقب “طوباوي” الذي يطلقُ على كل من عاش سيرة صالحة على خطى السيد المسيح.
وقد جمع لوقا نوعين من التطويبات: النوع الأول يتناول الأوضاع الاجتماعية كالفقراء والجياع والحزانى والنوع الثاني متعلق بالاضطهاد.
النوع الأول من التطويبات: الفقراء والجياع والحزانى.
لا يبيّن يسوع ما هي الفضائل اللازمة لدخول الملكوت، بل يَظهر بمظهر المسيح المرسل الى الفقراء والجياع والحزانى، الى هؤلاء الذين يفضَّلهم الله (متى 11/ 5)، وهم غير المستفيدين في هذه الدنيا والمتوكلين على الله وحده فيعلن لهم محبة الآب الرحيم. وقد دلّ يسوع على نفسه أنه المسيح الذي يُدشِّن أزمنة الخلاص التي وُعد بها الفقراء تتميماً لنبوءة اشعيا ” العُمْيانُ يُبصِرونَ، العُرْجُ يَمشُونَ مَشيْاً سَوِيّاً، البُرصُ يَبَرأُونَ والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومونَ، الفُقَراءُ يُبَشَّرون. وطوبى لِمنَ لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثرَة ” (لوقا 7: 22-23).
وبكونه مرسل للفقراء هنَّئا يسوع الفقراء “طوبى لَكُم أَيُّها الفُقَراء” (لوقا 6: 20)، وبهذه التهنئة يتعارض يسوع كل المعارضة مع ما يقدّمه العالم من البحث عن المال والغنى. ومن دواعي العَجَب والدَّهَش أن يُمجِّد المسيحُ مَن يعتبرهم العالم ضعفاً ورذالة. ومع ذلك يشدّد يسوع في انجيل لوقا على الفقر الروحي بقدر ما يشدد على الفقر المادي. ويركًز على الفقراء الحقيقيين أي الطبقة الاجتماعية المسحوقة ماديا. وهذه النظرة الى طبقة الفقراء تدخل في الخط الشامل لإنجيل لوقا. ولقد اعارهم اهتماما خاصا (لوقا 19: 8)، وكثيرا ما عبّر يسوع عن معزّته للفقراء، فنصح صاحب المأدبة ان يدعوهم ” إِذا أَقَمتَ مَأَدُبَة فادعُ الفُقَراءَ والكُسْحانَ والعُرْجانَ والعُمْيان” (لوقا 14: 13)؛ وكشف للغني مصير لعازر الفقير “تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلتَ خَيراتِكَ في حَياتِكَ ونالَ لَعاَزرُ البَلايا. أَمَّا اليَومَ فهو ههُنا يُعزَّى وأَنت تُعَذَّب”(لوقا 16: 25). وحث الى التبرع الى الفقراء ” اِذْهَبْ فَبعْ ما تَملِك وأَعطِهِ لِلفُقَراء، فَيَكونَ لَكَ كَنزٌ في السَّماء”، (مرقس 10: 21) وأثنى على الارملة الفقيرة (متى 12: 43)، ووجه رسالته الى الفقراء أولا “رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء “(4: 18) فكان تبشير الفقراء أهم ما في رسالة يسوع التي تتم نبوءة اشعيا (61: 1). وفي الواقع أتى المهتدون الأوائل الى المسيح من الفقراء، الطبقة الاجتماعية المحرومة.
وحين يتكلم يسوع عن الفقراء يشمل الصغار أيضا ” أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّماءِ والأَرض، على أَنَّكَ أَخفَيتَ هذِه الأَشياءَ على الحُكَماءِ والأَذكِياء، وَكَشَفْتَها لِلصِّغار”(لوقا 10: 21) كما يشمل أيضا الوضعاء “فمَن رفَعَ نَفْسَه وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَه رُفِع “(لوقا 14: 11)، علما ان يسوع وُلد هو نفسه بينهم. وهذه الأفضلية التي يخص بها الفقراء والصغار هي الدليل على وجود الله المطلق. إذ هي دعوة الى انتظار كل شيء من نعمته. فيسوع عندما يخاطب تلاميذه قائلا: “طوبى لَكُم أَيُّها الفُقَراء” (لوقا 6: 20) فانه يعني ان فقرهم الفعلي بركة، لأنه يُعينهم على الاحتفاظ باتكالهم على الله، وهكذا يؤهلهم لملكوته. فأصحاب التطويبة كلهم فقراء بمال الأرض، أغنياء بمال الله، وكلهم في تجرد من متاع الدنيا ليربحوا المسيح وملكوته. فيمثِّل هؤلاء الفقراء مثالاً يجب أن يُقتدي به كل الذين يريدون أن ينعموا برضى الله وخلاصه. “فالمتكبر يسعى إلى السلطة البشرية، يقول أوغسطينوس، بينما الفقير يسعى إلى ملكوت السماوات”.
اما الجياع والباكون والمرذ لون فيقصد يسوع بكلامه الظروف الواقعية والتاريخية التي يعيشها البشر كل يوم. وما كلمة “الآن” الا ان تقوّي هذا الانطباع وتعززه. فكلمة “طوبى لَكُم أَيُّها الجائعونَ الآن فَسَوفَ تُشبَعون” (لوقا 6: 21). يشدد لوقا الإنجيلي هنا على الجياع جسديا، وهو ما يتفق مع أسفار العهد القديم التي تتحدث عن إهتمام الله بالفقراء. ولقد فاجأ يسوع مستمعيه بنطق البركة والطوبى للجياع في حين ينظر اليهود الى الثروات كعلامة على نعمة الله وفضله. لكن موقف يسوع تجاه الجياع يتفق مع تقليد قديم كما جاء في سفر المزامير “مُجْري الحُكْمِ لِلمظْلومين رازِقِ الجِياعِ خُبزًا ” (مزمور 146: 7) وكما جاء أيضا في اقوال اشعيا النبي “أَلَيسَ الصوم أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه ” (اشعيا 58: 6-7) ويتفق ايضا مع صلاة سيدتنا مريم العذراء أم يسوع “أَشَبعَ الجِياعَ مِنَ الخَيرات” (لوقا 1: 53).
وهذه التطويبة تتضارب مع قيم العالم في السعي وراء الحاجات الشخصية مثل الاكل والشرب والملبس في حين الله يكافاه الجياع بالاكتفاء الذاتي. إذ إنَّ السعادة عند الله تعني الفرح والرجاء وعدم الاتكال على الظروف الخارجية. فجاء في كتابات يوحنا الصليبي ما يؤكّد ذلك “لي السماوات، والأرض لي، والكون كله لي، لأني بالله أمتلك كل شيء”.
وأما الباكونَ الآن فسَوفَ تَضحَكون” فتشير الى الانباء بالفرح الذي يعقب البكاء كما ورد في نبوءة اشعيا (25: 6-9). ويُظهر الانجيل انه لا يكفي الانسان أن يكون باكيا او بائسا في الواقع لينال السعادة، بل لا بد له ان يتفهّم ويتقبّل وضعه في ضوء الخلاص. فالبكاء يتضارب مع الضحك، لكن المكافأة هي العزاء كما جاء في تعليم بولس الرسول ” الله هو الَّذي يُعَزِّينا في جَميعِ شَدائِدِنا” (2 قورنتس 1: 4) هذه الشدائد هي متاعب الحياة، والفقر والتعرض للموت بما فيه من مضايق ومحن. والبكاء مطلوب خاصة للخاطئين ليصلوا الى هدفهم بالاقتراب من الرب “أَيُّها الخاطِئُونَ، أُندُبوا شَقاءَكم واحزَنوا وابكوا. لِيَنقَلِبْ ضَحِكُكم حُزْنًا وفَرَحُكم غَمًّا” (يعقوب 4: 9).
وعليه فان قصد يسوع بالتطويبات، من ناحية، ان يرى المؤمن فقره الحقيقي وبؤسه وجوعه وبؤسه وحقارته التي يعاني منها الشيء الكثير، ومن ناحية أخرى ان ينظر المؤمن الى جميع الذين يحيطون به من فقراء وجياع وحزاني ومرذولين. لذا نجد ان الفكرة العامة التي تنطوي عليها تطويبات في إنجيل لوقا هي الوعد بالخلاص لمن هم “الآن” فقراء وجائعون وباكون والمضطهدون … فملكوت الله يبدو انقلابا للمواقف الحاضرة. ويحدث مبدأ انقلاب الأوضاع بعد الموت كما جاء في تصريح ابينا إبراهيم الى الرجل الغني: ” يا بُنَيَّ، تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلتَ خَيراتِكَ في حَياتِكَ ونالَ لَعاَزرُ البَلايا. أَمَّا اليَومَ فهو ههُنا يُعزَّى وأَنت تُعَذَّب” (لوقا 19: 25). ووضَّح يسوع هذه المواقف في مثل الغني ولعازر الفقير التي يصف تغيير الموقف الذي يؤدي اليه الانتقال من هذه الدنيا الى الآخرة (لوقا 16: 19-26).
النوع الثاني من التطويبات: المضطهدون:
اما النوع الثاني من التطويبات فيكمن في الاضطهاد “طوبى لَكمُ إِذا أَبغَضَكُمُ النَّاس ورَذَلوكم وشتَموا اسمَكُم ونَبذوه على أَنَّه عار مِن أَجلِ ابنِ الإِنسان” (لوقا 6: 22). يشير يسوع هنا الى تلاميذه والى كل من يرغب إتباع يسوع. فمن أراد ان يتبع يسوع، لا بد له ان يواجه معارضة واضطهاد. الاضطهاد في نظر لوقا هي المضايق، والمضايق هي محن الحياة اليومية،
والواقع إن المومن الحقيقي يوصف باستمرار في العهد الجديد كشخص معرض للاضطهاد. يطلب يسوع منا ان نفرح عندما نُضطهد، فالاضطهاد قد يكون خيرا لنا: لأنه يقوِّي إيمان من يحتملون، ويعزينا ان نعرف ان أعظم انبياء الله قد اضطهدوا في الماضي (مثل إيليا، وارميا، ودانيال).
واضطهادنا في الوقت الحاضر يعني اننا أثبتنا أننا أمناء، وفي المستقبل سيكافئ الله الأمناء بإدخالهم الى الملكوت السماوي حيث لا اضطهاد بعد. وخير مثال على ذلك ما نجدعه في الجماعات المسيحية الأولى التي أنشأها بولس الرسول فوجّه اليها هذه الكلمات:” يَجِبُ علَينا أَن نَجتازَ مَضايِقَ كَثيرة لِنَدخُلَ مَلَكَوتَ الله ” (اعمال الرسل 14: 22)؛ وذلك للسير على خطى يسوع الذي قال لتلميذي عمّواس بعد قيامته من بين الأموات ” أَما كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه؟ ” (لوقا 24: 26). فالاضطهادات والمضايق أي المصاعب على انواعها في نظر لوقا الإنجيلي هي نصيب كل تلميذ للمسيح في حياته الحاضر التي يجب ان يجتازها للدخول في مجد المسيح كما فعل المسيح “ما مِن تِلميذٍ أَسمى مِن مُعَلِّمِه”(لوقا 6: 40).
وعليه فإن احتمال العار من اجل المسيح هو فخر للمسيح امام الله ومدعاة للسرور كما حدث مع الرسل ” أَمَّا الرسل فانصَرَفوا مِنَ المَجلِسِ فَرِحين بِأَنَّهم وُجِدوا أَهلاً لأَن يُهانوا مِن أَجْلِ الاسْم” (اعمال الرسل 5: 41) لأنَّ ما يهمّ تلميذ المسيح هو كل ما يقرّبه من ربه، ابتداء من الاضطهاد الذي يشركه بما عاناه يسوع من إهانة في آلامه.
فالصليب هو جزء من حياتنا اليومية، وغيابه قد يدعو الى القلق، وهذا الصليب اليومي هو المحن الصغيرة او الكبيرة التي تملأ حياتنا. فما دامت المحنة حاضرة ف حياتنا، يمكننا القول إننا في طريق التطويبات. فيسوع لا يطلب من تلاميذه شهرة او ثورة، بل بالحري نوحا وجوعا واضطهاد، ولكن الرب يؤكد لهم انهم سيكافئون. فرَجاؤُنا في المسيحِ ليس مَقصورًا على هذهِ الحَياة، الاّ ” فنَحنُ أَحقُّ جَميعِ النَّاسِ بِأَن يُرْثى لَهم” (1 قورنتس 15: 16).
السؤل الثاني: ما هو مفهوم الويلات؟
في انجيل لوقا تلي التطويبات أربع ويلات تأييدا لعبرة التطويبات كما ورد في أسفار العهد القديم (طوبيا 13: 14 وأشعيا 3: 10-11). فهي تناقض التطويبات كي تبرز ما تعد به التطويبات لا بل ما تتطلبه أيضا. وعليه قال يسوع ” الوَيلُ لَكُم أَيُّها الأَغنِياء”. فالغنى يعرض قلوبنا الى أخطار ثلاث، وهي: يمنع الانسان ان ينظر الى ابعد من الحياة الحاضرة، وبالتالي يعجز عن الاهتمام بما يأتي بعدها، أي الحياة الابدية؛ كما ان الغنى يطوي الانسان على نفسه ويمنعه من التفكير بالمحتاجين الى ما هو ضروري وأخيرا يحتل الغنى مكان الله في قلب الانسان فيصبح الها معبوداً. كما صرّح يسوع المسيح “ما مِن خادِمٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لِأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلَزمَ أَحَدَهما ويَزدَرِيَ الآخَر. فأَنتُم لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِله ولِلمال”(لوقا 16:13)
فالويلات موجّهة ليس فقط الى الأغنياء بل أيضا الى الشباع والضاحكون والذين يمتدحهم الناس. وهذه الويلات تدل على تحسّر يسوع وحزنه على أولئك الذين رفضوا التجدد، وفضّلوا العالم ومديح الناس على رضى الله، ولا سيما في وقت الاضطهاد. وينوح الرب على الأغنياء الذين يجدون تعزيتهم في كَثرة الأموال “الوَيلُ لَكُم أَيُّها الأَغنِياء فقَد نِلتُم عَزاءَكُم”(لوقا 6: 24) ويشجب موقف الشباع والضاحكين وطالبين مديح الناس”الوَيلُ لَكم أَيُّها الشِّباعُ …الوَيلُ لَكُم أَيُّها الضَّاحِكونَ” (لوقا 6: 20-23). ويوضح ارميا النبي سبب هذ الويلات بقوله “مَلْعونٌ الرَّجلُ الَّذي يَتَّكِلُ على البَشَر ويَجعَلُ مِنَ اللَّحمِ ذراعاً لَه وقَلبُه يَنصَرِفُ عنِ الرَّبّ” ( ارميا 17: 5).
وهذه الويلات موجَّهة إلى من يضع ثقته وأمانه بنفسه وأمواله وإلى من يعتقد بأن سعادته تكمن في رَغَد الحياة وملذاتها وبتصفيق الناس له ومدحهم إياه. وفي هذا الصدد يقول القديس غريغوريوس النيصي في عظاته عن التطويبات: “كل واحد يسعى إلى الخير والسعادة ولكن الفشل يكمن في عدم التمييز بين الخير والسعادة الحق، وبين ما نظنه أو يُخيّل لنا بأنه السعادة والخير”.
فالأغنياء والشبع والضاحكون وطالبو مدح الناس طلبوا السعادة فلم يجدوها، وقد خدعتهم فيها الظواهر والاباطيل. فكانوا كمن يسعون وراء سراب بعيد. الأغنياء المفتنون بذواتهم، المتنعمون بمال ارضهم، الغافلون عن آخرتهم، فالويل لهم. ان الذين يقدّرهم العالم حق قدرهم، يجرّدهم يسوع من سعادتهم المزعومة.
اما يسوع فيأني بالسعادة، وهي في متناول الجميع. هذه السعادة ليست، كما يتوهم الناس، وقفا على اغنياء الدنيا، من ذوي المال والجاه والسلطان، إنما يجدها الناس في الفقر والجوع والالم والدموع. فقد قلب يسوع قيم الأشياء، فإذا بأسباب الشقاء تصبح مع يسوع اسباباً للسعادة، وبابا للملكوت. إنها معجزة المسيحية، تجعل من الفقير غني الملكوت ومن الحزين فرحا، ومن الجائع شبعا، ومن المضطهد سعيدا.
وعليه فالتطويبات هي في القلب كرازة يسوع لأنها تقوم قبل كل شيء على إعلان الإنجيل، إعلان البشارة. وهي موجّهة بنوع خاص إلى الفقراء المساكين والحزانى والجياع والمضطهدين وكل الذين يتخذون موقف فقراء أمام الله ويتوجّهون إليه كمخلّصهم الوحيد. فالتطويبات هي زمن تحقيق النبوءات ومواعيد الله، وتُعلِن من الآن ما سيحصل عليه التلاميذ من البركات والمكافأة. وبعبارة أخرى تكشف التطويبات عن هدف الوجود الإنساني، عن الغاية القُصوى للأعمال الإنسانية وهي أن الله يدعونا إلى سعادته الخاصة؛ وهذه الدعوة موجّهة إلى كل واحد شخصياً.
خلاصة
نستنتج مما سبق ان يسوع يوضّح الفرق بين طريق التطويبات وطريق العالم. فطريق التطويبات تدعو الانسان ان يكون مستعداً للعطاء، في حين طريق العالم هي طريق الأخذ من الآخرين؛ طريق التطويبات تدعو الى المحبة والمساعدة، في حين طريق العالم تدعو الى البغض والكره والإساءة الى الآخرين. وفي النهاية فطريق التطويبات تؤدي الى الحصول على كل شيء، في حين طريق العالم تنتهي الى لا شيء. وأكد المطران يوحنا بطرس موشي، رئيس أساقفة الموصل هذه المبدأ بقوله “أن شعبه المسيحي في العراق قد خسر كل شيء ما عدا الإيمان والأخلاق وربح الله”.
وصفحة التطويبات هذه هي أصعب ما نواجِه وهي تُشكل التحدي الأكبر لإنسان المعاصر، وحتى للإنسان المؤمن؛ وهذا التحدي يتطلب اهتداءً عميقاً ومستمراً.فالتطويبات تُبيّن التناقض الفاضح بين ما نعيشه وبين ما يعرضه علينا المسيح. فهو عرض بعكس التيار، يتعارض مع عقلية إنسان اليوم وما تصوره وسائل الإعلام ومجتمع الاستهلاك، وتقديس الجسد والغِنى والعظمة والقوة واللذة؛ لان العالم الذي نعيش فيه مبني على مبدأ الحياة للأقوى والأعنف والأغنى، وتتربع على ذروته المِتع الأرضية والملذات، بينما يُبيّن يسوع في كلامه على الملكوت وكأنه يميل في اختياره إلى الفقراء والحزانى والمضطهدين وكل من ينبذهم العالم.
باختصار التطويبات هي نداء يوجّهه يسوع إلى كل الذين يريدون أن يتبعوه وان يكونوا تلاميذه. وأفضل مثال لكل صفة في التطويبات نجدها في يسوع نفسه. “فالمسيح يسوع لم يتفوه بالتطويبات وحسب، أنما هو نفسه عاش التطويبات، لا بل هو نفسه “التطويبات”. وعندما نظر إلى يسوع ندرك حقاً معنى التطويبات وطريق يسوع المسيح التي هي السبيل الوحيد إلى السعادة الأبدية التي يصبو إليها قلب الإنسان لأنها الطريق الأساسية لبلوغ ملء قامة المسيح ولبلوغ النضج والحرية في حياتنا الروحية ونصبح شعب التطويبات.
ولا يسعنا أخيراً الاّ نختتم بكلمات البابا القديس يوحنا بولس الثاني في عظته على جبل التطويبات يوم 24 آذار 2000 بقوله “اَعتَبِروا، أَيُّها الإِخوَة، دَعوَتَكم” (1قورنتس 1: 16)، ويبدو وكأن عيش التطويبات في عالم اليوم مغامرة تفوق طاقاتكم. ولكن المسيح لا يقف متفرجاً، ولا يدعكم تواجهون وحيدين هذا التحدي! هو دائماً معكم ليحوّل ضعفكم إلى قوة. آمنوا ولتكن لكم الثقة فيه، هو القائل: ” حَسبُكَ نِعمَتي، فإِنَّ القُدرَةَ تَبلُغُ الكَمالَ في الضُّعف ” (2 قورنتس 12: 9).