الأحد ١٨ من زمن السنة ب (أ. بيتر مدروس)
الأب بيتر مدروس
القراءة الأولى (1 : 2 وتابع) من سِفر الجامعة – قوهيليت – وهو مؤنّث لفظيّ لا معنويّ كقولك “علاّمة، بحّاثة” – تُعلن أنّ الدنيا “باطل الأباطيل وكلّ شيء باطل”. حرفيّاً : “نفخة نفخات” أي هواء وريح يمرّان ولا يبقى منهما شيء. هذا هو عمرنا على هذه الفانية. ومع وجود الألم والموت والمصائب، ما زالت البشريّة متمسّكة بالدّنيا كأنّها الحياة الوحيدة والأخيرة. لذا يُخاطبنا السيّد المسيح بقساوة أبويّة أخويّة تدلّ على محبّته القصوى لنا: “يا جاهل، في هذه الليلة تؤخذ نفسك منك، فالّذي كدّستَه لمَن سيكون؟”
في المسيح يسوع “لم يبقَ لا يهوديّ ولا يونانيّ ، لا أعجميّ ولا اسكوثيّ”! (قول 3 :11)
“الأعجميّ” أو “البربريّ” عند اليونان كان الجاهل باللسان اليونانيّ ، والإسكوثيّ كان كناية عن “متوحّش أصله من الشّمال”. وعندنا في فلسطين كانت مدينة “طويلة عريضة” تُدعى “إسكثوبوليس” وهي “بيسان” التي دُمّرت في نكبة سنة 1948.
بولس رسول الأمم الإناء المختار لم يخترع المسيحيّة، بل أعاد تعاليم السيّد المسيح وتعليماته له المجد ، أحياناً بصيغ بسيطة مثل تلك التي استخدمها المعلّم المخلّص السّامي، وأحياناً في صيغ فلسفيّة أو قانونيّة، لكنّ الجوهر واحد.
فعلاَ، أطلق يسوع النّاصري “ثورة الحنان” كما يقول قداسة البابا فرنسيس الأوّل. وأوصى رسله وتلاميذه الذين في أوّل عهدهم به كانوا ضيّقي الآفاق لا يعرفون أن يخاطبوا إلاّ اليهود (في متّى 10 ) – أوصاهم: “تلمذوا جميع الأمم” (متّى 28 : 19 – شعار يوم الشبيبة العالمي في البرازيل لهذه السنة 2013). وأيضاَ: “اكرزوا بالإنجيل للخليقة كلّها” (مرقس 16: 15 وتابع). ولم يقل: “اختنوا جميع الأمم”. وهكذا حلّت المعمودية محلّ الختان حيث كان التّمييز بين ذَكَر وأنثى ، بين يهوديّ وغير يهوديّ (عن غلاطية 3: 26 وتابع).
وأزال السيّد المسيح كلّ نعرة تستهدف غير العبرانيين في مَثَل السّامريّ الرّحيم ، حيث جعل أحد أبناء تلك الطّائفة المنشقّة التي أبغضها اليهود بغضاً شديداً – مثالاً للرحمة وقدوة للإحسان، دون نخبة الكهنوت اليهودي! (لوقا 10 : 25 وتابع).
ورفض يسوع الثيوقراطيّة بمعنى السّيطرة باسم الله على الآخرين، خصوصاً من الذين لا يدينون بديانته أو لا يأتمرون بأوامره. وأعلن للوالي الروماني بونطيوس بيلاطوس: “مملكتي ليست من هذا العالم” (يوحنّا 18: 36).
الشّعوب المسيحيّة أكثر البشر عرضة للتمييز وأوفرهم تسامحاً وأريحيّة
لا يمكن إنكار هذا الواقع، إلاّ إذا كان المرء غير مطّلع على كنه الأمور في البلاد الغربيّة والشّرقيّة. ولكن قبل الخوض في أوضاع البشر، يكفي أن يذكّر المرء هنا بأنّ المسيحيّة أي المبدأ والنّصوص والقواعد والشرائع هي نهاية العنصرية والعبودية، كما أسلفنا مستشهدين ببعض الآيات هي غيض من فيض.
ورُبّ معترض يعترض: “المسيحيّون ولا سيّما الأعاجم معروفون بعنصريّتهم حتّى باستهتارهم بالمسيحيين العرب أنفسهم أحياناً!” والحقّ أنّ تلك تجاوزات جماعيّة وفرديّة ، مخالفة للإنجيل الطّاهر ونوره وهداه. ولكن، كما يلحظ المفكّر الكبير جان جاك فالتر، “يتغلّب المبدأ على تصرّفات البشر ، على المدى الطويل أو القصير” بسبب قوّة العقيدة والاقتناع ووخز الضمير لعدم اتّفاق السلوك مع المذهب أو الدين أو المبدأ، حتّى عند أكثر البشر شرّاً. وفعلاً انتصرت شريعة الزوجة الواحدة واللاعنف والتسامح واحترام حقوق الإنسان في الشعوب المسيحيّة بتأثير بطيء أو سريع للإنجيل المقدّس.
وتشهد أيّامنا بوضوح الشّمس، أنّ الشّعوب والدّول المسيحية أو ذات الحضارة المسيحية، هي أكثر الشعوب تسامحاً واستقبالا للغريب، ولعلّها الوحيدة التي تمنح الغرباء الجنسيّة، وإن لم يكونوا لا من ثقافتها ولا من ديانتها، مع المخاطر الكامنة في مثل ذلك التجنيس غير المشروط. ولا يريد المرء أن يخوض في مجاهل الماضي، لضيق المقام هنا، ولكن أيضاَ لأنّ الحاضر يعلّمنا كثيراً عن الماضي.
والاضطهاد على أشدّه والنعرات والتمييز المستهدَف للمسيحيين في ايّامنا ، ليس فقط في الشرق بل في الغرب ايضاً. فحكومات مثل فرنسا واسبانيا “الاشتراكيّتان” تفعلان وفَعَلَتا كلّ شيء للضغط على المسيحيين، وتدمير الزواج والأسرة، وتشجيع الثقافات والمذاهب الأخرى، والسماح بالمناظر والأفلام والكتابات المُسيئة للسيّد المسيح والسيّدة العذراء، وفي نفس الوقت حرصت على “عدم جرح مشاعر الآخرين الدينية والأخلاقية” ، خصوصاَ من قوم موسى! وساعدتهم وسائل الإعلام التي انقضّت على المسيحيّين فريسة سهلة، لا تعرف العنف ولا الانتقام ، وأخذت الكنيسة الكاثوليكية وإكليروسها نصيب الأسد في التشهير والافتراء – مع أنّ الانحرافات المفضوحة بصواب عند بعض رجال الإكليروس الكاثوليك موجودة عند غيرهم وأحياناً بنِسَب أكثر ارتفاعاً.
خاتمة
كلّ إنسان أخي ، كلّ إنسان قريبي. هذا تعليم المسيح والمسيح وحده. للمسيح وللمسيح وحده الفضل في “حضارة المحبّة” (يوحنا بولس الثاني). ونحن معشر المسيحين نريد أن نستمرّ في إتمام واجباتنا والمطالبة بحقوقنا – من غير وهم، وبكلّ “وداعة ووقار” (عن بطرس الأولى 3: 15).