Liturgical Logo

الاحد الأول من الصوم: تجربة يسوع وتجربة الانسان (مرقس 1: 12-15)

الأب لويس حزبون

تتحد الكنيسة كل سنة بالصوم الكبير بسر يسوع في البرية. ويشير الصوم الأربعيني إلى الأربعين يوما التي أمضاها يسوع في البريّة بعد عماده في نهر الأردن. وفي هذا الفترة يصف انجيل مرقس تجربة يسوع في البرية (مرقس 1: 12-15). وقبْل رسالته العلنية في العالم كان لزاماً عليه ان يتحدى قوة الشيطان وكسر شوكته كما يقول صاحب الرسالة الى العبرانيين ” لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة” (عبرانيين4: 15). الحياة هي عبارة عن تجربة وصراع، ويسوع يُعلمنا الانتصار على التجربة وقوات الشر التي تهاجمنا ليس في وقت معين بل في كل لحظة. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.

أولاً: وقائع النص الانجيلي (مرقس 1: 12-15)

12 وأَخَرجَه الرُّوحُ عِندَئِذٍ إِلى البرِّيَّة:

تشير عبارة “أَخَرجَه الرُّوحُ ” الى أول عمل ليسوع بتأثير قوة الروح القدس الذي نزل عليه في اعتماده في نهر الاردن (مرقس 1: 9-11). امتلئ يسوع من الروح القدس لكي يتم َّرسالته (لوقا 4: 4: 14-18)، فقاده الروح إلى البرية لمُجابهة سلطان الشيطان ومحاربته وتحطيم قوته لحساب الانسان. ومن هذا المنطلق تدخل التجربة في مخطط الله من خلال تضامن يسوع مع الانسان لكيلا يسقط في التجربة، بل يستفيد من هذه التجربة ليمتحن الانسان ويختبر حبه لله (ايوب 1-2) ويُثبّت الله حرِّيتنا. جُرِّب يسوع فعرف ضعفنا، “لِيَكونَ عَظيمَ كَهَنَةٍ رَحيمًا مُؤتَمَنًا عِندَ الله” (عبرانيين 2: 17) حيث استطاع مساعدة المُجرَّبين “لأَنَّه قَدِ ابتُلِيَ هو نَفسُه بِالآلام، فهو قادِرٌ على إِغاثَةِ المُبتَلَين” (عبرانيين 2: 18). أمَّا لفظة “عِندَئِذٍ ” باليونانية εὐθὺς (معناها في الحال او للوقت) فتشير الى تعبير مرقس الإنجيلي الذي تكرر 41 مرة مما يدل على ان مرقس الإنجيلي يعطيه أهمية كبرى. وتدل هذه اللفظة هنا على تسارع حدث التجربة بعد اعتماد يسوع. فهناك علاقة وثيقة بين المعمودية والتجربة. فبالمعمودية كرّس يسوع نفسه لطريق الصليب. وفي التجربة، عرض الشيطان لعقله طرقا لإنجاز خدمته دون ان يتعرَّض للصليب. ان يسوع كان في المعمودية عاملا مُسلما ذاته لأبيه السماوي؛ أمَّا في التجربة فكان منقادا من الروح؛ في المعمودية أكمل البر، وفي التجربة كان برَّه تحت التجربة؛ لكن متى الإنجيلي ربط التجربة بعماد يسوع ليدل على ان المؤمن هو ابن الله الذي انتصر على ابليس منذ عماده فلا يبقى له الا ان يجعل هذا الانتصار واقعا محسوسا. بعد العماد مباشرة، يحقد الشيطان على المؤمن ويحسده عقب كل بركة ينالها. أمَّا عبارة “البرِّيَّة” فتشير الى العزلة حيث واجهه يسوع تجربته العظيمة منفردا. وتعتبر البرية المقفرة الموحشة الخربة مكان الشياطين، وبها وحوش مخيفة، ويخيف بها إبليس الإنسان. فقد جاء السيد المسيح إلى البرية ليحارب الشر في عقر داره (لوقا 11: 18-19). ويعُلق البابا فرنسيس “نعرف أن الشرّ يعمل للأسف في حياتنا وحولنا وفينا، حيث يظهر العنف ونبذ الآخر والانغلاق والحروب والظلم. فجميع هذه الأعمال هي من صنع الشرير، من صنع الشر”. والتقليد حدّد مكان التجربة في برية اريحا على جبل قرنطل المعروف بجبل التجربة، وهي رمز الى بريّة سيناء.

13 فأَقام فيها أربَعينَ يَوماً يُجَرِّبُهُ الشَّيطانُ وَكانَ معَ الوُحوش، وكانَ المَلائِكَةُ يخدُمونَه:

تشير عبارة ” أربَعينَ يَوماً ” الى دوام التجربة طوال إقامة يسوع في البرية، في حين ان التجربة في إنجيلي متى ولوقا تمّت في نهاية إقامة يسوع في البرية “فصامَ أَربَعينَ يوماً وأَربَعينَ لَيلةً حتَّى جاع. فدَنا مِنه المُجَرِّبُ” (متى 4: 2، ولوقا 4: 1). ويذكِّرنا الرقم (40) بخبرة موسى خلال أربعين يومًا التي قضاها في صومٍ مطلق، بعيدًا عن شعبه، في عزلة الغمام، على قمّة الجبل (خروج 24: 18)، ويذكرنا أيضا هذا العدد بخبرة إيليا: فبعد أن اضطهده الملك آحاب، سار إيليّا في البرّيّة أربعين يومًا، عائدًا بذلك إلى نبع العهد، إلى صوت الله، من أجل انطلاقة جديدة لتاريخ الخلاص (1ملوك 19: 18)، ويذكرنا الرقم أخيرا بالأربعين سنة التي فيها جُرّب الشعب العبراني في البرية (تثنية الاشتراع 8: 2-3). وقد عرفَ هذا الشعبُ التجارب الثلاث: تجربة الجوع (المنّ: خروج 16)، تجربة مطالبة الله بالخوارق (معجزة الماء: خروج 17)، تجربة عبادة الأصنام (عجل الذهب: خروج 3). إن الرقم 40 هو في الواقع زمن محنة. ربما يدل الرقم على المعنى الحقيقي، ولكن الانجيلي اراد بالأحرى ان يشدِّد على المعنى الرمزي وهو عمر جيل بكامله وهي فترة زمنية طويلة لا نعرف مدتها معرفة دقيقة (التكوين 7: 4 وخروج 24: 18). أمَّا عبارة ” يُجَرِّبُهُ ” باليونانية πειράζω وفي العبرية נסה فتشير الى إدراك يسوع وجود صوت المجرّب يتكلّم بشكل معاكس لصوت الله حيث يدعو إلى التمرد بدل الطاعة، والخيانة بدل الأمانة لمشيئته الإلهية والعمل بها؛ وبالتالي تقوم التجربة بتفضيل العالم ومغرياته على الله (تكوين 2 :17). والتجربة هي الحقل الذي يُعطى فيه جواب الانسان لله بكل الحريّة (التكوين 2 :17). لذلك يدرك يسوع أنه عليه أن يختار إلى من يصغي، والطريق التي يسلك فيها، وفيمن يضع ثقته، وككل إنسان، على يسوع أن يقرر. إن إرادة الله بالفعل لا تُفرض نفسها علينا بل تسأل أن يتم اختيارها بحرية ومحبة. والمحبة تعني الاختيار. أمَّا عبارة “الشَّيطانُ” في اليونانية Σατανᾶ و في العبرية שָׂטָן (أي العدو او الخصم)، ويُسمَّى ايضا ابليس في اليونانية διάβολος, (اي الفاسد او زارع الانقسام ) (متى 4: 1) هما إسمان يدلان على العدو الذي يعارض الله وإقامة ملكوته على الارض، فالشيطان يرفع الدعوى على ابناء الله متهماً إياهم امام محكمة السماء، فهو “المُتّهم “؛ وقد أصبحت لفظة “الشيطان” اسم علم لروح الشرّ الذي يفسِد علاقة البشر مع الله ( أيوب 1 : 6). ويُدعى ايضا “بعل زبول” او “بعل زبوب” (متى 3: 22)، وهو أحد أسماء رئيس الشياطين (مرقس 3: 22)، او “بعل الزّبل” او ” بعل الذباب” او “بليعال” او “بليعار” من العبرية בְּלִיַּעַל ومعناها “عدم” (2 قورنتس 6: 15). وعليه فإنّ اسمه مرتبط دائماً بأفعاله، فحيث الكذب والنّميمة والحسد والقتل والسّرقة والغضب، فهو الشّيطان مُسبِّبُها (تكوين 3: 13). إنه الشريّر، أبو الكذب الذي طغى على الانسان وأضلّه. وأمَّا متى الإنجيلي وبولس الرسول فقد أطلقا على الشيطان اسم “المجرِّب”(متى 4: 3، 1 تسالونيقي 3: 5). والتعليم عن شخصية الشيطان في الكتاب المقدس تعليم واحد متماسك من سفر التكوين حتى سفر الرؤيا. وأمَّا عبارة “كانَ معَ الوُحوش” فتشير إمَّا للتشديد على عزلة المعركة في البرية كما تلمِّح سيرة دانيال النبي ورفاقه الذين كانوا مدعوين لاختيار الشخص الذي سيصغون إليه ويضعون ثقتهم به كأبناء: الله ام الملك داريوس، حيث تمّ رميهم طعاماً للأسود إلا أن الأسود لم تستطيع المس بحياتهم (دانيال ٦)، فالله لا يترك من يثقون به ثقة كاملة. وإمَّا قد توحي “عبارة وجود يسوع مع الوحوش” الى نبوءة اشعيا ” تُلاقي وُحوشُ القَفْرِ الضِّباع …وتَجِدُ لِنَفسِها مَكاناً مُريحاً “(اشعيا 34: 11-15)، وإمَّا تعطي عبارة “وجود يسوع مع الوحوش” فكرة سابقة عن وئام العالم تحت سلطة المسيح كما ورد في نبوءة اشعيا ” فيَسكُنُ الذِّئبُ مع الحَمَل وَيربِضُ النَّمِرُ مع الجَدْيِ ويَعلِفُ العِجلُ والشِّبلُ معاً وصَبِيٌّ صَغيرٌ يَسوقُهما “(اشعيا 11: 6). ولعله أيضًا يقصد مرقس الإنجيلي بالوحوش الشر كما يوحي صاحب المزامير” ثيرانٌ كثيرةٌ أَحاطَت بي وضَواري باشانَ حاصَرَتني فَغَرَت أَشْداقَها علَيَّ أُسودًا مُفتَرِسةً مُزَمجِرة” (مزمور 22: 13-14)؛ وأمَّا عبارة “كانَ المَلائِكَةُ يخدُمونَه” فتشير الى العون الالهي لتشديد عزيمة يسوع لأجل قسوة المعركة كما ورد في انجيل لوقا عند نزاع يسوع في الجسمانية “تَراءَى له مَلاكٌ مِنَ السَّماءِ يُشَدِّدُ عزيمَتَه ” (لوقا 22: 43). فالملائكة للتعزية والخدمة، والشياطين للتجربة والهلاك. أمَّا عبارة “يخدُمونَه” فتشير الى خدمة المائدة وتقديم الطعام (متى 8: 15)؛ ينال يسوع الطعام من الله على يد الملائكة الطعام. ويُعلِّم يسوع تلاميذه ان يطلبوا وينالوا هذا الطعام من الآب السماوي أيضا “رزُقْنا خُبزَنا كَفافَ يَومِنا” (لوقا 11: 3). وحيث ان يسوع الإبن لم يطالب لنفسه أن يكون مساويا لله (فيلبي 2)، لذلك أعطي له ما لم يطالب به: هوّذا يسوع يعامَل بصفة ملك، يتلقّى طعامه من مرسلي الله: “وكانَ المَلائِكَةُ يخدُمونَه”. وتعتبر الخدمة مع التسلط على الوحوش إحدى وعود الله التي يمنحها للمتوكلين عليه كما يقول صاحب المزامير ” لأَنَّه أَوصى مَلائِكَتَه بِكَ لِيَحفَظوكَ في جَميعِ طرقِكَ. على أَيديهم يَحمِلونَكَ لئَلاَّ تَصدِمَ بحَجَر رجلَكَ. تطأ الأَسَدَ والأفعى تدوسُ الشبلَ والتنين. أُنجيه لأَنَّه تعَلق بي أَحْميه لأَنَّه عَرَفَ اسْمي” (مزمور91: 11-13). وأخيرا، إذ كان يسوع مع الوحوش والملائكة تخدمه، فهي صورة آدم الحقيقيّة، آدم الجديد الذي يحيي آدم القديم. إنّها صورة الفردوس الأوّل، حيث يسود الإنسان على الوحوش بكلمته مثلما يفعل الله. وهكذا يلمح لنا مرقس الانجيلي ان يسوع قد انتصر على التجربة دون ذكر محتوى هذه التجربة ولا عددها ولا الوسائل التي استخدمها يسوع للتغلب عليها. وباختصار، أراد مرقس الانجيلي ان يركز على أهمية التجربة حيث قَبِلَ يسوع ان يجرِّبه ابليس كما يُجرّب كل إنسان تضامنا مع الوضع البشري.

14 وبَعدَ اعتِقالِ يوحَنَّا، جاءَ يسوعُ إِلى الجَليل يُعلِنُ بِشارَةَ الله، فيَقول:

تشير عبارة “بَعدَ اعتِقالِ يوحَنَّا ” الى ما يرويه المؤرخ يوسيفوس فلافيوس بأنّ هيرودس الملك جعل يوحنا المعمدان في السجن، في قلعة مكاور (شرقي البحر الميت). فبعد هذا الاعتقال في السجن، بدأ يسوع بشارة الله. ولكي يتجنَّب يسوع الخطر الذي يُهدد حياته كما حدث مع يوحنا المعمدان ابتعد الى الجليل. أمَّا عبارة “يُعلِنُ بِشارَةَ الله” لا تعني فقط ان البشرى تأتي من الله، بل أنها “قوة الله للخلاص” (رومة 1: 16)، وإعلان عمل الله في يسوع. بعد التجربة في البرّية، بدأ يسوع فورًا بإعلان الإنجيل، أي البشرى السارة، وهي أنَّ المسيح الذي طال انتظاره قد جاء ليبدأ ملكوت الله على الارض، وغالبية الناس الذين سمعوا تعاليمه كانوا من الفقراء والمساكين ومن لا رجاء لهم، فكانت كلماته البشرى السارة لهم، لأنها تمنح الحرية والبركات والوعد بالحياة الابدية. إن المسيح قد كمَّل زمن الانتظار، وان ملكوت الله الذي طال انتظاره قد اقترب. وأصبح إعلان بشارة الله مُهمّة الرسل الذين يتابعون رسالة المسيح كما ورد في رسالة بولس الرسول ” فقَد لَقِينا في فيلِبِّيَ العَذابَ والإِهانَةَ كما تَعلَمون، ولكِنَّنا جَرؤْنا، لِثِقَتِنا بِإِلهِنا، أَن نُكلِّمَكم بِبِشارةِ الله في جِهادٍ كَثير “(1 تسالونيقي 2: 2).

15 تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة”.

تشير عبارة ” تَمَّ الزَّمانُ” الى الوقت الذي حدّده الله لتحقيق مواعيده (مرقس 13: 20). وعليه يبدأ يسوع عصراً جديداً. ولا يجوز ان ننتظر زماناً آخر كما يعمل اليهود وقد أكد ذلك يسوع بقوله “ولَو لم يُقَصِّرِ الرَّبُّ تِلكَ الأَيَّام، لَما نَجا أَحَدٌ مِنَ البَشَر. ولكِن مِن أَجلِ المُختارينَ الَّذينَ اختارَهم قَصَّرَ تِلك الأَيَّام. (مرقس 13: 20). أمَّا عبارة “اقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله” فتشير الى ان الملكوت قريب. فالملكوت حاضر إذ تمّ افتتاحه في شخص يسوع وعمله في صورة خفيَّة قبل ظهوره علانية للجميع. وليس ملكوت الله مكان ندخل فيه، بل حالة نعيشها. وان مجيء الملكوت يتم من خلال التوبة وقبول البشارة بالإيمان (1 تسالونيقي1: 5-6). أمَّا عبارة ” َاقْتَرَبَ ” فتشير الى مجيء المسيح يجعل الملكوت قريباً من الناس. فبعد تركه الصحراء، يستطيع يسوع أن يعلن حقاً ملء الوقت واقتراب ملكوت الله، وانتصار يسوع في بدء حياته العلنية على تجربة الشيطان، يجعل منه استباقا لانتصاره النهائي في الفصح. أمَّا عبارة ” مَلَكوتُ الله ” فتشير الى حكم الله في قلوب الناس وفي المجتمع البشري. أمَّا عبارة “فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة” فتشير الى نداء يسوع الى التوبة والايمان بالإنجيل وجواب الانسان لدعوة ملكوت الله. إنها رسالة الخلاص التي حملها يسوع إلى العالم. فالتوبة والايمان هما مفتاح الانجيل الذي سيتواصل في الكرازة المسيحية، ويصبح بعد القيامة خلاصاً يُعطى لنا في يسوع المسيح كما جاء في رسالة بولس الرسول لأهل تسالونيقي “لأَنَّ بِشارَتَنا لم تَصِرْ إِلَيكم بِالكَلامِ وَحْدَه، بل بِعَمَلِ القُوَّةِ وبِالرُّوحٍ القُدُسِ وبِاليَقينِ التَّامَّ ” (1 تسالونيقي 2: 5). أمَّا عبارة “فَتوبوا” فتشير الى تغيير نمط الحياة للتطابق على حياة الانجيل الذي يتطلّب من الإنسان التغيير الجذري لحياتنا وقبول الكلمة التي يوجهها الله، من خلالِ يسوع، إلى البشرية في الأزمنة كلها.أمَّا عبارة ” وآمِنوا “فلا تشير إلى مجرد عقيدة، إنما هو أيضًا حياة الطاعة لله والعمل بوصاياه والسير معه وصنع البر كما فعلوا آباؤنا الاقدمين ” فهُم بِفَضلِ الإِيمانِ دوَّخوا المَمالِك وأَقاموا العَدْل ونالوا المَواعِد وكَمُّوا أَفْواهَ الأُسود” (عبرانيين 11: 33). أمَّا عبارة “البِشارة” فتشير الى الانجيل الذي يُعلن عمل الله في يسوع المسيح ” فهو قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن” (رومة 1: 16). فالتوبة والإيمان مُتلازمان، لا تقوم التوبة من دون إيمان، فالاثنان ينبعان من تلاقيهما ببشارة الكلمة الحية ومن حُضور يسوع الذي لا يزالُ يُردد اليوم أيضاً: ” توبوا وآمنوا بالبشارة”. فكلمات يسوع هي يسوع بالذات، حيث أن يسوع وكلمته واحد.

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 1: 12-15)

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (مرقس 1: 12-15)، يمكن ان نستنتج ان النص يتمحور حول
ثلاثة نقاط: مفهوم التجربة وتجربة يسوع وتجربة الانسان.

1) مفهوم التجربة:

التجربة هي محاولة الانسان ان يُثبت لنفسه أنه “مِثل الله” نتيجة إغراء الشيطان. فالتجربة بالتالي هي الدعوة إلى الخطيئة. والخطيئة تلد الموت كما جاء في تعليم يعقوب الرسول “الخَطيئَةُ إِذا تمَّ أَمرُها خَلَّفَتِ المَوت”(يعقوب 1: 15). والشيطان هو الذي يجرّب؛ في حين ان الله لا يجرّب كما صرّح يعقوب الرسول “إِذا جُرِّبَ أَحَدٌ فلا يَقُلْ: إِنَّ اللهَ يُجَرِّبُني. إِنَّ اللهَ لا يُجَرِّبُه الشَّرُّ ولا يُجَرِّبُ أَحَدًا” (يعقوب 1: 13)، بل يمتحن الانسان ويختبره ليكشف بواطن قلبه كما جاء في الشريعة “اذكُرْ كُلَّ الطَّريقِ الَّتي سَيَّرَكَ فيها الرَّبُّ إِلهُكَ في البَرِّيَّةِ هذه السِّنينَ الأَربَعين، لِيُذَلِّلَكَ ويَمتَحِنَكَ فيَعرِفَ ما في قَلبِكَ هل تَحفَظُ وَصاياه أَم لا “(تثنية الاشتراع 8: 2).

وهكذا نرى أن الاختبار او الامتحان موجّه لمنح الحياة (تكوين 2: 17)، في حين ان التجربة تلد الموت (تكوين3). فالاختبار هو عطيّة النعمة، بينما التجربة هي الدعوة إلى الخطيئة. وبعبارة أخرى، على المستوى السيكولوجي، يسبر الله غور القلوب ويختبرها كما جاء في اقوال بولس الرسول “كَلامُنا كَلامُ مَنِ اختَبَرَهُمُ اللهُ لِكَي يَأتَمِنَهم على البِشارة، لا لِنُرضِيَ النَّاس، بل لِنُرضِيَ اللهَ الَّذي يَختَبِرُ قُلوبَنا” (1 تسالونيقي 2: 4).

ولكن يسمح الله بالتجربة لكي يمنح الانسان الحياة كما أوضح ذلك يعقوب الرسول” طوبى لِلرَّجُلِ الَّذي يَحتَمِلُ التَّجرِبَة! لأَنَّه سيَخرُجُ مُزَكًّى فيَنالُ إِكليلَ الحَياةِ الَّذي وُعِدَ بِه مَن يُحِبُّونَه”(يعقوب 1: 12). ويوضح بولس الرسول ان الله لا يسمح بتجربة فوق طاقة الانسان “إِنَّ اللهَ أَمينٌ فلَن يأذَنَ أَن تُجَرَّبوا بما يفوقُ طاقتَكم” (1 قورنتس 10: 13). فالتجربة تأتي من المجرّب (1 قورنتس 7: 5) عبر العالم الذي هُو كُلُّه تَحتَ وَطْأَةِ الشِّرِّير (1 يوحنا 5: 19) ومن خلال المال كما يصرِّح بولس الرسول ” الَّذينَ يَطلُبونَ الغِنى يَقَعونَ في التَّجرِبَةِ” (1 طيموتاوس 6: 9).

لهذا يجب أن نطلب ألاَّ ندخل في التجربة (متى 6 :13)، لأن التجربة تقود إلى الموت (يعقوب 1 :14-15). وهذا الموقف، موقف الصلاة الربيّة، ولكن طلب في صلاة ابانا ” لا تعرضنا للتجربة (متى 6: 9-13، ولوقا 11: 1-4) توحي بان الله هو الذي يجرّبنا، وهذا أمر غير صحيح. لأنَّ الشيطان هو الذي يجرِّب المؤمنين ويسعى الى لإيقاعهم في الخطيئة “مَنِ ارتَكَبَ الخَطيئَة كانَ مِن إِبْليس لأَنَّ إِبْليسَ خاطِئٌ مُنذُ البَدْء”(1 يوحنا 3: 8). ولكن لا يحسن ان نطلب الى الله أن نكون في مأمن من التجربة التي تُثبت فيه حريتنا. إن التجربة من شرائع الوضع البشري، خضع لها يسوع نفسه، ومن هنا يكون المعنى: لا تدعنا نستسلم للتجربة” فأننا نخاطب الله وننتظر عمله ونسأله ان يساعدنا إن سمح للشيطان ان يٌجرّبنا كما جرّب ابوينا الاولين آدم وحواء (التكوين (التكوين 1: 23) وأيوب (أيوب 1: 13) في العهد القديم، وجرّب يسوع في العهد الجديد.

وللتجربة ثلاثة مراحل؛ وهي الاغراء من الخارج، والتأثير على الإرادة من الداخل، واتخاذ القرار، قبولا او رفضا. ولا تصبح التجربة خطيئة الاّ بقرار القبول. وإذا قبل الانسان التجربة هلك. وإذا رفض التجربة نال أجراً وثوابا. وباختصار الاختبار او الامتحان هو من الله، والتجربة هي من الشيطان. إنهما يجعلان الإنسان يَعبُر من الحرية المعروضة إلى الحرية المعاشة، وبالتالي الى اختيار إلى العهد والامانة لله على خطى السيد المسيح.

2) تجربة يسوع:

لم تكن تجربة يسوع رمزية فحسب، إنما أيضا تجربة حقيقية. وهي صراع عاشه يسوع خلال اقامته في البرية، وكانت له مجابهة مع ابليس. وقد بدأت التجربة بعد معمودية يسوع مباشرة (مرقس 1: 11-12) وانتهت بالموت والقيامة. إلاَّ أنَّ هناك صلة وثيقة بين المعمودية والتجربة. فبالمعمودية كرّس يسوع نفسه عن طريق الصليب، وفي التجربة عرض الشيطان ليسوع طرقاً لإنجاز رسالته دون ان يتعرّض للصليب رمز المسيحانية الروحية. وعليه فقد رفض يسوع في تجاربه الثلاث الأولى مع الشيطان مسيحانية بشرية أرضية، بمعنى ملكوت بدون صليب.

ففي التجربة الاولى رفض يسوع مسيحانيِّة أرضية تنسيه انه إنسان يجب ان يعمل بيديه مثل آدم (تكوين 3: 19) فلم يلجا الى قوى فائقة الطبيعة بتحويل الحجارة الى خبز ” فدَنا مِنه المُجَرِّبُ وقالَ له: إِن كُنتَ ابنَ الله، فمُرْ أَن تَصيرَ هذِه الحِجارةُ أَرغِفة “(متى 4: 3). وفي التجربة الثانية رفض يسوع مسيحانية ارضية تنسيه ان عليه ان يمرَّ في الالم قبل أن يمرّ بالمجد، فرفض اللجوء الى قوته ليُبهر الجمهور بإلقاء نفسه من شرفة الهيكل كي يحمله الملائكة ” إِن كُنتَ ابنَ الله فأَلقِ بِنَفسِكَ إِلى الأَسفَل، لأَنَّه مَكتوب: يُوصي مَلائكتَه بِكَ فعلى أَيديهم يَحمِلونَكَ لِئَلاَّ تَصدِمَ بِحَجرٍ رِجلَكَ”(متى 4: 5-6). وفي التجربة الثالثة رفض يسوع مسيحانية ارضية تُنسيه عون الله الذي انتظره كما انتظره شعبه في البرية (خروج17: 2-7) ليتساوم مع الشيطان لاقتسام العالم وثرواته ” ثُمَّ مَضى بِه إِبليسُ إِلى جَبَلٍ عالٍ جدّاً وأَراهُ جَميعَ مَمالِكِ الدُّنيا ومَجدَها، وقالَ له: ((أُعطيكَ هذا كُلَّه إِن جَثوتَ لي سـاجداً ” (متى 4: 8). وينصرف ابليس عن المسيح الى الوقت المعين، كما جاء في انجيل لوقا “فلَمَّا أَنْهى إِبليسُ جمَيعَ مَا عِندَه مِن تَجرِبَة، اِنصَرَفَ عَنه إِلى أَن يَحينَ الوَقْت” أي وقت الآلام والصلب (لوقا 4: 13). تغلب يسوع على ابليس. (مرقس 3: 27). “إن انتصار يسوع على المجرّب في البرية هو استباق لانتصار الآلام، أي خضوع محبة يسوع البنويَّة المطلق للآب” ( التعليم المسحي للكنيسة الكاثوليكية ، 539).

أمَّا التجربة الأخيرة فهي نزاعه في بستان الزيتون كما قال يسوع للَّذينَ قَصَدوا إِلَيه مِن عُظَماءِ الكَهَنَة وقادَةِ حَرَسِ الهَيكَلِ والشُّيوخ “كُنتُ كُلَّ يَومٍ مَعَكم في الهَيكَل، فلَم تَبسُطوا أَيدِيَكُم إِليَّ، ولكِن هذه ساعتُكم! وهذا سُلطانُ الظَّلام! “(لوقا 22: 53). فما حدث خلال الأربعين يومًا في البرية لم يكن إلا بداية معركة ذروتها عند الصليب والصليب هو المحنة الكبرى (يوحنا 12 :27-28) التي فيها برهن الله عن حبّه (يوحنا 3 :16-17). اشتهى العدو القضاء على المسيح حيث صُلب، لكن المسيح المصلوب جرّد خصمه من كل سلطان كما جاء في تعليم بولس الرسول “خَلَعَ أَصحابَ الرِّئاسةِ والسُّلْطان وشَهَّرَهم فسارَ بِهِم في رَكْبِه ظافِرا” (قولسي 2: 15). ونتيجة التجارب انتصر يسوع على المجرّب منذ البداية حتى النهاية (لوقا 4: 13). فأعاد البشرية إلى وضعها الحقيقيّ وإلى دعوتها في أبّوة الله كما جاء في تعليم صاحب الرسالة الى العبرانيين ” لَمَّا كانَ الأَبناءُ شُرَكاءَ في الدَّمِ واللَّحْم، شارَكَهُم هو أَيضًا فيهِما مُشاركةً تامّة لِيَكسِرَ بِمَوتِه شَوكَةَ ذاكَ الَّذي لَه القُدرَةُ على المَوت، أَي إِبليس، ويُحَرِّرَ الَّذينَ ظَلُّوا طَوالَ حَياتِهِم في العُبودِيَّةِ مَخافَةَ المَوت. فإِنَّه كما لا يَخْفى علَيكم، لم يَقُمْ لِنُصرَةِ المَلائِكَة، بل قامَ لِنُصرَةِ نَسْلِ إِبراهيم”(عبرانيين 2 :14-15).

وكانت تجارب يسوع تجارب حقيقية، لا رمزية فقط، تعود الى يسوع الذي رفض المسيحانية بشرية سياسية؛ وروايةُ التجارب هي بمثابة صورة لكلّ الظروف التي تُمتَحَنُ فيها أمانةُ يسوع لرسالته، حتى الصليب كما يوكّده تحدِّي عُظماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَةِ والشُّيوخ بقوله له: ” فَليُنقِذْهُ الآن، إِن كانَ راضِياً عَنه، فقَد قال: أَنا ابنُ الله” (متى 27: 43). وهكذا كان للمسيح حرب مع ابليس انتهت في الموت والقيامة.

جُرِّب يسوع كما نُجرب نحن ولكنه لم يخطأ ” لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة”(عبرانيين 4: 15)، بل خرج يسوع من التجربة منتصراً ولم يدع الشيطان يفصله عن الله. انتصر يسوع على المُجرِّب في عقر داره (لوقا 11: 18-19). فهو “الإنسان” الذي يحيا بكلمة الله وفي الوقت نفسه هو الربّ “المخلّص”، الذي يساند شعبه في تجربته (متى 16: 1). فحمل على الصليب خطيئة البشر وحوّل تجربة التجديف إلى شكوى بنوية، والموت اللامعقول إلى قيامة ” فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب. لِذلِك رَفَعَه اللهُ إِلى العُلى ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء” (فيلبي 2: 8-9). وأعاد البشرية إلى وضعها الحقيقيّ وإلى دعوتها في أبّوة الله (عب 2 :10-18). وهكذا نبغي على كل تلميذ مدعو لخدمة الله ان ينتظر مجابهة ممثلة وان يتمتع بغلبة مماثلة.

اما أسباب قبول المسيح للتعرض للتجربة فهي ثلاثة:
(1) جُرب يسوع لكي يتشارك مع الانسان، حيث كان يتوجب عليه أن يتعرض لتجارب الشيطان كما يتعرض لها الانسان. قد عرف يسوع كلّ تجاربنا وتغلب عليها من أجلنا “لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة”(عبرانيين 4: 15)، ومرّ بكلّ ظروفنا الإنسانيّة، وما من شيء من مشاعرنا واحساساتنا وأفكارنا وأميالنا غريبة عنه. أحبّنا نحن البشر، فتجسّد وصار مثلنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة، لذا سمح يسوع للتعرض للتجربة مثلنا.
(2) جرّب يسوع كي يكون قدوة ومثالا في مواقفنا تجاه التجربة والشيطان. قد اختبر يسوع مثلنا كل التجارب التي نجتازها اليوم. لكنه يختلف عنا، لأنه برغم التجربة لم يسقط في الخطيئة”(عبرانيين 4: 15). فهو الانسان الوحيد الذي لم يقترف إثماً، ولم يرتكب خطيئة طوال أيام حياته على الارض. جُرِّب كما نُجرَّب نحن. لكنه لم يخطأ بل انتصر وما انفصل عن الله (عبرانيين 4: 5). واجه المجرب كما يواجه كل واحد منا، واستعمل سلاحا يجب ان نستعمله، وهو سلاح الروح الذي هو كلام الله (أفسس 6: 17)، وثبت على امانته لله تجاه التجربة، فكان مثال الثبات للمؤمنين وهكذا أصبح لنا مثالا في كيفية مواجهة التجربة والتغلب عليها. ويعلق البابا فرنسيس “مرّ يسوع بهذا الاختبار، من أجل نفسه، كي يطيع مشيئة الآب، ومن أجلنا، كي يعطينا نعمة التغلّب على التجارب”.
(3) جُرِّب يسوع كي يكون معينا لنا، لأنه يعرف تماما كم نحن بحاجة اليه، إذ هو نفسه جاز في نفس الاختبار “لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ” (عبرانيين 4: 15) وانتصر على التجربة ويعلق القديس اوغسطينوس ” جُرِّبَ يسوعُ على يدِ إبليس. ومع المسيحِ أنتَ جُرِّبْتَ، لأنَّ المسيحَ منكَ أخذَ لذاتِه جسدًا، ومن ذاتِه وهبَ لك الخلاص. منكَ له التجربة، ومنه كان لك النصر”. فالمسيح الآن في السماء يتفهم ضعفنا ويُدرك تجاربنا ويهبنا الغفران. بتجربة المسيح جُرِّبْنا نحن أيضا، وبه هَزَمْنا إبليسَ. ويعلق القديس أمبروسيوس “لو لم يجربه إبليس لما انتصر الرب لأجلي بطريقة سرية ليُحرِّر آدم من السبي”

3) تجربة الانسان:

ربط مرقس الانجيلي التجربة بالعماد ليدل على ان المؤمن ابن لله. والمفروض في كل أبن الله ان ينتصر على ابليس منذ عماده. وأن نكون أبناءً يعني بالضرورة أن ندخل في تجربة. العبد لا يجرّب وليس عليه أن يختار، لان لا يملك حرية، بل عليه فقط أن ينفذ الأوامر فقط. الابن في المقابل حر، ويستطيع ويجب أن يختار: إن لم يختار الله، يصبح عبدا. لا يكون الإنسان إنساناً ومسؤولاً مسؤولية كاملة إلا إذا كان له القدرة الدائمة على اختيار الله الذي دعاه أن يكون “على صورته” وان يكون ابنه بالمعمودية. ويطلب الله ان يكون جواب الانسان في اختياره على أعظم قدر من الحرية. ومن هنا يأتي اختبار تجربة الايمان والمحبة والرجاء.

(ا) تجربة الايمان:
الانسان مدعو الى الالتزام تجاه وعد الله بالتعبير عن ايمانه بطاعة حرة كما حصل لإبراهيم ويوسف وموسى ويشوع (عبرانيين 11: 1-40) وتُشكِّل ذبيحة اسحاق الاختبار الأمثل (تكوين 22). وههنا قد يمرّ الانسان بتجربة إيمان عندما يتدخل الشيطان ويجعل الانسان ان يشكَّ في حضور الله الخلاصي، وهذا ما حدث مع الشعب الإسرائيلي أثناء محنته في البرية (خروج 17: 7).

(ب) تجربة المحبة:
يختبر الله امانة الشعب للعهد. لقد اختار شعب العهد القديم أن يخدم إلهه (يشوع 24: 18)، لكن لا يزال قلبه منقسماً. الاختبار يُلزم الشعب بإعلان محبته لله وإثباتها بالفعل، ويعمل على تنقية القلب من كلّ شوائبه. ولا يفرض الله محبته على الانسان فرضا، بل يتطلب منه قبولها بحرية. ومن هنا لا بد من الاختبار، الا ان آدم اختار نفسه كإله (تكوين (3:5)، ذلك ان بين الاختبار والاختيار حدثت التجربة من خلال الشيطان (تكوين 3) وهنا يظهر الشيطان بمظهر المُضل لإغراء قلب الانسان ليكون بعيدا عن الله.

(ج) تجربة الرجاء:
ان ملكوت الله يبدو متأخرا في ظهوره. فتأتي التجربة اللحظة الحاضرة، تجربة العلمانية أي العيش دون الله، انها تجربة هذا العصر، تجربة الاندماج والاستقرار في هذا العالم بناء على اغراء الشيطان سيد هذا العالم (ايوب 1-2). وهي التجربة التي مرّ بها الشعب العبري في الصحراء لما تخلَّ عن الله ووعوده وتمسك بالعجل الذهبي (خروج 32: 4). وكلما قرب مجيء الرب كلما زادت المقاومة بين النور والظلمات حيث تتقوّى الأمانة في الاضطهاد (لوقا 8: 13-15)، وحيث يخرج الإنسان من الشدّة “ممحّصاً”. بهذا المعنى يبلغ الاختبار والرسالة ذروتهما في الاستشهاد (لوقا 22: 31، رؤيا 2: 10).

الخلاصة

احتلت التجربة دورًا رئيسيًا في تاريخ الخلاص، فقد دخل يسوع في معركة علنية مع العدو الشرير لحساب شعبه بعد اعتماده في نهر الاردن. وقد أورد مرقس الإنجيلي رواية التجربة في اختصار شديد في مقارنتها بما ورد في انجيل متى (متى4: 1-11) وانجيل لوقا (لوقا 4: 1-13)، لأنه أراد ان يركّز على التجربة بحد ذاتها.

إن الاختبار هو كالتجربة عندما لا يسقط فيها المرء، تفضي به إلى الحياة، وهي من متطلبات الحياة في يسوع المسيح (2 طيموتاوس 3: 12)، إنها شرط ضروري للنموّ (لوقا 8: 13-15) وبلوغ غاية الايمان (1 بطرس 1: 6-7) وللفضيلة المجرّبة (1 قورنتس 11: 19). والتواضع (1 قورنتس 10: 12) والغلبة كما يقول العلامة اوغسطينوس ” فإن جُرِّبْنا معه، فمعه نحن سوف ننتصرُ على إبليس. أتعرفُ أنّ يسوعَ جُرِّبَ، ولا تعرفُ أنّه انتصر؟ اعرِفْ أنَّك أنت جُرِّبْتَ معه، واعرِفْ أنّك ستنتصرُ معه. كانَ بوِسعِه أن يمنعَ الشيطانَ من الاقترابِ منه. ولكنَّه لو لم يُجرَّبْ لمَا علَّمَك كيف تنتصرُ حينَ تُجرَّبُ”.