الاحد الثاني من الصوم: تجلّي الرب في حياة الرسل والكنيسة (مرقس 9: 1-10)
الأب لويس حزبون
في الأحد الثاني للصوم الأربعيني يُسلط إنجيل مرقس الأضواء على تجلي سيدنا يسوع المسيح (9: 2-9) ليهيئ تلاميذه لآلامه كي يثبِّت إيمانهم كي لا يتعثّر تجاه الصليب مبيّنا ان فكرة المسيح المتألم مطابقة لشهادة الشريعة والانبياء (لوقا 24: 44-46)، ويقطع الشك باليقين لتلاميذه حيث ان التجلي هو صورة مُسبقة للقيامة والمجد. وبهذا تدعونا الكنيسة اليوم لنلقي عنا كلّ خوف ونتسلّح بالثبات والإيمان في مسيرتنا الأرضية التي لا تخلوَ من الصعاب والتجارب وتعثر؛ ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.
أولاً: وقائع النص الانجيلي (مرقس 9: 1-9)
2 وبعدَ سِتَّةِ أَيَّام مضى يسوعُ بِبُطرُسَ ويعقوبَ ويوحَنَّا فانفَرَدَ بِهِم وَحدَهم على جَبَلٍ عالٍ، وتَجَلَّى بِمَرأَى منهم.”
تشير عبارة “بعدَ سِتَّةِ أَيَّام” الى الوقت الذي تكلّم يسوع لتلاميذه، للمرّة الأولى، عن موت الصليب الّذي كان سيعانيه في أورشليم (مرقس 8، 31)، بعد وعده لتلاميذه أن منهم من سوف يرون ابن الإنسان آتيًا في ملكوته، وها هو هنا يريهم عربون المجد الأبدي في الملكوت. تقع الأيام الستة بين يوم الوعد ويوم التجلي. والرقم (6) هو عدد النقص ويجد كماله في يوم السابع (رقم 7) في التجلي. وبهذا نتحضر ويحضرنا الرب لندخل معه في الكمال. أمَّا العلامة أوريجانوس يُعلق بقوله “إن هذه الأيام الستة تشير إلى راحتنا الحقيقية في الرب بعبورنا ستة أيام الخليقة ودخولنا إلى اليوم السابع أو السبت الروحي”. أمَّا عبارة “بُطرُسَ ويعقوبَ ويوحَنَّا” فتشير الى التلاميذ الثلاثة المقرّبين جداً الى يسوع. وهذه هي المرة الثانية التي يأخذ فيها الرب هؤلاء التلاميذ الثلاثة ليكونوا في شركة معه؛ ودعاهم للمرة الأولى لمشاهدة إحياء ابنة يائيرس (مرقس5: 37)، ودعاهم للمرة الثالثة ليشاهدوه في بستان الزيتون الجسمانية (مرقس14: 33). وهناك تقارب بين هذه المشاهد الثلاثة: احياء ابنة يائيرس يدل على سلطان يسوع على الموت، والتجلي هو صورة مسبقة لمجد القيامة، والنزاع يُظهر كيف يسير يسوع نحو مجده. والعدد ثلاثة كان كافيا لإثبات الشهادة في الشريعة الموسوية. ويُعلق القديس أمبروسيوس “اختيار الثلاثة هو انفتاح لباب مراحم الله والتمتع بأمجاده للجنس البشري دون تمييز بين يهودي وأممي، إذ يمثل الثلاثة أبناء نوح الثلاثة الذين جاء الجنس البشري كله من نسلهم”. أمَّا عبارة ” وَحدَهم ” فتشير الى الخلوة اليومية التي فيها الروح القدس يعطينا أن نرى صورة للمسيح في مجده؛ وأمَّا عبارة “على جَبَلٍ عالٍ” فتشير الى جبل غير محدد، وله دلالة لاهوتية أكثر منها جغرافية. فهو مكان للوحي (اشعيا 2: 2-3)؛ فالجبل يرتبط بالاقتراب الى الله والاستعداد لسماع أقواله، حيث ظهر الله لكل من موسى (خروج 24: 12-18)، وإيليا (1ملوك 19: 8-18) على جبل. حيث ان الجبل يعتبر ملتقى الرب بالإنسان، لان لاهوت إنجيل كل من مرقس ومتى هو من الأعلى الى الأسفل اي من الجبل الى البشر؛ أمَّا القديس بطرس فيصف الجبل بقوله “الجبل المقدس” (2 بطرس 1: 18)، وأمَّا تقليد قديم يعود إلى القرن الثالث الميلادي فقد أشار الى جبل طابور في الجليل كجبل التجلي”. وجبل طابور او تابور لفظه يونانية تعني لمرتفع ورد ذكره عدة مرات في اسفار العهد القديم. ويعتقد بعض الباحثين بأن طابور كلمة من اللغة أوغاريت في رأس شمرا بسوريا وهي تعني النور أو البهاء، إذ كانت تقام عبادة طابور إله النور. ويقع جبل طابور في أرض الجليل في الجهة الشمالية الشرقية من مرج بن عامر على بعد 8 كم نحو الجنوب الشرقي من الناصرة ويبلغ ارتفاعه نحو 602 م عن سهل مرج بن عامر ونحو 570 متراً فوق سطح البحر الأبيض المتوسط، لكنه منفرد عن بقية جبال الجليل حيث أصبح في العهد القديم كنقطة استدلال (ارميا 46: 18). وفي عام 1924 جسّد المهندس بارلوتسي حدث التجلي من خلال بناء كنيسة ضخمة على آثار الكنيسة الصليبية في قمة الجبل؛ وأمَّا المسيحيون فيطلقون عليه أسم “جبل التجلي” نسبة لتجلي المسيح عليه؛ اما سكان العرب المحلِّيون فيطلقون على الجبل اسم الطور. الطور كلمة آرامية تعني الجبل، وآخرون يرون ان التجلي حدث على جبل حرمون او جبل الشيخ الذي يعلو قمته المغطاة بالثلج نحو 2743 م، وهو يبعد 19 كم شمال شرقي قيصرية فيلبس (بنياس)، ويتمكن رؤيته من أجزاء عديدة في فلسطين وهو يـتألق مثل الذهب في ضوء الشمس. أمَّا عبارة ” عالٍ ” فتشير للسمو، سمو قدر المسيح الذي سيرونه الآن متجليًا. أمَّا فعل ” تَجَلَّى ” في اليونانية μετεμορφώθη (ومعناه تحوّل، تغيّر) فيشير الى تحوُّل روحي (2 قورنتس3: 18). ولكن هذا التحوّل له أثر منظور في وجه يسوع (متى 17: 2، ولوقا 9: 29)، وفي ثيابه (متى 17: 2، مرقس 9: 3، لوقا 9: 29). نجد في هذه العبارة إشارة الى موسى لدى لقائه بالله على جبل سيناء (خروج 34: 29) علماً ان يسوع هو موسى الجديد. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم ” إن ملامح السيد المسيح عند تجليه بقيت علن بهاء مجده. لقد بقي السيد المسيح بجسده، لكن الجسد حمل طبيعة كما هي، لكن الجسد حمل طبيعة جديدة مملوءة بهاءً ومجداّ”، ولا يُدرك معنى هذا المشهد العجيب إلاّ في ضوء قيامة المسيح المجيدة، لان التجلي هو استباقٌ للقيامة في نظر مرقس الإنجيلي.
3 فَتَلألأَت ثِيابُه ناصِعَةَ البَياض، حتَّى لَيَعجِزُ أَيُّ قَصَّارٍ في الأَرضِ أَن يأَتِيَ بمِثلِ بَياضِها.
تشير عبارة ” فَتَلألأَت ثِيابُه ” الى تحوّل الثياب، وترمز الثياب المتلألئة الى المجد السماوي المُنعم به الله على المختارين الذين يصيرون كالملائكة كما ورد في انجيل متى “كانَ لِباسُ الملاك أَبيضَ كالثَّلْج”(متى 28: 3)؛ وأمَّا انجيل متى ولوقا فيذكر ان التحوّل أثَّر في الوجه، وتغيّر في الثياب. ويعلق القديس أوغسطينوس “أن يسوع سطع كالشّمس لأنّه النور الذي يضيء كل إنسان آت إلى العالم”. وعلى صعيد الحواس، إن نور الشمس هو الأقوى في الطبيعة، ولكن على صعيد الروح، فإن التلاميذ شاهدوا خلال فترة وجيزة بهاء أقوى، وهو بهاء مجد يسوع الإلهي الذي يُنير كل تاريخ الخلاص. ويُشدد العلامة أوريجانوس على ظهور الطبيعة الإلهية في يسوع وهي لا تتخلّى عن إنسانيتها. أمَّا عبارة ” ناصِعَةَ البَياض” فتشير الى اللون السماوي للمسيح الذي لا يظهر خلال حياته على الأرض إلاّ في لحظة مميّزة، عند التجلّي، حين صارَت ثِيابه بِيضاء. ويدل الثوب الأبيض على علامة المجد السماوي الذي سيظهر يوم مجيء ابن الانسان في “غمام السماء”. فاللون الأبيض يُشير الى لون القيامة والظفر وتؤكد المريمات، مريم المجدلية ومريم ام يعقوب وسالومة لدى زيارتهن لقبر يسوع ” لمَّا دَخَلْنَ القَبْرَ فأَبصَرْنَ شَابّاً جَالِساً عنِ اليَمينِ عَلَيه حُلَّةٌ بَيضاء فَارتَعَبنَ”(مرقس 16: 5). لكن العلاّمة ماكسيموس يقول إن “الثياب التي أضحت بيضاء ترمز إلى كلمات الكتاب المقدس التي كادت تصبح واضحة وشفافة ونيرة” (PG 91, 1128). اما عبارة “أَيُّ قَصَّارٍ في الأَرضِ أَن يأَتِيَ بمِثلِ بَياضِها” فتشير الى بياض لا يضاهيه شيء. لم نعد أمام لون طبيعي. إنه يمتزج مع نقاوة نور الله. إنه الصورة الكاملة للسعادة.
4 وتَراءَى لَهم إِيلِيَّا مع موسى، وكانا يُكَلِّمانِ يسوع:
تشير عبارة “تَراءَى” الى ظهور إيليا وموسى بهيئة جسمية كما تراءى يسوع وليس بهيئة روحية. ويعلق البابا فرنسيس “إن ظهور موسى وايليا في مشهد التجلي ليبين لنا ان يسوع المسيح ليس هو موسى ولا ايليا ولا واحد من الانبياء كما كان يظنه البعض بل هو رب موسى والانبياء، ولذلك ظهر ايليا الحي وموسى من عالم الاموات ليحققا لنا ان يسوع المسيح هو إله الاحياء والاموات”. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم “مثّل موسى أيضًا جماعة القدّيسين الذين رقدوا في الماضي (تثنية الاشتراع 34: 5) كما يمثّل إيليّا جماعة الأحياء (2 ملوك 2: 11)، لأنّ الرّب يسوع المتجلّي هو ربّ الأحياء والأموات”. وفي هذا الظهور جمع تجلي الرب في لحظة واحدة التاريخ كله ليتأمله جميع الناس. أمَّا عبارة ” إِيلِيَّا مع موسى ” فتشير الى شاهدين للعهد أكثر منهما ممثلين، الواحد للأنبياء والآخر للشريعة. ويمثل موسى الشريعة وتنبأ عن مجي نبي عظيم (تثنية الاشتراع 18: 15-19)، وإيليا يمثل الأنبياء الذين تنبأوا عن مجي المسيح (ملاخي 4: 5-6). حيث ان” غايَةُ الشَّريعةِ هي المسيح (رومة 10: 4) وهو أيضا مركز النبوءات (رؤيا 10:19)؛ فكان ظهورهما مع يسوع ليس تأييداً لرسالته السماوية بصفته المسيح لإتمام شريعة الله وأقوال أنبياء الله ووعودهم فحسب إنما أيضا تأكيد ان المسيح هو ابن الله. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم ” أراد أن يظهر موسى النبي وإيليا معه أمام التلاميذ ليُدركوا الفارق بينه وبين خدامه، وليعلن أيضا افتراء المتهمين له كناقض للناموس ومُجدِّف ينتحل مجد الآب “. والجدير بالذكر ان كل من موسى وايليا عادا إلى الله بطريقة غامضة (تثنية 34: 5-6)؛ إن ايليا نقل بالجسد الى السماء (2 ملوك 2/11)؛ كما قد عُرف أيضا في الدين اليهودي بارتفاع موسى الى السماء على مثال ايليا وهذا ما نجده ضمنا في رسالة يهوذا حيث أنَّ جسد موسى كان قد اقيم من الاموات (رسالة يهودا 9). ويتمتع كل من إيليا موسى بالمجد، لانهما أُشركا في عمل الله (2قورنتس 3: 7-11)، ويقول لوقا الإنجيلي أنهما ” قد تَراءَيا في المَجد “(لوقا 9: 31)؛ وهذا ما سيحدث لكل الكنيسة في الأبدية أنها ستكون في المجد لأنه سينعكس عليها مجد المسيح الذي ستراه ممجدًا. أمَّا يسوع فانه يتمتع بهذا المجد في هذه الارض قبل قيامته (لوقا 9: 32). وسيوهب “المجد” لجميع الذين سيُقبلون في العالم الآتي (1 تسالونيقي 2: 12). وفي المجد سننعم كلنا بهذه العُشرة الجميلة مع المسيح، هو في مجده ونحن معه في المجد في فرح أبدي. فالهنا “ما كانَ إِلهَ أَموات، بل إِلهُ أَحياء” (متى 22: 32). ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم “جسّد موسى وإيليّا، إلى جانب المخلّص، الشريعة والأنبياء. ذاك الذي أعلن عنه الشريعة والأنبياء، هو في الحقيقة، المسيح، موزّع الحياة”؛ أمَّا عبارة “كانا يُكَلِّمانِ يسوع” فتشير الى كلام موسى وإيليا على رَحيلِ يسوع الَّذي سَيتِمُّ في أُورَشَليم” (لوقا 9: 31)، “فخَرَجَ حامِلاً صَليبَه إِلى المَكانِ الَّذي يُقالُ لَه مَكانَ الجُمجُمة، ويقالُ لهُ بِالعِبرِيَّةِ جُلْجُثَة “(يوحنا 19: 17) لإتمام الفداء. ولفظة “رَحيلِه ” في اليونانية ἔξοδος (معناها خروجه) توحي بعمل موسى الذي قاد بني اسرائيل من البرية الى ارض الميعاد وتحدد رسالة يسوع لدى شعبه؛ فيسوع هو موسى الجديد الذي يحقق “الخروج الجديد” بموته وقيامته وصعوده.
“5فخاطَبَ بُطرُسُ يسوعَ قال: رابَّي، حَسَنٌ أَن نَكونَ ههُنا. فلَو نَصَبْنا ثَلاثَ خِيَمٍ، واحِدَةً لَكَ، وواحِدةً لِموسى، وواحِدَةً لإِيلِيَّا”. :
تشير كلمة ” بُطرُسُ ” باليونانية Πέτρος (معناها صخرة) الى واحد من الاثني عشرة رسولا الذي كان الرسول يُسمى أولاً سمعان (متى 16: 17). وقد دعاه يسوع ثلاث مرات كتلميذ ثم كرفيق ملازما اياه (متى 14/19) وأخيراً كرسول (متى 10/2). أمَّا لفظة “رابَّي” بالعبرية רַבִּי فهي مشتقة من ” ראב ” أي العظيم، وهو لقب توقيري وقد ترجمه متى ولوقا بكلمة ” الرب”، في حين في يوحنا ترجمه بكلمة “معلم” (يوحنا 1: 38)؛ وفي أواخر القرن الأول، فقدت هذه الكلمة معنى صيغة المنادى ودلّت على علماء الشريعة (مرقس 11: 21). أمَّا عبارة ” حَسَنٌ أَن نَكونَ ههُنا” فهي جملة ملتبسة: فهل أحسَّ بطرس بالفرح واراد ان تمتد حالة السعادة الى ما لا نهاية، أم أحسنٌ ليسوع وإيليا وموسى الذين يريد بطرس ان يقدّم لهم مساعدة؟ يدل كلامه على فرحته واهتمامه بخدمة الضيوف الثلاثة شأن ابراهيم (التكوين 18). وعلى كل حال، يسيء بطرس فهم الموقف ويحلم بتمديده كما اساء فهم يسوع لدى تألمه. وهنا يظهر ان فكر بطرس كان متَّجها نحو الاشياء الزمنية كما تبيَّن من كلام يسوع له (متى 16: 22). أراد بطرس ان يدوم المشهد ويبقى في ذلك المكان. أمَّا عبارة ” فلَو نَصَبْنا ثَلاثَ خِيَمٍ ” فتشير الى عيد الاكواخ عيد المظال وهو عيد جمع الغلة عند نهاية السنة (خروج 23: 16). حيث يعيش اليهود ثمانية أيام في خيام من اغصان فيتذكرون مسيرة الشعب في الصحراء بانتظار الدخول الى ارض الميعاد (خروج 23: 16)، ولعل كان بطري يفكر في هذا العيد، حيث كانت تُنصب الخيام للاحتفال بتذكار الخروج وخلاص الله لبني إسرائيل من العبودية في مصر. وفيه يتذكرون حضور الله وسط شعبه في البرية. وتعييد عيد المظال مع موسى وإيليا علامة مجيء ملكوت الله القريب، وهناك تقليد يهودي يجعل المسكن السماوي في رمز “المظال “الخيام الأبدية “، ويُعلق القديس أوغسطينوس “إننا نملك مسكناً واحداً هو المسيح؛ فهو “كلمة الله، كلمة الله في الشريعة، كلمة الله في الأنبياء” (PL 38, 491). وعندما نضج بطرس في فهمه، كتب بإرشاد الروح القدس عن يسوع أنه “حَجر لِلزَّاويَةِ مُختارًا كريمًا” (1 بطرس 2: 6). كان تصرف بطرس تصرفا واقعيا من صميم الحياة والذي يعطي دليلا قوياً على تاريخية القصة بعيدة عن رواية اسطورية او رمزية او انها جلسة من جلسات مستحضري الارواح كما يدّعي بعض المفسّرين.
6 فلم يَكُن يَدْري ماذا يَقول، لِما استَولى علَيهِم مِنَ الخَوف.
تشير عبارة ” الخَوف ” الى عاطفة الانسان تجاه الحضور الالهي المتسامي الذي يفوق إدراكه. نحن امام خوف مقدس يمسك الانسان الذي يزوره الله، فينزعه من الأوضاع العادية للحياة.
7 وظَهَرَ غَمامٌ قد ظَلَّلَهم، وانطَلَقَ صَوتٌ مِنَ الغَمامِ يَقول: ((هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيب، فلَهُ اسمَعوا.
تدل كلمة “غَمامٌ ” الى علامة تجلي الله (2 ملوك 2: 7-8)، كما كان الامر على جبل سيناء (خروج 19: 16) وعلى خيمة الموعد (خروج 40: 34) وعلى الهيكل يوم تدشينه في زمن سليمان (1ملوك 8: 10). الغمام تدل على الله الخفي. وهو لا يشع عادة ولا يُرى. إنه كالشمس خلف الغيوم. فالغمام علامة على مجيء الرب وحضوره وعندما انتهت خدمة يسوع على الارض صعد على الغمام كما جاء في اعمال الرسل ” رُفِعَ بِمَرأىً مِنهُم، ثُمَّ حَجَبَه غَمامٌ عن أَبصارِهِم” (اعمال 1: 9) وسيأتي ثانية على غمام المجد ” تَرى ابنَ الإِنسانِ آتِياً على غَمامِ السَّماء في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال ” (متى 24: 30). أمَّا عبارة ” ظَلَّلَهم” فتشير الى مجيء الله وحضوره الإلهي كما اختبره الشعب خلال مسيرة الخروج (خروج 40: 34–35). وكما حصل مع سيدتنا مريم العذراء بحسب قول الملاك جبرائيل ” وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ (لوقا 1: 35). وما يحصل على جبل التجلي هو امتداد لما حصل على جبل سيناء. ولكن الجديد هو ان الله صار منظوراً في شخص يسوع. وقد حقّق الغمام الذي ظلّل يسوع ورسله، حلم اليهود أنّه عندما سيأتي المسيح، فسوف تملأ غمامة حضور الربّ الهيكل مرّة أخرى كما جاء في الشريعة “ها أَنا آتٍ إِلَيكَ في كَثافةِ الغَمام لِكَي يَسمَعَ الشَّعبُ مُخاطَبتي لَكَ وُيؤمِنَ بِكَ لِلأَبَد ” (خروج 19: 9). ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم “إنّ الغمامة التي ظلّلت التلاميذ لم تكن مليئة بالظلام بل بالنور. في الواقع، إنّ “السِّرِّ الَّذي ظَلَّ مًكْتومًا طَوالَ الدُّهَورِ والأَجيال وكُشِفَ اليَومَ لِقِدِّيسيه” (قولسي 1: 26)”؛ أمَّا عبارة ” انطَلَقَ صَوتٌ مِنَ الغَمامِ ” فيشير الى الصوت السماوي الذي يوحي إلى أن يسوع هو الابن (مزمور 2/7) والعبد المتألم (أشعيا42: 1) والنبي الذي يجب على الشعب كله أن يسمع له (اعمال الرسل 3: 22). ان هذا الصوت يحدِّثنا هن هوية يسوع، ابن الله الحبيب، له قوة الله وسلطانه وهو مرجعنا الأخير. وكما أعطى صوت الله من السحابة على جبل سيناء السلطان لشريعته (خروج 19: 9)، هكذا صوت الله على جبل التجلي أضفى سلطاناً على أقوال يسوع، والصوت هنا موجّه إلى التلاميذ ومن خلالهم إلى “الجموع”. أمَّا عبارة ” هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيب، فلَهُ اسمَعوا ” فتشير الى ثلاث نبوءات من العهد القديم: الأولى، تخصُّ المسيح وبنوته الإلهية (مزمور 2: 7)، والأخرى تتعلق بعبد الله المتألم واختياره (اشعيا 42: 1)، والثالثة يعلن فيها عن موسى جديد (تثنية الاشتراع 18: 15): ” يُقيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِثْلي مِن وَسْطِكَ، مِن إِخوَتكَ، فلَه تَسْمَعون “. وهذه التوصية تسند تعليم يسوع عن الآم ابن الانسان وقيامته. أمَّا عبارة “هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيب” فتشير الى البنوة الإلهية، وقد اقتبسه من أشعيا (49: 7). وقد ورد هذا اللقب في المؤلفات الرؤيوية اليهودية. حيث أنه لدى اعتماد يسوع (متى 3/17) اشار الصوت السماوي الى ان يسوع هو الابن (مزمور 2/7) والعبد المتألم (اشعيا 42: 1). أمَّا في التجلي، فإنه يشير، قبل كل شيء، الى أنه النبي الذي يجب على الشعب كله أن يسمع له (اعمال الرسل 3: 22) والذي يستند الى قول النبي موسى “يُقيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِثْلي مِن وَسْطِكَ، مِن إِخوَتكَ، فلَه تَسْمَعون”(تثنية الاشتراع 18: 15). موسى بظهوره يشهد للمسيح أنه هو النبي الذي تنبأ عنه، وإيليا بالنيابة عن الأنبياء بظهوره الآن يُقدَّم المسيح على أنه هو محور النبوءات، وها هو الآب يشهد بحقيقة المسيح أنه ابنه الحبيب. أمَّا عبارة ” لَهُ اسمَعوا” فتشير الى توصية الآب للتلاميذ، للسمع والطاعة. وهذه أيضًا كانت وصية العذراء يوم عرس قانا الجليل “مَهما قالَ لَكم فافعَلوه ” (يوحنا 2: 5). لان سماع له هو في الواقع السماع للكلمة الذي صار جسداً، والذي يرى فيه المؤمن مجد الله (يوحنا1: 14). وفي هذا الإطار يبدو التجلي كشفا مسبقا لمجد ابن الإنسان. في الاعتماد كان الصوت موجّها الى يسوع وحده، أمَّا في التجلي فانه موجّه الى التلاميذ وعلى التلاميذ أن يسمعوا ليسوع، وليس لأفكارهم ورغباتهم الخاصة. إن القوة اللازمة لإتباع يسوع المسيح تنبع من ثقتنا أنه ابن الله. ومن خلال التلاميذ الكلام يسوع موجّه الى الجموع. يسوع هو النبي الذي يجب على الشعب كله ان يسمع له (اعمال الرسل 3: 22). وقد وردت هذه العبارة في عمَّاد يسوع وتشير ان يسوع هو الابن (مزمور 2: 7) والعبد المتألم (اشعيا 42: 1). وعليه جاءت كلمة الآب لتؤكد صحة تعاليم يسوع خاصة حول تألمه وموته وقيامته. أنه الطريق الجديد للحريّة الجديدة، للفصح الجديد والنهائي.
8 فأَجالوا الطَّرْفَ فَوْراً في ما حَولَهم، فلَم يَرَوا معَهم إِلاَّ يسوعَ وَحدَه.
تشير عبارة “يسوعَ وَحدَه” الى الوحدة بالمسيح حيث هناك لقاء ممثلي العهد القديم موسى وإيليا ومع ممثلي العهد الجديد بطرس ويعقوب ويوحنا، فالكل صار واحدًا فيه ” فقَد جَعَلَ مِنَ الجَماعتَينِ جَماعةً واحِدة ” (أفسس 2: 14)، كما يعلق القديس أمبروسيوس ” بعد أن كانوا ثلاثة وُجد يسوع وحده. رأوا في البداية ثلاثة، أمَّا في النهاية فرأوا واحدًا. بالإيمان الكامل يصير الكل واحدًا كما طلب يسوع من الآب” فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً” (يوحنا 17: 21). والواقع، إن غاية التجلي أن يلتقي المؤمنين جميعًا كأعضاء في الجسد الواحد خلال الثبات في المسيح والتمتع بالعضوية في جسده الواحد، فنُحسب بحق أبناء الله المحبوبين والمُمجَّدين فيه. وقد تشير عبارة ” يسوعَ وَحدَه” الى تركيز الأنظار على المسيح وحده كمخلص، فلا الناموس ولا الأنبياء يستطيعان أن يخلصا، ولكنها يقودان فقط للمسيح المخلص. بالتجلي أظهر السيد المسيح كيف يمكن أن يجتمع الكل حول شخصه باعتباره الرب الفادي والمخلّص. ويعلق البابا فرنسيس “نظروا إلى المسيح بعين الإيمان فرأوا فيه الإله والمخلص، إذا رأيت بعين الجسد فهو إنساناً وإذا لبست نظر الإيمان رأيت المسيح”.
9وبَينَما هم نازِلونَ مِنَ الجَبَل أَوصاهم أَلاَّ يُخبِروا أَحداً بِما رَأَوا، إِلاَّ متى قامَ ابنُ الإِنسانِ مِن بَينِ الأَموات.”
اوحت عبارة “بَينَما هم نازِلونَ مِنَ الجَبَل” بفكرة بناء مصلى صغير أطلق عليه “بَينَما هم نازِلونَ” يقع على الطريق التي تؤدي إلى الساحة الرئيسي للكنيسة وقد رُمم هذا المصلى عام 1923. اما عبارة “أَلاَّ يُخبِروا أَحداً بِما رَأَوا؟ ” فتشير الى توصية يسوع لتلاميذه بالصمت، لأنهم لن يفهموا ما رأوه إلا بعد ان يقوم يسوع من الاموات، وعندئذ يُظهر قوته على الموت وسلطانه ليكون ملكاً على الكل. وكذلك لم يكن ممكنا للتلاميذ ان يكونوا شهوداً اقوياء لله إلاّ بعد ان يُدركوا تماما حقيقة موت وقيامة الرب. وهذه التوصية بكتم ما اوحته السماء هو موضوع مألوف في الادب الرؤيوي (دانيال 12: 4)؛ ولقد تناوله مرقس من وجهة نظر “السر المسيحاني” (متى 8: 4). ويوضِّح مرقس الانجيلي ان السر لن يُكشف إلا بعد القيامة، وذلك أن هذا الحدث لا يُفهم إلا بعد القيامة حتى لا يظن الناس أن التجلي مقدمة لمسيح سياسي دنيوي من ناحية، وحتى لا يتشكك التلاميذ إذ تأتى آلامه من ناحية أخرى. ولكن من يستطيع ان يسكت عما رآه؟ من يستطيع ان يحتفظ لنفسه بخبرة إيمان بهذا العمق؟ لكن الأمور لا تنتهي في التجلي إنما في القيامة حيث ان التجلي هو صورة مسبقة عن القيامة.
10 فَحَفِظوا هذا الأَمْر وأَخذوا يَتَساءَلونَ ما مَعنى القِيامةِ مِن بَينِ الأَموات.
تشير عبارة “أَخذوا يَتَساءَلونَ” الى عدم فهم التلاميذ ان يسوع ابن الانسان سيموت، لأنهم يعتقدون انه لن يعرف الموت ولم يدركوا أن الصليب طريق المجد. وهذا ما يشككهم ويُدهشهم. لكن ما يبدأ بالصليب نهايته حتما المجد كما جاء في حديث يسوع مع تلميذي عمواس ” أمَّا كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه؟ ” (لوقا 24: 26). والمجد هو طبيعة الله ” وأَنا أَكونُ لَها، يَقولُ الرَّبّ، مَجداً في وَسَطها ” (حجاي 2: 9)؛ والله طبيعته المحبة (1يوحنا 4: 8). فالمجد والمحبة هما الله. فإذا كان الصليب هو المحبة الكاملة، كما جاء في انجيل يوحنا “فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة ” (يوحنا 3: 16). نفهم إذاً أن الصليب والمجد هما شيء واحد. فطريق المسيح هو الصليب وهكذا ينبغي أن يكون هذا طريق التلاميذ وطريق الكنيسة كلها. أمَّا عبارة “مَعنى القِيامةِ مِن بَينِ الأَموات” فتشير الى فكرة القيامة التي كان يعتقد بها الكثير من اليهود، ولكن التلاميذ كانوا يتساءلون عن طريقة يسوع في الكلام عليها حيث يُخبر بها كأنها قريبة، في حين أنهم كانوا يتوقعون حصولها في آخر الازمنة. وبجانب ذلك، قوله إنه لا بد له أنّ يمرّ بدرب الالام والموت للوصول الى القيامة كما جاء على لسانه “يَجِبُ على ابنِ الإِنسانِ أَن يُعانِيَ آلاماً شَديدة، وأَن يَرذُلَه الشُّيوخُ وعُظَماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، وأَن يُقتَلَ ويقومَ في اليَومِ الثَّالِث ” (لوقا 9/22). وها الامر يبدو غريبا ومحيّرا لأنه بحسب الفكر اليهودي المسيح لن يموت. فلماذا يجب ان نؤمن بيسوع؟ لأنه على جبل طابور تجلى ابن الربّ الإله وظهرت حقيقته لرسله، ومن خلال الرسل الثلاثة، تعلّمت الكنيسة جمعاء ممّا رأوا بعيونهم وسمعوا بآذانهم: “هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيب، فلَهُ اسمَعوا. إنه ذاك المتجلي. إنه المسيح حقاً نحوه يتجّه التاريخ كله. ومن هذا المنطلق الإيمان ليس قبولاً من غير دليل بل ثقة من غير تحفّظ بكائن لا حدود لعلمه ومحبّته وحكمته وكمالاته. وفي هذا الصدد يقول العلامة الفيلسوف أوغسطينوس “الإيمان يبحث عن العقل والعقل عن الإيمان”.
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 9: 1-9)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (مرقس 9: 1-9)، يمكن ان نستنتج ان النص يتمحور حول
ثلاثة نقاط: التجلي في حياة يسوع، التجلي في حياة الرسل والتلاميذ، وأخيراً التجلي في حياة الكنيسة وكل مسيحي مؤمن.
1) التجلي في حياة المسيح
التجلي بالمعنى الحرفي معناه التحوّل من حالة الى حالة. وفي انجيل متى ولوقا تغيّر وجه يسوع. امّا في انجيل مرقس، فلم يَعد ليسوع وجه. إنه الله، وفي بياضه كالشمس يمتزج معها نقاوة نور الله. وفي هذا الصدد قال الرّب يسوع عن نفسه إنّه “نورُ العَالَم” (يوحنا 8: 12). وقد ظهرت هذه الميزة في التجلّي حيث سطع نور مجده الإلهي. إنه الصورة الكاملة للسعادة الذي يرمز إليه عيد المظال (او الاكواخ) الذي يُذكرنا بأفراح حفلات القطاف خاصة العنب، كما يُذكرنا بمسيرة الشعب في البرية خلال زمن الخروج. وعليه فإن التجلي حدثٌ بالغ الاهمية في حد ذاته لشخص يسوع، حيث يكشف أن يسوع هو “ابن الله” و”ابن الانسان، عبد الله المتألم.
كان موسى يُمثّل الشريعة، وإيليا يُمثّل الانبياء وبظهورهما دلالة ان يسوع هو إتمام الشريعة ووعود الانبياء. ولم يكن يسوع مجرد واحد من الانبياء، بل ابن الله الوحيد الذي يفوق كل سلطانهم وقوتهم. إنه الابن الحبيب المُتسامي المقام الذي يملك مجد الله نفسه. إن هذا المجد يثير خوف التلاميذ، وهو خوف ديني يعتري كل إنسان إزاء كل ما هو مقدس وإلهي (لوقا 1: 29-30)، إلاّ أنه يُثير لدى بطرس فرحه أمام مجد المسيح الموعود به كما اعترف به في قَيصَرِيَّةِ فيلِبُّس “أَنتَ المسيح” (مرقس 8: 29). .
وحدث التجلي يكشف ايضا ان يسوع هو ابن الانسان، عبد الله المتألم. إن التجلي يسبق ويرمز إلى الحدث الفصحي، الذي عن طريق الصليب سيُدخل المسيح في كامل ازدهار مجده وكامل كرامته النبوية. لقد كان بوسع يسوع أن يتوج حياته الارضية بصعوده عن طريق جبل التجلي، لكنه نزل من الجبل ليمضي في طريق الصليب، وهكذا ينجز فداء العالم. وكان العبور بالألم والموت ضروري لدخول المجد كما جاء على لسان يسوع ” أَنَّ ابنَ الإِنسانِ يَجِبُ علَيه أَن يُعانيَ آلاماً شديدة، وأَن يرْذُلَه الشُّيوخُ وعُظماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، وأَن يُقتَل، وأَن يقومَ بَعدَ ثَلاثةِ أَيَّام” (لوقا 24: 25-27). إن خاتمة الصليب الأخيرة ليست الفشل، بل العبور إلى المجد، وإلى حياة الآب. لقد تمَّم مشهد التجلي نبوءات اشعيا عن “عبد الله المتألم “. والواقع أن البعد الرمزي للقيامة يجعلنا أن نستشف نور القيامة بناء على قول اشعيا ان “عبد الرب” الذي يمرّ في الالم، سوف يرى النور (اشعيا 53: 11). إن التجلي يؤيد الاعتراف الصادر في قيصرية فيلبس بأنه ابن الإنسان المتألم والممجد (مرقس 8: 29). وعندما دنا الرّب يسوع من الموت والصلب، قال: “ابْنُ الإِنْسَانِ سيُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ لِكَيْ َيَصْلِبُوهُ” (متى 20: 18-19).
وباختصار ، ويذكّرنا صوت الاب الآتي من الغمام بثلاث نبوات من العهد القديم: الأولى، تخص المسيح وبنوته الإلهية “أَنتَ اْبني وأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ” (مزمور 2: 7)، والأخرى تتعلق ب”عبد الله المتألم” واختياره كما جاء على لسان النبي اشعيا “هُوَذا عَبدِيَ الَّذي أَعضُدُه مُخْتارِيَ الَّذي رَضِيَت عنه نَفْسي” (إشفيا 42: 1)، والثالثة يعلن فيها عن موسى جديد يُقيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِثْلي مِن وَسْطِكَ، مِن إِخوَتكَ، فلَه تَسْمَعون، ((تثنية الاشتراع 18: 15) “فالسماع له هو في الواقع السماع للكلمة الذي صار جسداً، والذي يرى فيه المؤمن مجد الله (يوحنا 1: 14). وهكذا اظهر التجلي ان فكرة المسيح المتألم لم تكن مناقضة لإعلان العهد القديم، بل كانت مُطابقة تماما لشهادة الشريعة والانبياء الذي كان موسى وايليا يمثلانهم ومطابقة لشهادة الآب السماوي.
ونستنتج مما سبق ان التجلي يسبق ويرمز إلى الحدث الفصحى، الذي عن طريق الصليب سيُدخل المسيح في كامل ازدهار مجده وكامل كرامته النبوية. والمجد نهاية طريق الألم. فمن جهة، يشدّد التجلي على الألم، دون ان ينسى القيامة، ومن جهة أخرى، يشدّد التجلي على المجد، دون ان ينسى الطريق التي تقود اليه.
2) التجلي في حياة الرسل:
لعب التجلي دورا هاما لس فقد في حياة يسوع بل في التنشئة الروحية للرسل. حيث كان يتعَذَّر على التلاميذ أن يفهموا لماذا اختار معلمهم طريق الآلام والموت (متى 16: 22). ومن هذا المنطلق كان الهدفُ الرئيسيُّ من التجلّي إزالةَ الشكِّ عار الصليب من قلوبِ التلاميذِ بسببِ الصليب. فبعدَ مشاهدِتهم مسبقا مجد المسيح القائم وجلالَ كرامته المَخفيّةِ لن يضطربَ إيمانُهم عندما يرَون مذلَّةَ الآلامِ التي سيتحمَّلُها طوعًا، ولا يخجلون من آلامه، ولا يعتبروها عارًا فلا يتزعزع إيمانهم بسبب ذلّ آلامه طوعا على الصليب.
كشف يسوع لرسله من خلال التجلي كيانه العميق ومهمّته الإلهية؛ فأراهم الله شيئا من مجد ابنه كي يساندهم عند اشتراكهم في سر الصليب، ويسلّحهم بقوّة وثبات يسمحان لهم بحمل صليبهم الخاصّ بدون خوف. وفي هذه الصدد قال توما الاكويني “إن المخلص، بعد أن أوصى تلاميذه وجميع المؤمنين أنه لا بد لكل منهم ان يحمل كل يوم صليبه ويتبعه، اراد ان يُريهم لمحة من المجد المُعد لحاملي ذلك الصليب”. وفي هذا الصدد قال بولس الرسول ” إِذا مُتْنا مَعَه حَيِينا مَعَه وإِذا صَبَرنا مَلَكنا مَعَه ” (2 طيموتاوس 2: 11-12). لهذا طلب صوت الآب من التلاميذ ان يسمعوا له (مرقس 9: 7)، وأمرهم بان يصغوا الى تعليمه (متى 17: 5).
وعلى الرغم من الانباء عن الآلام والتجلّي، فإنّ التلاميذ عاشوا الخيانة (مرقس 14، 43)، والهرب (مرقس 14، 50) وحتّى الانكار (مرقس 14، 72) والخوف. والواقع أنه قد رأى بطرس ويعقوب ويوحنا حقيقة شخصية يسوع وقوته كإبن لله ولكنهم لم يدركوا هذه الحقيقة الا بعد قيامة يسوع من الموت ومعونة الروح القدس كما قال يسوع لهم ” ولكِنَّ المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم” (يوحنّا 14: 26)، وقد اكَّد بطرس الرسول بقوله “قد أَطلَعْناكم على قُدرَةِ رَبِّنا يسوعَ المسيح وعلى مَجيئِه، لا اتِّباعًا مِنَّا لِخُرافاتٍ سوفِسْطائِيَّة، بل لأَنَّنا عايَنَّا جَلالَه”(2 بطرس 1: 16-18).
فقد ترك يسوع أثراً بالغاّ في الجماعة المسيحية الاولى وثبَّت ايمانها (مرقس 7: 33-34). وكان وقت التجلي مناسباً ليحضّ صوت الله على اهمية الاستماع للمسيح (مرقس 9: 7) خاصة عندما يتكلم عن آلامه المقبلة، وهو أمر لم يكن بطرس مستعدا ان يسمعه كما نستشفه من قول يسوع لبطرس ” لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر” (مرقس 8: 33).
سلط حدث التجلي الأضواء على صعود ابن الإنسان إلى أورشليم (متى 16: 21)، مركز تاريخ الخلاص لأنها مدينة الآلام والموت والقيامة. فيسوع حقّق رحيله (أي الخروج الجديد) (لوقا 9: 31) بموته وقيامته وصعوده من أورشليم فمكّن المؤمنين من الاقتراب من الله معه. يتعذر على التلاميذ أن يفهموا لماذا اختار معلمهم ذلك الطريق (متى 16: 22)، فأراهم الله شيئاً من مجد ابنه، وأمرهم أن يصغوا إلى تعليمه (متى 17: 5). ولا يظهر معنى التجلي إلاَّ في فكرة قيامة المسيح المجيدة، وهو استباق لها.
التجلي لا يغيّر يسوع، بل يكشف ألوهيته، “في وحدته مع الآب، يسوع نفسه هو نور من نور”. وإذ يتأمل بطرس ويعقوب ويوحنا بألوهية الرب، يصبحون مستعدين لمواجهة عار الصليب، ويصبحون لاحقا اعمدة الكنيسة، وكان لهم التأثير الكبير في نشر الكلمة وتأسيس الكنيسة كما يرنم في نشيد قديم: “لقد تجسدت على الجبل، وتأمل تلاميذك بقدر استطاعتهم مجدك أيها المسيح الله لكي يستطيعوا عند رؤيتك مصلوباً أن يفهموا أن آلامك طوعية ويعلنوا للعالم أنك حقاً إشراق الآب” (الليتورجيا البيزنطية، نشيد عيد التجلي).
3) التجلي في حياة المسيحي والكنيسة
ولعب التجلي أيضا دورا هاما في رجاء حياة كل مسيحي وحياة الكنيسة. حيث أراد الربّ أن تكون كنيسته المقدّسة مبنيّة على أساس الرجاء، حتّى يفهم أعضاء جسد المسيح أي تحوّلات تحدث في داخلهم، بما أنّ كلّ واحد منهم مدعوّ إلى المشاركة في مجد الربّ المتجلّي. يريد الربّ أن يكشف مجده لنا، نحن تلاميذه الأحبّاء.
والواقع يكشف ان التجلي هو رؤية سابقة لمجد السماء ويؤسِّس الرجاء. حيث انَّ المجد الذي رآه التلاميذ على الجبل المقدس ما هو إلاّ رؤية سابقة للمجد الذي أعدّه المسيح لاتباعه بعد عناء هذه الدنيا. ويعلق أحد المفسّرين ” لم يكن بهاء اللاهوت بل كان مجد الناسوت الكامل الذي هو بلا خطيئة وان الرب في تلك اللحظة كان مستعدا للرجوع الى السماء بدون الموت ولكنه للمرة الثانية ولىّ ظهره للسماء لكي يشترك كانسان فكمّل في سر الموت البشري”. الحياة الحقيقيّة هي بمثابة حياة إنسانيّة مُغلّفة بالمجد، يسكنها الربّ. وهذه الحياة يمنحه الرب للمؤمنين به. إذ أصبح المسيحيون بالعماد شركاء في سر القيامة، الذي كان التجلي رمزاً له، فإنهم مدعوون منذ الآن ان يتجلوا على الدوام، أكثر فأكثر، بقوة الرب (2 قورنتس 3: 18)، انتظاراً لتجليهم الكامل مع أجسادهم يوم مجيء المسيح الثاني المجيد ” الَّذي سيُغَيِّرُ هَيئَةَ جَسَدِنا الحَقير فيَجعَلُه على صُورةِ جَسَدِه المَجيد بما لَه مِن قُدرَةٍ يُخضِعُ بِها لِنَفْسِه كُلَّ شيَء”(فيلبي 3: 21)؛ وذلك خلال مشاركتهم لآلام المسيح كما جاء في تعليم بولس الرسول “أَرى أَنَّ آلامَ الزَّمَنِ الحاضِرِ لا تُعادِلُ المَجدَ الَّذي سيَتَجَلَّى فينا” ( رومة 8: 18) . أنّ هذا التحوّل سيتمّ فيهنا يومًا، لأنّ أعضاء الكنيسة موعودون بالمشاركة في المجد الّذي أشرق في الرأس يسوع الذي أعلن: “الصِّدِّيقونَ يُشِعُّونَ حِينَئذٍ كالشَّمْسِ في مَلَكوتِ أَبيهِم ” (متى 13: 43).
ويهدف التجلي ايضا لتأسيس الرجاء. إذ يدرك جميع أعضاء الكنيسة، التي هي جسد المسيح السري، أنّ هذا التحوّل سيتمّ فيهم يومًا ما، لأنّ الأعضاء هم موعودون بالمشاركة في المجد الّذي أشرق في الرأس وهو المسيح كما جاء في تعليم بولس الرسول “َهُوَ رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ. الَّذِي هُوَ الْبَدَايَةُ، بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ” (قولسي 1،18). وفي موضع آخر قال الرب يسوع عن هذا المجد: “الصِّدِّيقونَ يُشِعُّونَ حِينَئذٍ كالشَّمْسِ في مَلَكوتِ أَبيهِم” (متى13: 43). والرسول بولس أكّد من جهته: “أَرى أَنَّ آلامَ الزَّمَنِ الحاضِرِ لا تُعادِلُ المَجدَ الَّذي سيَتَجَلَّى فينا” (رومية 8: 18). وكتب في موضع آخر “لأَنَّكم قد مُتُّم وحَياتُكم مُحتَجِبةٌ معَ المسيحِ في الله. فإِذا ظَهَرَ المسيحُ الَّذي هو حَياتُكم، تَظَهَرونَ أَنتُم أَيضًا عِندَئِذٍ معَه في المَجْد” (قولسي3: 3-4). ويؤكد لنا القديس بولس الرسول أننا “نَحنُ جَميعًا نَعكِسُ صورةَ مَجْدِ الرَّبِّ بِوُجوهٍ مَكشوفةٍ كما في مِرآة، فنَتَحوَّلُ إِلى تِلكَ الصُّورة، ونَزدادُ مَجْدًا على مَجْد، وهذا مِن فَضْلِ الرَّبِّ الَّذي هو روح” (2 قورنتس 3: 18)). حيث ان يسوع المسيح الذي مات من أجلنا هو حيّ معنا اليوم، وهو مصدر حياتنا ورجانا “وَهُوَ رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ. الَّذِي هُوَ الْبَدَايَةُ، بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ” (قورنتس 1: 18).
ونختم بقول البابا لاون الكبير “فلْيَثبُتْ إذًا إيمانُ الجميعِ بحسبِ تعليمِ الإنجيلِ المقدَّس، ولا يَخجَلْ أحدٌ بصليبِ المسيحِ الذي به فدى العالم. ولا يَخَفْ أحدٌ أن يتألَّمَ من أجلِ البِرِّ، ولا يشُكَّ في الوعودِ المُقبِلة، لأنَّ المؤمنَ يعبُرُ من التعبِ إلى الراحة، ومن الموتِ إلى الحياة. إذا ثبَتْنا نحن في الاعترافِ به وفي محبَّتِه انتصَرْنا بنَصرِه وقبِلْنا كلَّ ما وعدَ به”. فنحن لا نبلغ قمة المجد إلاّ بالتضحية والصليب. هكذا يلتحم الصليب بالمجد، فمن يتألم معه يتمجد أيضًا معهُ ” وإِذا شارَكْناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا”(رومة 17:8).
الخلاصة
قد كان المسيحيون الأوائل يعتبرونه نصا أساسيا للتنشئة المسيحية في تحضير “الموعوظين”، لأنه على جبل طابور تجلى ابن الله وظهرت حقيقته لتلاميذه، فمن خلال الرسل الثلاثة، تعلّمت الكنيسة جمعاء ممّا رأوا بعيونهم وسمعوا بآذانهم: “هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيب، فلَهُ اسمَعوا”.
كان التجلي إعلاناً خاصاً عن ألوهية يسوع لثلاثة من تلاميذه، كما كان تأكيداً من الله لكل ما فعله يسوع ولكل ما كان على وشك أن يفعله من آلامه وموته وقيامته وصعوده إلى السماء وإرساله الروح القدس. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول “النِّعمَةِ الَّتي وُهِبَت لَنا في المسيحِ يسوعَ مُنْذُ الأَزَل، وكُشِفَ عنها الآنَ بِظهورِ مُخَلِّصِنا يسوعَ المسيحِ ” (2 طيموتاوس 1، 9-10). لذا لا يجوز فصل الصليب عن المجد، لانَّ سر الخلاص التي تمّ على الجبل يجمع في الوقت نفسه موت المسيح ومجده. وإذا أردنا أن نختبر هذا السر مع التلاميذ الذين اختارهم وتجلّى أمامهم، يجب أن نسمع الصوت الإلهي الذي يدعونا بإلحاح من قمة الجبل المقدس.
وأخيرا يُذكّرنا التجلّي في الزمن الأربعيني بما يأتي بعد الصليب، اي بمجد الربّ يسوع القائم من الموت. وأنّ الربّ قرّر أن يكون مجد التجلّي لكلّ واحد منّا في الحياة الآخرة. لكن بدون الإيمان الحي العامل بالمحبة لن نستطيع معاينة مجده. وهذا الامر يوحي لنا أننا لا نسير الى المجد الا ببذل حياتنا. وإيماننا يجعلنا نتذوّق نور مجد الربّ مسبقاً (1 قورنتس 13، 12). ولكن إذا لم يتبدّل قلبنا الآن فلن يتم تبدّل جسدنا يوم القيامة.
دعاء
أيها الآب السماوي، امنحنا النعمة ان نصعد الى القمة مع رسلك لنتعرف على مجد ابنك الحبيب يسوع في جبل طابور يشع أمامنا، ويُثبِّت إيماننا من خلال صلاتنا والإصغاء اليه، فنستطيع ان ننزل من الجيل كي نحمل صليب الخدمة على خطى المسيح حتى الآلام والصليب، ونشاركه يوما في مجده ” ونَعكِسُ صورةَ مَجْدِ الرَّبِّ بِوُجوهٍ مَكشوفةٍ كما في مِرآة، فنَتَحوَّلُ إِلى تِلكَ الصُّورة، ونَزدادُ مَجْدًا على مَجْد” (2 قورنتس 3: 18). ايها القديسون، بطرس ويعقوب ويوحنا، مقربي يسوع، صلوا لأجلنا.