Liturgical Logo

الاحد الرابع من الصوم: حوار بين يسوع ونيقوديمس حول الايمان والدينونة (يوحنا 3: 14-21)

الأب لويس حزبون

في الأحد الرابع للصوم يكشف يسوع المسيح عن تمجيده بالصليب لنيقوديمس، أحد اعضاء المجلس الأعلى لليهود، (يوحنا 3: 10). وكل من يؤمن بهذه الحقيقية ويقبلها بنعمة الروح القدس لا يهلك بل يُصبح انساناً جديداً (يوحنا 3: 14-21)؛ ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.
أولاً: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 3: 14-21)

14 وكما رَفَعَ مُوسى الحَيَّةَ في البَرِّيَّة فكذلِكَ يَجِبُ أَن يُرفَعَ ابنُ الإِنسان:

تشير عبارة “رَفَعَ مُوسى الحَيَّةَ في البَرِّيَّة” الى النص الذي ورد في سفر العدد ” صَنَعَ موسى حيَّةً مِن نُحاس وجَعَلَها على سارِيَة. فكانَ أَيُّ إِنْسانٍ لَدَغَته حَيَّةٌ ونَظَرَ إِلى الحّيَّةِ الْنّحاسِيَّةِ يَحيا “(عدد 20: 9). وكان ما فعل موسى رمزا نبوياً لما يفعله يسوع على الصليب. كما حوّل الاسرائيليون المشرفون على الموت عيونهم الى الحية النحاسية ونالوا الشفاء، هكذا الناس الذين تحت دينونة الخطيئة ينالون الحياة الابدية والشفاء برفع النظر تجاه المخلص المرفوع على خشبة الصليب وأشار المسيح نفسه إلى هذه الحادثة ورأى فيها نبوَّة لصلبه. وهكذا المسيح المرفوع على خشبة الصليب يخلصنا من لعنة الشريعة التي صارت كلدغات الحيات النارية القاتلة عندما خالفنها كما جاء في تصريح بولس الرسول “إنَّ المسيحَ افتَدانا مِن لَعنَةِ الشَّريعة إِذ صارَ لَعنَةً لأَجْلِنا” (غلاطية 3: 13). أمَّا عبارة ” رَفَعَ” فتشير الى وضع الحيَّة او ابن الانسان على ارتفاع، كي يتمكّن الجميع، القريب والبعيد، من رؤيتها. كما يصرّح يوحنا الإنجيلي “سَيَنظُرونَ إِلى مَن طَعَنوا “(يوحنا 19: 37). ويُعلق القديس اوغسطينوس “هناك فارق بين الصورة الرمزية والشيء الحقيقي، الرمز يبعث حياة وقتية، والحقيقة التي لها الرمز تبعث حياة أبدية”. وهناك معنى مزدوج في فعل “رفع ” في نص انجيل يوحنا: رُفع يسوع على الصليب (يوحنا 3: 14) ورُفع في المجد ” كما ورد في صلاة يسوع الكهنوتية “مَجِّدْني الآنَ عِندَكَ يا أَبتِ بِما كانَ لي مِنَ المَجدِ عِندَكَ قَبلَ أَن يَكونَ العالَم” (يوحنا 17: 5). لان الصليب موضع ارتفاع يسوع في مجد الاب كما صرّح يسوع ” متى رَفَعتُمُ ابْنَ الإِنسان عَرَفتُم أَنِّي أَنا هو ” (يوحنا 8: 28)؛ فرفع يسوع على الصليب هي علامة وسبيل ارتفاعه في المجد؛ فيسوع الذي رفع على الصليب وفي المجد، يفتح للبشر أبواب الخلاص، إذ يهبهم حياته بالذات ومجده كقائم من الموت كما تنبا يسوع قبل موته وقيامته قائلا: “وأَنا إِذا رُفِعتُ مِنَ الأَرض جَذَبتُ إِلَيَّ النَّاسَ أَجمَعين”(يوحنا 12: 32). وأصبحت علامة الحيّة الملفوفة على عمود من الخشب على لوحة كل صيدليات العالم علامة على أنّ هناك في الصيدلية دواء لشفاء المريض فهذه العلامة مأخوذة من الحية النحاسية التي صنعها موسى ليشفي الله كل من ينظر اليها من لدغتهم الحية ، فكم بالأولى أن ننظر الى يسوع المسيح المعلق على خشبة الصليب، فهو الطبيب العظيم الذي يشفينا من سم الخطيئة وينقذنا من الموت ” مُحَدِّقينَ إِلى مُبدِئِ إِيمانِنا ومُتَمِّمِه، يسوعَ الَّذي، في سَبيلِ الفَرَحِ المَعْروضِ علَيه، تَحَمَّلَ الصَّليبَ مُستَخِفًّا بِالعار، ثُمَّ جَلَسَ عن يَمينِ عَرْشِ الله” (العبرانيين 12: 2). أمَّا اسم ” مُوسى ” فيشير الى اسم مصري معناه “ولد” وبالعبري משֶׁה معناه “مُنتشل”، وهو قائد الامة العبرانية وتصفه كتب الشريعة بأنه ” لم يَقُم مِن بَعدُ في إِسْرائيلَ نَبِيٌّ كموسى الَّذي عَرَفَه الرَّبُّ وَجْهًا لِوَجْه ” (تثنية الاشتراع 34: 10). وفي الواقع، ظهر موسى مع ايليا على جبل التجلي فتكلما مع المسيح (لوقا 9: 31). وكان موسى رمزاً للمسيح، فإنَّه ابى ان يُدعى ابن ابنة فرعون لأنه لم يقدر ان يبقى في هذا المنصب مع حفظ ديانته. كما أبى المسيح ان يقبل ممالك العالم لأنه لم يمكنه قبولها بدون الإذعان لمطالب الشيطان. وكان موسى مُحرِّراً لشعبه كما ان المسيح يُحرِّر تابعيه من عبودية الخطيئة. وأنشأ موسى ناموس وصايا الحياة الإنسانية، أمَّا يسوع فقد وهب ناموس الحياة الروحية. وكان موسى نبياً، أمَّا يسوع فنبي أعظم منه. وكان موسى وسيطاً بين الله وشعب بني إسرائيل، وهكذا المسيح هو “الوَسيطَ بَينَ اللهِ والنَّاسِ ” (1 طيموتاوس 2: 5). أمَّا عبارة ” الحَيَّةَ “في العبرية נָחָשׁ (حَنَش) فتشير الى الموت كون الموت أتى من الحيّة (تكوين 3). ولدغة الحيّة تعطي الموت؛ أما موت الربّ، فهو الذي يعطي الحياة حيث ان موت السيد المسيح على الصليب يهزم الخطيئة والموت وينال الحياة الأبديّة لمن يؤمن. ويُعلق العلامة أوريجانوس “الحيَّة التي رُفعت تمثل السيد المسيح حامل خطايانا، من ناحية، ومن ناحية أخرى تُمثل الحيَّة القديمة التي سمَّرها السيد المسيح بصليبه وجرَّدها من سلطانها على المؤمنين”. والحيَّة النحاسية التي رفعها موسى على السارية لها علاقة بمناجم “عربة” حيث كانوا يستعملون هذا المعدن في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وقد عُثر في تمنه في النقب على عدة حيّات نحاسية صغيرة كانوا يستعملونها للاحتماء من الحيات السامة. ويفسِّر سفر الحكمة حادثة الحيَّة النحاسية في البرية بمعنى الرحمة: “وكانَت لَهم عَلامةُ خَلاص تُذَكرهم وَصِيَّةَ شَريعَتِكَ فكان المُلتَفِتُ إِلَيها يَخلُص لا بِذلكَ الَّذي كانَ يَراه بل بِكَ يا مُخَلِّصَ جَميعِ النَّاس. وبذلكَ أَثبَتَّ لأَعْدائِنا أَنكً أَنتَ المُنقِذُ مِن كُلِّ سوء” (الحكمة 16: 6-10). حيث ان الحيَّة النحاسية لم يكن لها قدرة في نفسها، انما يجد المرء في هذه العلامة تذكير بالشريعة وعلامة الخلاص الذي يعرضه الله على جميع الناس، لان النظر إلى الحية النحاسية يشفى المؤمن بالإيمان (عدد 9:21؛ يوحنا يو14:3). ومن هذا المنطلق يعلّم صاحب سفر الحكمة ان لله القدرة المطلقة على الحياة والموت، ولا يستطيع الله انتشال من اراد من خطر الموت فقط، بل يستطيع ان يُعيد الى الحياة الجسدية النفس التي نزلت الى مثوى الاموات. ويعلق القديس افرام السرياني “كان على بني إسرائيل أن يتعلّموا أن الثعبان الذي قاد آدم إلى الموت، قادهم أيضًا نحو الهلاك. لذا، علّق موسى الثعبان على الخشبة حتى يعود بهم بهذا التشبيه إلى ذكرى شجرة معرفة الخير والشر. وهؤلاء الذين أداروا نظرهم إليه خَلصوا، لا بفضل الثعبان، إنّما بفضل توبتهم. لأنهم عندما كانوا ينظرون إلى الثعبان ويتذكّرون خطيئتهم فينتابهم الشعور بالندم، لأنّهم لُسعوا، ومرّة أخرى خُلصوا”. اما عبارة ” البَرِّيَّة ” فتشير الى برية فاران جنوب جبل هور عند حدود بلاد ادوم. (عد 20: 22)؛ أمَّا عبارة “ابن الانسان” فتشير الى لقّب يسوع الذي في شخصه “تُفتح السماوات على الارض (اشعيا63: 19) ويصبح الاتصال بالله حقيقة دائمة (يوحنا1: 51). فهو السبيل المفتوح للبشر لنيل الحياة الابدية (يوحنا 6: 27)؛ اتى يسوع لملاقاة الانسان وكشف له عن ” ابن الانسان” أي ذاك الذي أتى من السماء ليجمع شمل البشر ويرتفع بهم الى المشاركة في حياة الله كما عمل مع شفاء الاعمى في اورشليم (يوحنا 9: 35)، ويقوم ابن الانسان أيضا بعمل الديَّان الأعظم (دانيال 7: 13). أمَّا عبارة ” يُرفَعَ ابنُ الإِنسانَ” فتشير الى موت يسوع على الصليب حيث انه يُرفع عليه ويُرفع في مجد القيامة ليقدم الخلاص للبشرية (اعمال الرسل 4: 30-31) كما تنبأ اشعيا بقوله ” كَشَفَ الرَّبُّ عن ذراعِ قُدسِه على عُيونِ جَميعِ اَلأُمَم فتَرى كُلُّ أَطْرافِ الأَرضِ خَلاصَ إِلهِنا” (اشعيا 52: 10)، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم “هناك كان المُعلَّق نحاسًا بشكل حيَّة وهنا المًعلق هو جسد السيد المسيح”. أمَّا فعل” رفع” فيشير الى الصليب كعلامة وسبيل ارتفاع في المجد الصليب الذي هو موضع ارتفاع يسوع في المجد (يوحنا 8: 28-30) حيث صرّح يسوع “وأَنا إِذا رُفِعتُ مِنَ الأَرض جَذَبتُ إِلَيَّ النَّاسَ أَجمَعين. وقالَ ذلك مُشيراً إِلى المِيتَةِ الَّتي سَيَموتُها” (يوحنا12: 32-33). وتقبل يسوع الموت برضى كوسيلة إتمام الفداء للعالم. فكان ما فعله موسى رمزاً نبوياً: جعل الله يسوع المسيح المُعلق على الصليب حيّة الحياة. فنظرة واحدة الى المسيح المعلّق على الصليب هي حقا وسيلة شفاء وضمانة للخلاص والحياة، وبهذا يترنَّم صاحب المزامير ” كلَّت عَينايَ اْنتِظارًا لِخَلاصِكَ ولأَقوالِ بِرِّكَ “(مزمور 119: 123). لقد قام يسوع بتمجيد الآب بطاعته في الخدمة الوضيعة حتى الموت، فأشركه الآب في مجده الابدي بالقيامة (يوحنا 13: 31-32). وآخر معجزة صنعها موسى النبي قبل نياحته هي رفع الحية النحاسية في البرية لشفاء الشعب من لدغات الحيات (عدد 21: 6-9).

15 لِتَكونَ بهِ الحَياةُ الأَبديَّةُ لِكُلِّ مَن يُؤمِن”

تشير عبارة” لِتَكونَ بهِ” الى يسوع الذي سيتألم وسيموت، ولهذا فهو الذي يهب للذين يؤمنون به الحياة الأبدية. لم يُصمَّم موت المسيح بإرادة الانسان، ولكن بمحبة الله، الذي بذل ابنه الوحيد ذبيحة شاملة عن العالم. أمَّا عبارة “الحَياةُ الأَبديَّةُ” فتشير الى ملكوت الله، إذ يُفضِّل يوحنا الإنجيلي ان يتكلم عن الحياة الابدية بدل ملكوت الله.
والحياة الالهيَّة هي حياة الصداقة مع الله التي تبدأ على الارض وتدوم الى الابد، لأنها “حَياةِ اللّهِ”(أفسس 4: 18) المتجسّدة في المسيح القائل “أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة”(يوحنّا 14: 6). أمَّا عبارة ” لِكُلِّ مَن يُؤمِن” فتشير إلى هبة الحياة الأبدية لكلّ المؤمنين كضمان لكونهم سوف يحيون إلى الأبد. ويرتبط الايمان بالحياة الأبدية بحيث ان يسوع الذي تألم ومات هو الذي يهب للذين يؤمنون به الحياة الإلهية. حيث ان نظرة واحدة بإيمان الى المسيح، وهو معلّق على الصليب، هي وسيلة للشفاء وضمانة للخلاص والحياة.

16 فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة”

تشير عبارة ” اللهَ أَحبَّ العالَمَ ” الى مبادرة الهنا الذي يُحبُّ، إله محبة. فهو إله وأب في آن واحد. لقد أحبَّ الله البشرية حباً فائقاً، وبلغ حبَّه الى أعلى الدرجات. لأنَّ الحب هو مصدر الخلاص حيث دفع حبُّ الآب السماوي لان يعطي العالم أعز ما لديه ابنه الوحيد. ويُعلق القدّيس أوغسطينوس “يحب الربّ كل واحد منّا وكأنّ ليس هناك من يُحبّه سواه”. أمَّا عبارة ” جادَ بِابنِه الوَحيد ” فتشير الى ابن الله بالطبيعة وليس بالتبنّي، لأنّه وُلِد من الآب بطريقة جوهريّة. لأنّ الآب، وهو الإله الحق، وَلَد الابن المساوي له في الجوهر، إلهًا حقًّا من إلهٍ حق كما ورد في قانون الإيمان. ويبرهن الله عن حبه بانه جاد بابنه يسوع ليعطينا الحياة؛ ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم ” جادَ بِابنِه الوَحيد، وليس بخادمٍ، ولا بملاكٍ ولا برئيس ملائكة. لا يُظهر أحد اهتمامًا بابنه كما يظهر الله نحو عبيده “. والحياة هي أكبر ثروة يستطيع ان يمتلكها المرء. فدفع الله الثمن حياة ابنه، وقد قبل يسوع عنا عقابنا ودفع ثمن خطايانا، وقدَّم لنا الحياة الابدية. قد تكون محرقة إبراهيم هي التي أوحت بهذا الكلام حيث قال الله له” خُذِ اَبنَكَ وَحيدَكَ الَّذي تُحِبُّه، إِسحق، وآمضِ إِلى أَرضِ المورِيِّا وأَصعِدْه هُناكَ مُحرَقَةً على أَحَدِ الجِبالِ الَّذي أريكَ ” (التكوين 22: 2)؛ حبا لنا قد حقق الله تضحية بابنه التي طُلبت سابقا من إبراهيم ابي المؤمنين. ويتساءل الاسقف ثيودورس المصّيصي “كيف “أنّ الله جاد بابنه الوحيد”؟ من الأكيد أنّ الله لا يمكن أن يتألّم. لكنّ إنسانيّة المسيح وألوهيّته، بفضل اتّحادهما، تشكّلان كيانًا واحدًا. لذلك، على الرغم من أنّ الإنسان وحده هو الذي يتألّم، فإنّ كلّ ما يمس إنسانيّته يُنسَبُ أيضًا إلى ألوهيّته”. أمَّا عبارة ” لِكَي لا يَهلِكَ ” فتشير الى يسوع الذي هو كفارة. عرَفَ القدِّيسُ يوحنا الإنجيلي هذه الكفَّارةَ بقوله ” فقالَ “يَا بَنِيَّ، أكتُبُ إلَيكُم بِهَذَا لِئَلا تَخطَأُوا. لَنَا شَفِيعٌ عِندَ الآبِ، وَهُوَ يَسُوعُ المَسِيحُ البَارُّ، إنَّهُ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا” (1 يوحنا 1:2). وذكَرَ بولسُ أيضًا هذه الكفَّارةَ لمّا قالَ في المسيح: “ذَلِكَ الَّذِي جَعَلَهُ الله كَفَّارَةً فِي دَمِهِ بِالإيمَانِ” (روما 3: 25). ويومُ الكفَّارةِ باقٍ لنا إلى أن يَبلُغَ العالمُ نهايتَه. أمَّا عبارة ” الحياةُ الأَبدِيَّة ” فتشير الى ” حَياةِ اللّهِ” (أفسس4: 18) المتجسدة في المسيح (يوحنا 14: 6) والمعطاة الآن لكل المؤمنين. وليس في تلك الحياة موت ولا مرض ولا أعداء ولا شر ولا خطيئة. حيث يريد الله أنّ نكون في شركة معه إلى الأبد، لهذا أرسل ابنه لا ليدين العالم، بل ليخص العالم. فالله هو إله الخلاص، ولا يريد موت الخاطئ. وبالصليب يعلن الآب حبه لكل البشرية ببذل ابنه لكي يتمتع العالم بالحياة الأبدية. تاريخ الله مع البشر تاريخ محبة. وعلى هذه الآية يرتكز الانجيل كله.

17 فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم”

تكررت عبارة “إِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم ” أكثر من خمسين مرة في انجيل يوحنا. ولأنَّ تاريخ الله مع البشر تاريخ محبّة، فقد أرسل ابنه لا ليدين العالم ويقضي عليه، بل ليخلص العالم. وقد اكّد ذلك بولس الرسول “إِنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إِلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟” (رومة 8: 32). هو لا يدين، فهل تدين أنت؟ أمَّا عبارة ” لِيُخَلَّصَ بِه العالَم ” فتشير الى رسالة يسوع الذي تنحصر في الخلاص، والله الذي هو إله الخلاص، لا يريد موت الخاطئ بل خلاصه. وفي هذا الصدد تنبأ حزقيال “يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ، لَيسَ هَوايَ أَن يَموتَ الشِّرِّير، بل أَن يَرجعَ عن طَريقِه فيَحْيا ” (حزقيال 33: 11). وهذا الامر اكّده السامريون للمرأة السامرية “لا نُؤمِنُ الآنَ عن قَولِكِ، فقَد سَمِعناهُ نَحنُ وعَلِمنا أَنَّهُ مُخَلِّصُ العالَمِ حَقاً” (يوحنا 4: 42). فرغبة الله الوحيدة ومخططه الوحيد هو “خلاص البشر كما أوضحه بولس الرسول “إنَّ إنسَانَنَا القَدِيمَ قَد صُلِبَ مَعَهُ، لِيَزُولَ هَذَا البَشَرُ الخَاطِئُ، فَلا نَظَلَّ عَبِيدًا لِلخَطِيئَةِ” (روما 6: 6). وعندما نحب، نريد كل خير للذين نحبّهم، فكم بالأحرى الله تعالى الذي يُحبُّنا ويريد خلاصنا. إنّ الخلاص متوفّر للجميع، ولكن قد يحدث أن نعيش دون أن نعرف أنّنا مُخلّصون. وهذا هي المصيبة الكبرى للإنسان، وهي مصيبة أكبر من الخطيئة ذاتها: ان لا نعرف وان لا نؤمن بأنّه قد غُفر لنا. مَنْ يؤمن يخرج من دائرة الدينونة التي أتى من اجلها المسيح (يوحنا 9: 39)؛ أمَّا من يدان فهو يدان لأنه خرج من دائرة الحب، لان “اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم”. ويعلق أحد المفسّرين “لم يأتِ المسيح لكي يُصلَب، بل أتى ونحن الّذين صلبناه. لذلك نتحمّل كامل مسؤوليّة هذه الجريمة البشعة”.

18 مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد”

تشير عبارة ” مَن آمَنَ بِه لا يُدان ” الى الانسان الذي يُدان عندما يقف أمام صليب يسوع (يوحنا 16: 11)؛ في حين رأى اليهود أن الدينونة تتم في نهاية التاريخ. أمَّا عبارة ” ومَن لم يُؤمِنْ بِه” فتشير الى ذاك الانسان الذي لا يضع ثقته في عمل يسوع، ويرفض الوحي الذي يقدِّم له. أمَّا عبارة ” فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد ” الى الدينونة التي هي الحكم على من يرفض الايمان به كما صرّح يسوع “أَمَّا على الدَّينونة فَلأَنَّ سَيِّدَ هذا العالَمِ قد دِين” (يوحنا 16: 11). وهكذا تُقسم البشرية إلى قسمين: اولئك الذين يتقبلون النور. وأولئك الذين يرفضون النور، ويُفضّلون الظلام (الشر والخطيئة) على النور الذي هو يسوع، نور العالم (يوحنا 9: 39-40). ومن هذا المنطلق يقوم الايمان على الاعتراف بالمسيح على انه ابن الله والاعتراف بقدرته والدعاء اليه بثقة “أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله “(يوحنا1: 12). أمَّا عبارة “يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد” فتشير الى ثقة الانسان في عمل يسوع وقدرته. يسوع جاء ليخلص العالم. وهنا يكمن جوهر خيارنا: إما أن نؤمن به او لا نؤمن، إمَّا مع يسوع او ضده. فتقع المسؤولية على عاتق الإنسان. الله يريد خلاصنا، غير ان بعض الناس يرفضون هذا الخلاص، ويحكمون هم على أنفسهم. فمن يرفض رسالة يسوع يحكم على نفسه بالهلاك، ذلك بان ليس هناك سبيل آخر الى للخلاص كما صرّح بطرس الرسول امام مجلس اليهود ” لا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأَنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص” (اعمال الرسل 4: 12).

19 وإِنَّما الدَّينونَةُ هي أَنَّ النُّورَ جاءَ إِلى العالَم ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّور لأَنَّ أَعمالَهم كانت سَيِّئَة”

تشير عبارة “الدَّينونَةُ” الى فرز يتم بين الناس بسبب رسالة يسوع في هذا العالم التي تحدث انقلابا حقيقيا حسب مواقف الانسان تجاهه وتعاليمه. هذا ما يعبّر عنه العميان الذين يؤمنون بيسوع يُشفون ويبلغون معرفة الوحي، والمتباهون بالتمتع بالنور هم عاجزون عن رؤية الذي يأتي بنور الخلاص. فهم يُغلقون على أنفسهم للأبد في الظلمات والهلاك كما صرّح يسوع: “إِنِّي جِئتُ هذا العاَلمَ لإِصدارِ حُكْمٍ: أَن يُبصِر الَّذينَ لا يُبصِرون ويَعْمى الَّذينَ يُبصِرون” (يوحنا 9: 39). وغالبا ننطلق من هذا المبدأ بالذات: إما أن نعمل الخير او الشر. وكل من يصنع الخير فهو في شركة أكيدة مع الله. اما عبارة “النُّور” فتشير الى الكلمة المتجسد، المسيح الآتي الى العالم، وبإمكان كل إنسان أيا كان أصله او وضعه، ان يستنير به لتحقيق حياته ” كان النُّورُ الحَقّ الَّذي يُنيرُ كُلَّ إِنْسان آتِياً إِلى العالَم “(يوحنا 1: 9). فالإنسان الّذي يتصرّف بعداوة تجاهه، يكون قد حكم على نفسه بأنّه أحبّ الظلمة أكثر من النور حيث ان النور هو أداة التفريق والتمييز. أمَّا عبارة ” النُّورَ جاءَ إِلى العالَم ” فتشير الى دينونة العالم بمجيء يسوع، نور العالم. لان الخلاص والدينونة اجتمعا في شخص يسوع حيث ان ظهور يسوع يكوَّن ازمة في حياة العالم ويضطر الناس، إما ان يقبلوا الى النور، او ان يبقوا في الظلمة. أمَّا عبارة ” ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّور فتشير الى الخطيئة والضلال وكل ما هو مضاد للحق الذي يؤدي الى عدم الايمان والابتعاد عن النور (رومة 1: 28). حيث ان الايمان هو ممارسة الحق والطاعة والانجذاب نحو النور. وبهذا الامر فان عمل يسوع يغربل الخير من الشر. أمَّا عبارة ” أَعمالَهم كانت سَيِّئَة ” فتشير الى الأعمال البطالة الحقيرة التي تؤثر على الضمير فيبغض النور. ويصفها بولس الرسول بقوله ” الأَعْمالَ الَّتي يَعمَلونَها الناس في الخُفْيَة يُستَحْيا حتَّى مِن ذِكرِها” (أفسس 5: 12)، أمَّا “أَعمالَهم” فقد وردت هنا بصيغة الجمع حيث الدخول في سلسلة لا تنقطع من أعمال الظلمة وقد حاول بولس الرسول يذكر بعضها ” الزِّنى والدَّعارةُ والفُجور وعِبادةُ الأَوثانِ والسِّحرُ والعَداوات والخِصامُ والحَسَدُ والسُّخطُ والمُنازَعاتُ والشِّقاقُ والتَّشيُّع والحَسَدُ والسُّكْرُ والقَصْفُ وما أَشبَه. وأُنبِّهُكم، كما نَبَّهتُكم مِن قَبْلُ، على أَنَّ الَّذينَ يَعمَلونَ مِثلَ هذِه الأَعمال لا يَرِثونَ مَلَكوتَ الله” (غلاطية 5: 19-21). السلوك بهذه الاعمال هي رفض “النور” يسوع المسيح، مخلص العالم.

20 فكُلُّ مَن يَعمَلُ السَّيِّئات يُبغِضُ النُّور فلا يُقبِلُ إِلى النُّور لِئَلاَّ تُفضَحَ أَعمالُه.

تشير عبارة ” مَن يَعمَلُ السَّيِّئات يُبغِضُ النُّور ” الى محبة الأشرار للظلمة، لأنها أفضل لممارسة شرهم، ويبغضون النور لأنه يفضحهم؛ حيث ان النور يعلن شر الانسان لنفسه فيؤنبه ضميره ولا يرى وسيلة للراحة الى بهربه منه وإذ لا يتوافق روح الله مع روح العالم، كما قال الحكيم “السّاخِر لا يحِبّ أَن يوَبَّخ وإِلى الحُكَماءِ لا يَذهَب” (أمثال 15: 12). أمَّا عبارة ” النُّور ” فتشير الى نور قداسة الله. هذا النور ينزع القناع عن الانسان الذي يعمل الشر ويغش نفسه. وكشف القناع هذا هو دينونة لمن يرفض الله وابنه يسوع الذي هو نور العالم. أمَّا عبارة ” فلا يُقبِلُ إِلى النُّور لِئَلاَّ تُفضَحَ أَعمالُه ” فتشير الى كثيرين الذين لا يريدون ان تتعرَّض حياتهم لنور الله، لأنهم يخافون مما سيكشفه ويعلنه. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول “إِنَّ الأَعْمالَ الَّتي يَعمَلونَها في الخُفْيَة يُستَحْيا حتَّى مِن ذِكرِها. ولكِن كُلُّ ما شُهِّرَ أَظهَرَه النُّور” (أفسس 5: 12-13). من لا يؤمن يُعرض عن النور، لأنه لا يريد ان يتغيّر. أمَّا الذي يؤمن يُقبل الى النور ويمارس الحق ويكون في شركة مع الله.

21 وأَمَّا الَّذي يَعمَلُ لِلحَقّ فيُقبِلُ إِلى النُّور لِتُظهَرَ أَعمالُه وقَد صُنِعَت في الله”

تشير العبارة “أَمَّا الَّذي يَعمَلُ لِلحَقّ” الى عبارة يهودية التي تدل على تكييف السلوك بالحق، أي العمل بمشيئة الله. وفي نظر اليهود يظهر هذا الحق في الشريعة (يوحنا 7: 17)، وبلغ يسوع بالشريعة الى كمالها كما صرّح امام بيلاطس” فكُلُّ مَن كانَ مِنَ الحَقّ يُصْغي إِلى صَوتي” (يوحنا 18: 37). وقد ورد “الحق” بصيغة المفرد لأنه حياة واحدة في المسيح، التصاق بشخصه، ويُعلق القديس اوغسطينوس ” كيف تعمل الحق؟ إنك لا تدلل نفسك ولا تهادنها ولا تتملقها، ولا تقول: “إني بار”، بينما أنت غير بار؛ هكذا تبدأ تفعل الحق”. أمَّا عبارة “فيُقبِلُ إِلى النُّور “فتشير الى قول يسوع ” أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة” (يوحنا 8: 12). وتبدأ طريقة حياة جديدة عندما يترك الانسان الظلام خلفه، ويأتي إلى النور. أمَّا عبارة “لِتُظهَرَ أَعمالُه وقَد صُنِعَت في الله” فتشير الى من صنع الخير وعمل الاعمال الصالحة في حضرة الرب وبعونه ونعمته. الله هو صاحب العمل الصالح، هو الذي يعطي قوة لهذا العمل والهدف منه هو تمجيد اسمه القدوس كما تؤكده تعليم بولس الرسول “إِنَّ اللهَ هو الَّذي يَعمَلُ فيكُمُ الإِرادَةَ والعَمَلَ في سَبيلِ رِضاه” (فيلبي 2: 13). وفي هذا الصدد يوصي يسوع تلاميذه ” هكذا فَلْيُضِئْ نُورُكُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات” (متى 5: 16). الايمان بيسوع المصلوب والعمل بمشيئته ينقلنا من الخوف من الدينونة إلى التمتع بالنور الإلهي.

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 3: 14-21)

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي، يمكن ان نستنتج ان النص يتمحور بين يسوع ونيقوديمس حول ثلاث نقاط، وهي: مفهوم الايمان، والايمان بيسوع والدينونة.

1) مفهوم الايمان

الإيمان هو منبع ومركز للحياة الدينية. ولم ترد كلمة ((آمن)) אֱמוּנָה في العهد القديم إلا مرّات قليلة (يهوديت 14: 10، 2 مكابي 8: 13؛ 15: 10) إلا أن معناها يفهم ضمناً في عبارات متنوعة مثل قوله: ” تَوجَّهوا إِلَيَّ” (اشعيا 45: 22) و ” أُرجُ الرَّبَّ (مزمور 27: 14)) و ” المُعتَصِمينَ به ” (نحوم 1: 7). الايمان في المفردات العبرية في العهد القديم يعود الى أصلين: “أمان” الذي يوحي بالاستقرار، ومنها الفعل اللاتيني credere، و”בטח” الذي يوحى بالثقة ومنها الفعل اللاتيني confidere.
وفي العهد الجديد، وردت كلمة الايمان باليونانية πίστις مراراً عديدة. وهي تعني من ناحية ديانة المسيح وملكوت الله كما ورد سواء في اعمال الرسل ” كانت كَلِمَةُ الرَّبِّ تَنْمو، وعَدَدُ التَّلاميذِ يَزْدادُ كَثيرًا في أُورَشَليم. وأَخَذَ جَمعٌ كَثيرٌ مِنَ الكَهنَةِ يَستَجيبونَ لِلإِيمان”(اعمال الرسل 6: 7)، أو في تعليم بولس الرسول ” بِه نِلْنا النِّعمَةَ بِأَن نَكونَ رسولاً، فنَهدِيَ إِلى طاعَةِ الإِيمانِ جَميعَ الأُمَمِ الوَثَنِيَّة، إِكرامًا لاسمِه” (رومة 1: 5).

والايمان يعني العمل الذي يمكننا من التمسك بصحة الإنجيل ويسوع المسيح وقوتهما فينا ولنا من ناحية ، والثقة بالخلاص الذي تمَّمه المسيح نيابة عنا من ناحية أخرى كما جاء في تعليم يسوع المسيح ” فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة ” (يوحنا 3: 16)؛ من خلال خبرته يؤكد بولس الرسول هذا الكلام “فإِنِّي لا أَستَحيِي بِالبِشارة، فهي قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن، لِليَهودِيِّ أَوَّلا ثُم لِليُونانِيّ” (رومة 1: 16)

للإيمان مستويان: مستوى عاطفي ومستوى عقلي. على مستوى العاطفة، يقوم الايمان على الثقة التي تتجه نحو شخص “أمين”، وتلزم الإنسان بكليته، على مثال ابراهيم ابي المؤمنين إذ كان جلّ اعتماده على الله (رومة 4: 11). “آمن بالله” وبكلمته (تكوين 15: 6)، فأطاع هذه الدعوة، والتزم في أسلوب معيشته (تكوين 22). وأمَّا على مستوى العقل فيسعى العقل الذي تتيح له كلمة أو بعض العلامات، بلوغ حقائق لا يعاينها كما جاء في تعريف صاحب الرسالة الى العبرانيين “فالإِيمانُ قِوامُ الأُمورِ الّتي تُرْجى وبُرْهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى” (عبرانيين 11: 1). ومن هذا المنطلق، ان الإيمان على طرف نقيض من الشك كما قال يسوع لتلاميذه “الحَقَّ أَقولُ لكم: إِن كانَ لَكم إِيمانٌ ولم تَشُكُّوا”(متى 21: 21)، وأنَّ الايمان لا يلازم العيان كما يؤكِّد ذلك بولس الرسول “لأَنَّنا نَسيرُ في الإِيمانِ لا في العِيان”(2 قورنتس 5: 7).

ومن هذا نستنتج أنَّ هناك فرقا بين الاعتراف بالإيمان، وعيش الإيمان. الاعتراف بالإيمان هو على صعيد العقل واللاهوت، ويقوم على القبول العقلي والعقلاني والوجداني للإيمان، وامَّا عيش الإيمان فيقوم بالقبول الإرادي والوجودي للإيمان بعيش بالقداسة. حيث ان عيْش الإيمان دون فهمه لا يطابق طبيعتنا البشرية العقلانية، وفهم عقلانية الإيمان دون الدخول في وجدان العيش المسيحي لا ينفع شيئًا، بل يضحي نوعًا من فلسفة لا تجدي نفعًا. صدق كاتب “الاقتداء بالمسيح” عندما قال: “لا ينفعك شيئًا فهم الثالوث الأقدس إذا خلوت من التواضع الذي يجعلك مرضيًا لدى الثالوث”.

واما متطلبات الايمان فهي ثلاث أمور: اقتناع الفهم، وتسليم الإرادة وأخيرا ثقة القلب. إنما الثقة هي عمدة الإيمان، ولاسيما حينما يكون مخلصنا يسوع المسيح موضوع الإيمان. وينبغي أن تقترن ثقتنا بالإقناع التامّ بصحة أقواله وتعاليمه وإلاّ كان إيماننا باطلاً. ويؤهلنا الإيمان بالمسيح لإدراكه والتمسك به وبكل الفوائد الناجمة خاصة الحياة الأبدية “مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة ” (يوحنا 3: 16).

ولا يمكننا أن نشارك المسيح في برِّه واستحقاقاته ما لم يكن لنا إيمان به. “إِنًّ البارَّ بِالإِيمانِ يَحْيا” (رومة 1: 17، وحبقوق 2: 4). حيث اننا بالإيمان “نلبس المسيح” وبالإيمان نتبرَّر لا بالأعمال، لأنَّ خلاصنا قد تمَّمه لنا المسيح حين قال ” تَمَّ كُلُّ شَيء “(يوحنا 19: 30). وقال الرسول بولس “بِالنِّعمَةِ نِلتُمُ الخَلاصَ بِفَضلِ الإِيمان. فلَيسَ ذلِك مِنكُم، بل هو هِبَةٌ مِنَ الله” (أفسس 2: 8)؛ ويُعلق القديس باسيليوس “لا يفتخر أحد ببرِّه بل يعلم أنه مجرد من البر الحقيقي، لان الانسان يُبرَّر فقط بالإيمان بيسوع المسيح”، لذا جاء تصريح بولس الرسول “مَنِ افتَخَرَ فَلْيَفتَخِرْ بِالرَّبّ” (1قورنتس 1: 31).

لكن ” فإِن لم يَقتَرِنْ الإِيمان بِالأَعمال كانَ مَيْتًا في حَدِّ ذاتِه” (يعقوب 2: 26)، لذا يتوجب أن يكون مصحوباً بالمحبة كما ورد في تعليم بولس الرسول “وإِنَّما القِيمةُ لِلإِيمانِ العامِلِ بِالمَحبَّة ” (غلاطية 5: 6)، والأعمال الصالحة، كما جاء في قول المسيح للمرأة المنزوفة “يا ابنَتي، إِيمانُكِ خلَّصَكِ” (لوقا 8: 48)، وفي قوله للأبرص:” قُمْ فامضِ، إِيمانُكَ خَلَّصَكَ”(لوقا 17: 19) وفي قوله أيضا لأعمى أريحا: ” أَبصِرْ، إِيمانُكَ خَلَّصَكَ! “(لوقا 18: 42). وأمَّا اعمال الايمان فهي ثلاثة: الصلاةُ والصَّومُ والرحمةُ. الصلاةُ تَقرَعُ على البابِ، والصَّومُ يبتهلُ ويتوَسَّلُ، وَالرحمةُ تَنالُ. الصلاةُ والرحمةُ والصَّومُ، هذه الثلاثةُ هي أمرٌ واحِدٌ، وكلُّ واحدٍ يَسنُدُ الآخَرَ. الصَّلاةُ معَ الصَّومِ، وَالصَّدَقَةُ مَعَ البِرِّ خَيرٌ، وَهِيَ تُطَهِّرُ مِن كُلِّ خَطِيئَةٍ. وتُولِي رحمةً والحياةَ الأبديَّةَ.

2) الإيمان بيسوع المسيح

إن الانجيل الرابع هو إنجيل الإيمان. ففيه يرتكز الإيمان في يسوع وفي مجده الإلهي. وكشف يسوع في حواره مع نيقوديمس سر يسوع المسيح “المرفوع”، ابن الله الوحيد، الذي أرسله الآب لخلاص العالم. والطريق الوحيد لبلوغ هذا الخلاص هو الايمان الحقيقي بيسوع (يوحنا 3: 11-21). ولذا ينبغي علينا أن نؤمن بيسوع ” وكما رَفَعَ مُوسى الحَيَّةَ في البَرِّيَّة فكذلِكَ يَجِبُ أَن يُرفَعَ ابنُ الإِنسان لِتَكونَ بهِ الحَياةُ الأَبديَّةُ لِكُلِّ مَن يُؤمِن” (يوحنا 3: 14-15)؛ وكما حوّل بني إسرائيل المشرفون على الموت عيونهم الى الحية النحاسية ونالوا الحياة، هكذا الناس الذين تحت دينونة الخطيئة ينالون الحياة الأبدية والشفاء على يد المخلص المرفوع على الصليب. وقد تقبل يسوع موته كوسيلة لإتمام فداء العالم، ولم يُصمَّم موته بإرادة الانسان ولكن بمحبة الله الذي بذل ابنه الوحيد ذبيحة عن العالم “فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة”(يوحنا 3: 16).

ومن هذا المنطلق يتطلب الخلاص فعل إيمان تحويل أنظارنا من رؤية شرونا وخطايانا الى النظر على الصليب، النظر إليه من أجل شفائنا ونيل الحياة الأبدية منه. يقول سفر الحكمة بشكل واضح: ” كَانَ الْمُلْتَفِتُ إِلَيْهَا يَخْلُصُ، لاَ بِذلِكَ الْمَنْظُورِ بَلْ بِكَ، يَا مُخَلِّصَ الْجَمِيعِ”، والذي بموجبه كان الخلاص من السمّ يُعطى الإيمان مَنْ كان يثق بـ”رمز الخلاص” هذا (الحكمة 6: 16). وبهذا يفتخرُ بولس أنّه يزدري بِرَّ نفسِه. وإنّما يبحثُ عن البِرِّ الذي هو بالمسيحِ والذي هو من الله، عن البِرِّ في الإيمانِ، “لِيَعرِفَهُ ويَعرِفَ قدرةَ قيامتِه ويشارِكَ في آلامِه، فيصيرَ شبيهًا بموتِه، إن أرادَ منذ الآن أن يصلَ إلى قيامةِ الموتى”. “مَن افتَخَرَ فَلْيَفتَخِرْ فِي الرَّبِّ” (1 قورنتس 1: 31).
ونستنتج مما سبق أن الخلاص هو ليس أمر يمكن أن يقوم به الإنسان بمفرده، بقواه الذاتيّة، بل إنّه هبة من الربّ. والتشبيه الذي قدّمه المسيح يبرهن عن ذلك ” فالرِّيحُ تَهُبُّ حَيثُ تَشاء فتَسمَعُ صَوتَها ولكنَّكَ لا تَدْري مِن أَينَ تَأتي وإِلى أَينَ تَذهَب. تِلكَ حاَلةُ كُلِّ مَولودٍ لِلُّروح” (يوحنا 3: 8)، ان نفس اللفظة اليونانية πνεῦμα تستعمل لكلا الريح والروح. كما ان وجود الريح يُعرف بتأثيراته هكذا الروح يتبيَّن بعمله. إنه هبة ينبغي التوق إليها وطلبها.

والروح القدس وحده يملك القدرة على خلق الايمان وفتح عيون الانسان على النور العلوي “ما مِن أَحَدٍ يُمكِنَه أَن يَدخُلَ مَلَكوتَ الله إِلاَّ إِذا وُلِدَ مِنَ الماءِ والرُّوح”(يوحنا 3: 5). يدعو يسوع الانسان كي يحقِّق هذه دعوة التي تفوقه. وهذه الدعوة هي أساسية للإنسان ” مَن أَحَبَّ حياتَهُ فقَدَها ومَن رَغِبَ عنها في هذا العالَم حَفِظَها لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة” (يوحنا 12: 25)، ومع ذلك فهو لا يعرفها إلا إذا كشفها له المسيح ” إِنَّ الَّذي يأتي مِنَ عَلُ هو فَوقَ كُلِّ شَيء” (يوحنا 3: 31)، ولا يحقق هذا الدعوة إلاَّ بنعمة الروح.

ومن هذا المنطلق، الانسان بحاجة الى الروح القدس، لان هناك هوة كبيرة بين الجسد وبين الروح، بين الخليقة وبين الله، (اشعيا 31: 3) ويستحيل اجتيازها ما لم يأتِ الله بروحه لنجدة الخليقة ويُجدِّدها تجديدا كاملا. وقد تنبأ العهد القديم عن تجديد الانسان بروح الله كما جاء على لسان حزقيال النبي “(حزقيال 36: 26)؛ عندئذ يشارك الانسان في حياة سماوية ويقدر ان يفهم أمور السماء من خلال الروح القدس كما صرّح يسوع “فإِذا كُنتُم لا تُؤمِنونَ عِندَما أُكَلِّمُكم في أُمورِ الأَرْض فكَيفَ تُؤمِنونَ إِذا كلَّمتُكُم في أُمورِ السَّماء؟ (يوحنا 3: 12). كان الانسان جسديا فوُلد بالروح القدس فأصبح روحيا، لان ” مَولودُ الرُّوحِ يَكونُ روحاً” (يوحنا 3: 6). وبالولادة الروحية يتجدَّد الانسان داخليا فيصبح قادراً ان يشترك في حياة يسوع الهية.

ونستنتج ما سبق انه لا يجوز ان نكتفي على إيمان مؤسس على معجزات خارجية كما كانت حالة بعض اليهود ” آمَنَ بِاسمِه كثيرٌ مِنَ النَّاس، لمَّا رَأَوا الآياتِ الَّتي أَتى بِها. غَيرَ أَنَّ يسوعَ لم يَطمَئِنَّ إِلَيهم، لِأَنَّه كانَ يَعرِفُهم كُلَّهم ” (يوحنا 3: 23-24) وكما هي أيضا حالة نيقوديمس كما صرّح هو نفسه ليسوع ” راِّبي، نحنُ نَعلَمُ أَنَّكَ جِئتَ مِن لَدُنِ اللهِ مُعَلِّماً، فما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَأَتِيَ بِتِلكَ الآياتِ الَّتي تَأتي بِها أَنتَ إِلاَّ إِذا كانَ اللهُ معَه” (يوحنا 3: 2). لان يسوع يطلب إيماناً ينمو في معرفة يسوع غير المنظور كما صرّح بطرس الرسول ليسوع ” نَحنُ آمَنَّا وعَرَفنا أَنَّكَ قُدُّوسُ الله” (يوحنا 6: 69) وفي تأمله كما قالَ يسوع لمرتا اخت لعازر الذي اقامه من القبر: “أَلَم أَقُلْ لَكِ إِنَّكِ إِن آمَنتِ تَرينَ مَجدَ الله؟” (يوحنا 11: 40).

بالرغم من الإيمان، في الواقع، يحتاج إلى رؤية “آمَنَ بِاسمِه كثيرٌ مِنَ النَّاس، لمَّا رَأَوا الآياتِ الَّتي أَتى بِها” (يوحنا 2: 23)، وإلى لمس كما قالَ يسوع لِتوما: “هَاتِ إِصبَعَكَ إِلى هُنا فَانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي، ولا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِناً” (يوحنا 20: 27)، الا انه يجب أن يبلغ إلى الحقيقة غير المرئية لمجد يسوع، دون ما حاجة إلى رؤية العلامات الكثيرة التي تُظهره كما قال يسوع لعامل الملك في كفرناحوم “إِذا لم تَرَوا الآياتِ والأَعاجيبَ لا تُؤمِنون؟” (يوحنا 4: 48). فالإيمان بالسيد المسيح ليس عقيدة نظرية مجردة، بل اتحاد عملي معه وشركة، وقد أكد السيد المسيح ذلك بقوله ” الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن سَمِعَ كَلامي وآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فلَه الحَياةَ الأَبَدِيَّة ولا يَمثُلُ لَدى القَضاء بلِ انتَقَلَ مِنَ المَوتِ إِلى الحَياة” (يوحنا 5: 24).

ويركز يوحنا الإنجيلي على نتائج الإيمان غير المنظورة. فمن يؤمن لن تكون ثمة دينونة (5: 24). فهو قائم من الموت منذ الآن (يوحنا 11: 25-26)، وهو يسلك طريقه في النور (يوحنا 12: 46)، ويتمتع بالحياة الأبدية (يوحنا 3: 16). وعلى العكس، من لا يؤمن فقد حكم عليه مقدماً (يوحنا 3: 18). وحيث أن الايمان هو انضمام الانسان بثقة الى شخص يسوع، فهو الشرط الوحيد لنيل الحياة الابدية، في حين أن رفض الايمان يترك الإنسان بلا حماية أمام الدينونة. على هذا النحو، للإيمان دورٌ في الاختيار بين الموت والحياة، بين النور والظلام وبالتالي في الدينونة (يوحنا 3: 19-21). إنه اختيار أساسي به تتعلق حياة او موت كل إنسان. إنه “نعم” الانسان لدعوته الإلهية في المسيح بواسطة الروح القدس. ولهذا السبب، يستطيع يسوع ان يختم كلامه محدداً مجيئه الى هذا العالم بدينونة ” مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد”(يوحنا 3: 18).

3) الدينونة
الدينونة هي جزء لا يتجزأ من قانون الإيمان المسيحي حيث ان كل إنسان يظهر أمام الرب ليقدِّم حساباً عن أعماله كما جاء في تعليم بولس الرسول “لابُدَّ لَنا جَميعًا مِن أَن يُكشَفَ أَمرُنا أَمامَ مَحْكَمةِ المسيح لِيَنالَ كُلُّ واحِدٍ جَزاءَ ما عَمِلَ وهو في الجَسَد، أَخيرًا كانَ أَم شَرًّا. (2 قورنتس 5: 10). ويتنبأ دانيال النبي أن الدينونة الاخيرة التي ستختتم الزمن وتفتتح ملكوت ابن البشر الأبدي (دانيال 7: 9-12).

ويؤكد إنجيل يوحنا ان يسوع قد أقيم من الآب دياناً في اليوم الأخير بوصفه ابن الإنسان (يوحنا 5: 26-30). “مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد”(يوحنا 3: 18). في حضرة المسيح-النور تنكشف القلوب، ويتميز بعضها عن بعض، تبعا لإيمانها او لجحودها، لان الانسان قادر ان يفصل الشر على الحقيقة، والظلمة على النور. وفي هذا الصدد قال يسوع “كُلُّ مَن يَعمَلُ السَّيِّئات يُبغِضُ النُّور فلا يُقبِلُ إِلى النُّور لِئَلاَّ تُفضَحَ أَعمالُه”(يوحنا 3: 20). وبالعكس من يطابق سلوكه مع متطلبات الحقيقة الإلهية، وأعماله مع إرادة الله فأنه ” يَعمَلُ لِلحَقّ فيُقبِلُ إِلى النُّور لِتُظهَرَ أَعمالُه وقَد صُنِعَت في الله ” (يوحنا 3: 21).

إلا أن الدينونة في الواقع ستحقق منذ اللحظة التي يرسل فيها الآب الابن إلى العالم. وقد بدأت الدينونة مع الساعة التي ظهر فيها يسوع في العالم، وتتم الدينونة فوراً: فمن يؤمن لا يُدان، ومن لا يؤمن فقد يُدان، لأنه رفض النور (يوحنا 3: 18-20). اما دينونة الأزمنة الأخيرة هفي حاضرة منذ تلك الساعة، وإن كان ينبغي انتظار عودة المسيح المجيدة، حتى نراها متمّمة في ملئها.

وهذا لا يعني أن الله أُرسل ابنه يسوع ليدين العالم، بالأحرى ليخلصه (يوحنا 3: 17). ولكن تبعاً للموقف الذي يختاره كل واحد تجاه المسيح. والدينونة عبارة عن الموقف الّذي يختاره كلّ منّا لنفسه عندما يرفض حقيقة إله يُخلّص، بموته على الصليب من أجل الجميع. الدينونة إذاً هي كشف خطايا القلوب البشرية، أكثر منها حكم إلهي. فالقوم الذين أعمالهم شريرة، يفضّلون الظلام على النور (3: 9-20)، حيث يترك الله هؤلاء الناس المكتفين بذواتهم، على عماهم، هؤلاء الذين يفتخرون بأنهم يرون الأمور بوضوح. وأمَّا الآخرون، فيأتي يسوع ليشفي عيوبهم (يوحنا 9: 39)، حتى إذا ما عملوا للحق، يقبلون إلى النور (يوحنا 3: 21).

أن موت يسوع يعني إدانة العالم وهزيمة إبليس (يوحنا 12، 31)؛ إنه ابتداءً من هذه اللحظة يستطيع أن يرسل لخاصته الروحٍ القدس الذي دون ما انقطاع، يُبكت العالم، معلناً أن رئيسه حُكم عليه بالهلاك (يوحنا 16: 8 و11). وحدَد الله يوماً ليدين العالم فيه بعدل بالمسيح الذي أقامه من ببن الأموات (أعمال 17: 31). وسيدين الله كل واحد بحسب أعماله، دون ما محاباة للوجوه (1 بطرس 1: 17). وسيقع تحت وطأة هذه الدينونة الصارمة: الزناة والفسّاق (عبرانِيين 13: 4)، وكل الذين يكونون قد رفضوا أن يؤمنوا، والذين تحيزوا للشر (2 تسالونيقي 2: 12)، والمنافقون والمعلمون الكذبة (2 بطرس 2: 4-10)

والمسيح هو الذي سيقوم إذ ذاك بوظيفة ديان الأحياء والأموات (2 طيموتاوس 4: 1). ولكنّ الويل لمن يكون قد أدان القريب “فلا عُذر َلَكَ أَيًّا كُنتَ، يا مَن يَدين، لأَنَّكَ وأَنتَ تَدينُ غَيرَكَ تحكُمُ على نَفْسِكَ، ونحنُ نَعلَمُ أَنَّ قَضاءَ اللهِ يَجْري بالحَقِّ على الَّذينَ يَعمَلونَ مِثلَ هذِه الأَعمال” (رومة 2: 1-3)؟ إنه سيُدان هو نفسه طبقاً للمقياس الذي طبّقه على الآخرين “فَما بالُكَ يا هذا تَدينُ أَخاكَ؟ ومما بالُكَ يا هذا تَزدَري أَخاكَ؟ سَنمثُلُ جَميعًا أمامَ مَحكَمَة … إِنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَّا سيُؤدِّي إِذًا عن نَفْسِه حِسابًا لله.” (رومة 14: 10-12).

الخلاصة

بعد ان كشف يسوع عن الحياة الجديدة من خلال الخمرة جديدة في عرس قانا الجليل (يوحنا 2: 1-12) وهيكل جديد (يوحنا 2: 13-22)، كان لا بُد من الكشف عن الانسان الجديد، وذلك في حوار مع نيقوديمس. وقد جذب هذا الحوار كثيرين من غير المؤمنين إلى الإيمان المسيحي. إذ من خلال هذا الحوار يتعرف الانسان على الإمكانيات الجديدة الموهوبة له. إن الله في محبته للجميع لا يترك الناس الذين نعتبرهم بعيدي المنال ولا يمكن الوصول إليهم، إنما يعمل على تغييرهم. ويؤكّد الحوار ان العلاج مُتوفّر، ويقوم بالنظر بإيمان إلى ابن الإنسان المرفوع على الصليب.

يركز يوحنا الإنجيلي على هذا الإيمان ليحمل قرّائه على أن يشاركوه فيه بان “يسوع هو المسيح، ابن الله” (20: 31)، وعلى أن يصيروا أبناء الله بفضل الإيمان “بالكلمة” المتجسد المتألم من اجلنا على الصليب (1: 9-14). وإن اختيار الإيمان يظل ممكناً خلال شهادة يوحنا الراهنة (1 يوحنا 1: 2-3). وشهادة بولس الرسول (رومة 8: 31-39).

وازاء الصعوبات، يحث كتابُ الرؤيا المؤمنين على “الصبر وعلى التزام أمانة القديسين” حتى الموت (رؤيا 13: 10). وتقوم هذه الأمانة في أساسها على الإيمان الفصحي فمن يستطيع القول: “كنت ميتاً وهاءنذا حيّ أبد الدهور؟” (1: 18). ومن ثم فالإيمان الفصحي هو الذي سيعلن أيضاً “هذا هو الانتصار الذي غلب العالم: إنه إيماننا” (5: 4). ويوم ينتهي دور الإيمان، “سنرى الله كما هو” (1 يوحنا 3: 2)،

دعاء

ربِّي وإلهي، انزع منّي كل ما يُبعدني عنك. ربِّي وإلهي، امنحني كل ما يُقرِّبني منك. ربِّي وإلهي حررني من نفسي واجعلني بكليتي لك.

“أيّها الربّ يسوع المسيح، حمل لنا موتك على الصليب الحياة والشفاء والمغفرة. علّ محبّتك تلتهمنا وتحوّل حياتنا بحيث أنّ نتمكّن من الرغبة فيك فوق كلّ شيء آخر. ساعدنا أن نحبّ ما تحبّ أنت، ونرغب ما ترغب أنت، ونرفض ما ترفض أنت. يا مريم أمّي، شفاء المرضى وملجأ الخطأة، إشفينا من لدغات الشرّير. آمين”.

قصة: متحف الرسومات الفنية

يُروى أنّ زائراً قام بزيارة معرض كبير من معارض الفنّ لنخبة من روائع الرسّامين. وكانت تُعرض هناك قطع خالدة، آية في الإبداع، ولا تُقدّر بثمن. وأمام كلّ واحدة منها، كان يقف الدليل، شارحاً للزائر تاريخها، ونقاط الروعة فيها. حتّى ما إذا انتهى الزائر من جولته، التفت إلى مُحدثه وقال: “إنّني لا أهتمّ بواحدة من هذه الصور البالية الّتي تعرضونها”، وجاء جواب الرجل في هدوء: “أحبّ أن أذكر يا سيّدي أنّ هذه التحف قد اجتازت الامتحان منذ أمد طويل. وها هي تمثّل هنا لا يُحكم عليها، بل لتحكم هي على من يتأمّلها”. إنّ تصرّف هذا الإنسان، يحكم عليه ويظهر جهله وعماه. هكذا إنّ الربّ لا يتقدّم لدينونة الإنسان، بل اتّجه له بروح الحبّ. ولكن لإنسان هو الّذي حكم على نفسه بنفسه. هو الّذي دان نفسه بتصرّفه. إنّ تفاعل الإنسان تجاه الربّ يسوع المسيح، هو الّذي يكشف حقيقته.

قصة وعبرة: إنقاذ قطة من البحيرة
رأى رجل قطة في ماء البحيرة تحاول الخروج من الماء ولا تنجح، لأنّ الرصيف على شاطئ البحيرة مرتفع. فمدّ الرجل يده لينتشل القطة من الماء فخدشته الهر. مدّ يده ثانيةً وثالثة ورابعة، والقطة تخدشه في كلّ مرّة. فقال له شخص كان يراقب المشهد: لقد حاولتَ إنقاذها مرارًا وهي تخدشك وتؤذيك. دعها تهلك ولا تكترث لها. أجابه الرجل: أن تخدشني فهذا طبعها وأخلاقها وأن أسعى بإلحاحٍ إلى إنقاذها فهذا طبعي وأخلاقي.
المسيح هو هذا الرجل، والقطة تمثل نحن البشر. لقد مدّ ولا يزال يمدّ يده ليخلّصنا، ونحن صلبناه ولا نزال نصلبه كجوابٍ على مبادرته. المسيح أتى ليخلّصنا، ولكنّنا صلبناه، ومع ذلك خلّصنا.