Liturgical Logo

الارشاد الاخوي في الكنيسة (متى 18: 15-20)

الأب لويس حزبون

يُسلط إنجيل الاحد الأضواء على خطاب يسوع الرابع والاخير في انجيل متى حيث يدعو يسوع تلاميذه الى الإصلاح عن طريق الارشاد الاخوي بمحبة كونها أهم ملامح طريق ملكوت السماوات. (متى 18: 15-20). والغاية من الاصلاح ان يعود أخوك الخاطئ الى الجماعة المجتمعة باسم المسيح لتصلي وإياه معاً. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الانجيلي (متى 18: 15-20)
15 ((إذا خَطِئَ أَخوكَ، فَاذهَبْ إِليهِ وَانفَرِدْ بِه ووَبِّخْهُ. فإِذا سَمِعَ لَكَ، فقَد رَبِحتَ أَخاك.
لا تشير عبارة “خَطِئَ” الى إهانة شخصية، بل الى خطيئة تُبعد الأخ عن الجماعة. وهناك ترجمة أخرى ممكنة” إِذا خَطِئَ اخوك اِلَيكَ: تستند الى بعض المخطوطات: كما ورد في انجيل لوقا ” إِذا خَطِئَ إِلَيكَ” (لوقا 17: 4). فان إضافة “اليك” تفسر الفقرة بمعنى ذي طابع فردي ما ورد في العهد القديم ” لا تُبغِضْ أَخاكَ في قَلبِكَ، بل عاتِبْ قَريبَكَ عِتاباً، فلا تَحمِلَ خَطيئَةً بِسَبَبِه”(احبار 19: 17)؛ اما عبارة ” أَخوكَ” فتشير الى القريب وخصوصا الى الأخ المسيحي (اعمال الرسل 1: 15)، وكانت هذه التسمية معروفة في الدين اليهودي للدلالة على أعضاء شعب الله. اما عبارة ” فَاذهَبْ إِليهِ ” فتشير للذهاب للمخطئ ولا ننتظر مجيئه. لماذا؟ يجيب القديس يوحنا الذهبي الفم: “لأنه ليس بالأمر السهل أن يذهب من ارتكب الخطأ ليعتذر لأخيه او للجماعة وذلك بسبب خجله وارتباك وجهه” وذلك اقتداءً بالسيِّد المسيح نفسه، فقد جاء إلينا من السماء ليعاتبنا بالحب. أمَّا عبارة “َانفَرِدْ بِه” فتشير الى البحث عنه لتصحِّح خطأه خفية. ويعلق القديس اوغسطينوس ” فإن أردت توبيخه أمام الجميع فأنت لا تكون مصلحًا لأمره بل فاشيًا للسر”. اما عبارة ” وَبِّخْهُ ” باليونانية ἔλεγξον بمعنى عاتبه فتشير الى ان تُبيّن وتُثبت الامر أمامه وتقنعه وهذا هو عمل الروح القدس بحسب انجيل يوحنا “أَخْزى ἐλέγξειالعالَمَ على الخَطيئِة”(يوحنا 16: 8) ؛ اما عبارة ” رَبِحتَ ” فلا يُراد به الربح للإيمان، ولا المحافظة على إنسان في عداد الأصدقاء، بل استبقاءه بين أعضاء الجماعة التي أوشك ان يتركها او يهجرها او يُفصل عنها.
16وإِن لم يَسمَعْ لَكَ فخُذْ معَكَ رجُلاً أَو رَجُلَين، لِكَي يُحكَمَ في كُلِّ قضِيَّةٍ بِناءً على كَلامِ شاهِدَينِ أَو ثَلاثة.
تشير عبارة ” لم يَسمَعْ لَهما ” الى الرفض اما عبارة ” فخُذْ معَكَ رجُلاً أَو رَجُلَين ” فلا تشير الى تأكيد خطأه والشهادة ضدّه وإنما لإقناعه وبالتالي حمايته. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم” ألا ترى كيف أنه يفعل هذا ليس من أجل العقوبة العادلة، وإنّما بقصد الإصلاح”. اما عبارة ” رجُلاً أَو رَجُلَين ” فتشير الى شاهدين يدلان على خطأ الخاطئ فيفهم ان شهادتهما صحيحة. اما عبارة ” يُحكَمَ في كُلِّ قضِيَّةٍ بِناءً على كَلامِ شاهِدَينِ أَو ثَلاثة ” فتشير الى ما ورد في سفر تثنية الاشتراع ” لا يَقومُ شاهِدٌ واحِدٌ على أَحَدٍ في أَيِّ إثْمٍ وأَيَّةِ خَطيئَةٍ يَرْتَكِبُها، ولكِن بِقَولِ شاهِدَينِ أَو ثَلاثَةِ شُهودٍ تَقومُ القَضِيَّة” (تثنية الاشتراع 19: 15). فهذا المبدأ العادل والمعقول في الشريعة الموسوية، نقله السيد المسيح الى العهد الجديد، وأثبته لخير الكنيسة المسيحية.
17فإِن لم يَسمَعْ لَهما، فأَخبِرِ الكَنيسةَ بِأَمرِه. وإِن لم يَسمَعْ لِلكَنيسةِ أَيضاً، فَلْيَكُنْ عندَكَ كالوثَنِيِّ والجابي.
تشير عبارة ” فأَخبِرِ الكَنيسةَ بِأَمرِه ” الى سلطان المفاتيح الذي منحه بطرس (متى 16: 19)، لا كمن يشتكيه أمام المحكمة، وإنّما كمن يُخبر، لتهتم به الكنيسة وتعالجه بحكمة. اما عبارة “الكنيسة” باليونانية ἐκκλησία بمعنى جماعة مختارة وبالعبرية הַקָּהָל فتشير إما الى هيئة الرسل، او التلاميذ الاولين حول يسوع، او جماعة متّى، (متى 16: 19) وإمّا لجماعة المؤمنين او كنيسة الأمم في اورشليم؛ اما عبارة ” لم يَسمَعْ لِلكَنيسةِ أَيضاً ” فتشير الى “مرضه قد صار غير قابل للشفاء” كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم. اما عبارة ” فَلْيَكُنْ عندَكَ كالوثَنِيِّ والجابي” فتشير الى أولئك الذين لا يُقبلون في الكنيسة كشخص محتقر، بل مجرّد شخص هو في خارج الجماعة. فبرفضه الكنيسة يَحرم الإنسان نفسه من العضويّة في جسد المسيح، ويصير من حق الكنيسة أن تربطه ويُسلم امره الى رحمة الله. فالكنيسة لم تعد مسؤولة عنه، ولم تعد تهتم به. ان المخطئ العنيد يُقطع على الأقل مؤقتاً من الشركة المسيحية يصبح خارج الكنيسة فلا يعود للكنيسة من سلطة عليه. هذا هو اساس الحرم. ويعلق القديس كبريانوس بقوله ” لكن كيف يمكن أن يوجد اتِّفاق مع شخص لا يتّفق مع جسد الكنيسة نفسها والأخوة الجامعة؟”.
18 ((الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء)).
تشير عبارة “ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء” الى سلطة موجّهة لكل التلاميذ، وهي سلطة اوليت قبلا الى سمعان بطرس ” وسأُعطيكَ مَفاتيحَ مَلَكوتِ السَّمَوات. فما رَبَطتَهُ في الأَرضِ رُبِطَ في السَّمَوات. وما حَلَلتَه في الأَرضِ حُلَّ في السَّمَوات “(متى 16: 19). ان المقصود هو سلطان غفران الخطيئة او رفضه كما جاء في تعليم يوحنا الرسول “مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم (يوحنا 20: 23)؛ وتلتزم الكنيسة أن تربطه ليس تشفيًا فيه، وإنما لحفظ بقيّة الأعضاء من فساده لئلا يتسرب إليهم. والجدير بالذكر ان السيِّد يتكلم عن الربط أولًا فالحَل، حتى يعطي للمربوطين رجاءً في الحَل، إذ يتحدّث السيِّد عن ربط الإنسان الرافض للكنيسة وحله متى رجع إليها بالتوبة. أمَّا عبارة ” َ في السَّماء” فتشير الى منح الله الحل من السماء ليؤيِّد الرسل في نظر شعبه.
19 ((وأَقولُ لكم: إِذا اتَّفَقَ اثنانِ مِنكم في الأَرضِ على طَلَبِ أَيِّ حاجةٍ كانت، حَصلا علَيها مِن أَبي الَّذي في السَّمَوات.
تشير عبارة ” إِذا اتَّفَقَ اثنانِ مِنكم في الأَرضِ على طَلَبِ أَيِّ حاجةٍ كانت، ” الى الصلاة الجماعية التي تتم داخل الكنيسة، وهي من مواعيد الانجيل العظيمة بخصوص الصلاة كما ورد في انجيل يوحنا “إِذا ثَبَتُّم فيَّ وثَبَتَ كَلامي فيكُم فَاسأَلوا ما شِئتُم يَكُنْ لَكم” (يوحنا 15: 7). كما تشير العبارة الى كل عمل جماعي مثل الإصلاح الاخوي، إن الوعد قد أعطي، بنوع خاص لجماعة المؤمنين والمسيح في وسطهم وذلك من منطلق صلة هذه الآية (متى 18:19) بالآيات السابقة (متى 18:18 واللاحقة (متى 18: 20). ويعلق القديس أمبروسيوس” إن كان الرب يقول إنه إذا اتّفق اثنان معًا على الأرض في أي شيء يطلبانه يُعطى لهما… فكم بالأحرى إن اجتمعت كل الجماعة معًا باسم الرب؟”.
20فَحَيثُما اجتَمَعَ بِاسمِي، كُنتُ هُناكَ بَينَهم)).
تشير عبارة “بِاسمِي ” الى النيابة عن الآب، باسم الابن، أي مطالبين بسلطان السيد المسيح ومستخدمينه. ان متى الإنجيلي يربط سلطان الحل والربط بحضور المسيح بين خاصته؛ اما عبارة “كُنتُ هُناكَ بَينَهم” فتشير الى وعد يسوع قبل صعوده الى السماء ” وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم ” (متى 28: 20). وهذا النص قوي وهو تكرار لعبارة معروفة في الدين اليهودي، وردت في اقوال أحد الربانيين” ان اجتمع شخصان وتلا اقوال الشريعة، كانت שכינה‎‎) (حضور الله المقدس) بينهما. ” هذه طريقة استعملها يسوع معلناً ان “الله حاضر بيننا”. إن الوعد قد اعطي بنوع خاص لجماعة المؤمنين والمسيح ببنهم، وذلك لتأديب أخٍ مخطئ “فإِن لم يَسمَعْ لَهما، فأَخبِرِ الكَنيسةَ بِأَمرِه. وإِن لم يَسمَعْ لِلكَنيسةِ أَيضاً، فَلْيَكُنْ عندَكَ كالوثَنِيِّ والجابي” (متى 18: 17)، وان سلطتهم لعمل ذلك تكررت “ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء “(متى 18: 18). ان هذه الجماعة تستند في آخر الامر الى حضور المسيح في وسطهم.
ومن المرجح أن المراد بكلمة يسوع هذه لا يقتصر على الوعد بحضوره لكل صلاة تُقام باسمه وهذا أمر بديهي، بل هو تشجيع جميع محاولات النصح والمصالحة بين الاخوة في حضن الكنيسة وهما لا يتحقّقان إلا باسمه. فوضع قوانين واولى سلطات لتقى هذه الجماعة متماسكة إن عرّضتها الخطيئة للدمار.

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 18: 15-20)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 18: 15-20)، نستنتج انه يتمحور حول الارشاد الاخوي في الكنيسة وأهميته في صلاة الجماعة.
1) الارشاد الاخوي
في خطاب يسوع الرابع والأخير في إنجيل متى يوصي يسوع تلاميذه بعدم احتقار الخروف (الأخ) الضال بل القيام بالإصلاح الأخوي (متى 18: 15-20) الذي هو من أهم قواعد الحياة المسيحية الأساسية. لان الكنيسة ليست مكوًنة من جماعة ابرار فقط بل من جماعة خاطئين ايضاً. والغاية من الإصلاح أن تعود بأخيك إلى الجماعة المجتمعة باسم المسيح لتصلي وإياه معاً. ومن هنا تأتي أهمية البحث في الارشاد الأخوي، وأهميته في صلاة الجماعة. ويقوم الارشاد الأخوي بحسب تعاليم المسيح في إنجيل متى على ثلاثة خطوات:
الخطوة الأولى: الارشاد الفردي
“إذا خطئ أخوك، فاذهب إليه وانفرد به ووبّخه. فإِذا سمع لك، فقد ربحت أخاك” (متى 18: 15). يطالب يسوع في هذه الآية إلى عدم الفصل الفوري للخاطئ، بل يوصي بألا نتحول عنه في استياء وبغض والأخذ بالثأر بذكر أخطائه في غيابه وتشهيره أمام الآخرين أو أن نذيع عنه الاشاعات، فهذا لا يعتبر إصلاحاً بل نميمة واغتياب وكراهية. ويعلق القديس أوغسطينوس ” لكي نستطيع أن نتمِّم ما قد أُمرنا به يسوع اليوم يلزمنا قبل كل شيء ان نبتعد عن الكراهية، لأنه عندما لا تكون هناك خشبة في عينك تقدر أن ترى حقًا ما بعين أخيك، وتكون متضايقًا حتى تُزيل عن عين أخيك ما تكرهه. النور الذي فيك لا يسمح لك بإهمال نور أخيك. أمّا إن حمَلتَ فيك كراهيّة، وتريد إصلاحه، فكيف تصلح نوره وأنت فاقد النور! إذ يقول الكتاب المقدّس: “كُلُّ مَن أَبغَضَ أَخاه فهو قاتِل” (1يوحنا 3: 15). كما يقول أيضا من ” مَن يُبغِضُ أَخاه لم يَزَلْ في الظَّلام إِلى الآن” (1 يوحنا 2: 9). فالبغض إذن هو ظلمة، فمن يكره الآخرين إنّما يُضر نفسه أولًا، مفسدًا داخله”. لقد أراد السيِّد أن يدخل بتلاميذه إلى حياة الارشاد، بعيدًا عن روح الانتقام، فلانتقام ينزع عنك عطيّة الله العُظمى، والكراهيّة التي تحجبنا عن ملكوت السماوات. وفي الوقت نفسه يتوجب علينا ان لا نتهرب من مسؤوليتنا ونجيب الله بنفس جواب قاين عندما سأله أين أخوك فأجاب “أَحارِسٌ لأَخي أَنا؟” (التكوين 4: 9)
ومن هذا المنطلق إن يسوع يطالب الأخ الذي لاحظ “خطيئة” أخ آخر، عليه ان يذهب إليه ويواجهه وجهاً لوجهٍ على انفراد ويعاتبه “لأن العِتاب صابونُ القلب”. فمن الضروري ان يتوصل الاخ المخطئ ان يعرف اخطاءه ويعي على حقيقة الشر الذي يسكن فيه، وهذا الامر يُعد خطوة الضرورية للمصالحة وعودته للوحدة مع جماعته. لان الشر يكمن مستتراً فعمل الروح القدس من خلال الأخ المؤمن يسعى ان يفضحه ويكشفه امام ضمير الأخ الخاطئ. لذلك يقوم بنصحه بسرية وتكتم للحفاظ على سمعته وشرفه ليتيح له الفرصة لاستعادة العلاقة مع الجماعة. والسرية هنا هامة لعودة الصفاء، اما التشهير فبمن أخطأ يزيده عناداً. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم ” لم يقل السيد: اذهب اتَّهمه أو انصحه أو أطلب منه تصفية الحساب معه، وإنما (عاتبه) مخبرًا إيّاه بخطئه، وما هذا إلا تذكيره بما أخطأ به”. كما يقول البابا فرنسيس في زيارته الى كولومبيا “إنّ المسامحة لا تُفرَض، بل يجب أن تولد من القلب”. فكلمة “أخوك” هو الأخ القريب وخاصة الأخ المؤمن. وفعل “وبّخه” لا بمعنى أنه يودّ تأكيد خطأه، أو ينتظر أن يعتذر له، إنما يخاطبه لثقته بمحبته مبيناً الأمر أمامه مع لومه لخطيئته لكي يعطي له الفرصة لمراجعة نفسه بلا عناد؛ ليحمله إلى التوبة للربّ لا للاعتذار ولكي ينقذه من الخطأ ويربحه كعضوٍ معه في ذات الجسد، جسد المسيح السري. وفي هذا الصدد قال بولس الرسول ” وهذا كُلُّه مِنَ اللهِ الَّذي صالَحَنا بِالمسيح وأَعْطانا خِدمَةَ المُصالَحَة، ذلك بِأَنَّ اللهَ كانَ في المَسيحِ مُصالِحًا لِلعالَم وغَيرَ مُحاسِبٍ لَهم على زَلاَّتِهم، ومُستَودِعًا إِيَّانا كَلِمَةَ المُصالَحَة” (2 قورنتس 5: 18-19).
أما كلمة ربحت فلا يُراد به الربح للإيمان، ولا المحافظة عليه في عداد الأصدقاء، بل استبقاؤه بين أعضاء الجماعة المؤمنة التي أوشك أن يهجرها أم يُفصل عنها. فكل اخٍ هو خير لا يقدّر ولا يعوّض، لذا لا يجوز فقدانه بكل سهولة وخفة فعودته الى الجماعة يحقق وعد المسيح القائم ” فَحَيثُما اجتَمَعَ بِاسمِي، كُنتُ هُناكَ بَينَهم”(متى 18: 20).
فالمسيحيون بحكم انتمائهم إلى الرب، هم رقباء بعضهم على بعض ليصونوا وحدة الجماعة. والرقيب هو من راقب الناس ليصلح ما فسد. فكما أقام الله حزقيال النبي رقيباً لآل إسرائيل كذلك أقامنا يسوع رقيباً واحد للآخر لكي ننذر عنه المنافق بطريقه ليتوب لئلا يموت بإثمه. “فان لم يتب عن طريقه فهو يموت في إثمه، لكنك تكون قد خلصت نفسك” (حزقيال 33: 8). وجاء في رسالة القديس يعقوب ما يؤكد ذلك: “يا إخوتي، إن ضلّ بعضكم عن الحق ورده أحد إليه، فاعلموا أن من ردّ خاطئاً عن طريق ضلاله خلّص نفسه من الموت وستر كثيراً من الخطايا” (يعقوب 5: 19-20). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم “إنّ المسيح لم يقل إنك تنال انتقامًا كافيًا بل تربح أخاك، مظهرًا وجود خسارة مشتركة لك وله بسبب العداوة، إذ لم يقل “يربح نفسه” بل “تربح (أنت) نفسه” مظهِرًا أن الخسارة قد لحقت قبلًا بالاثنين، الواحد خسر أخاه والآخر خسر خلاصه” كما يقول حزقيال النبي: “إِذا أَنذَرتَ الشَريرَ بِطَريقِه لِيَرجِعَ عنه ولم يَرجِعْ عن طَريقِه، فهو يَموتُ في إِثمِه، لكِنَّكَ تَكونُ قد خلَصتَ نَفْسَكَ “. (حزقيال 33: 9).
الخطوة الثانية: الارشاد مع شهود
“وإن لم يسمع لك فخذ معك رجلاً أو رجلين من ذوي السمعة الطيبة والخبرة والحكمة في حل المشاكل لكي يُحكم في كل قضية بناءً على كلام شاهدين أو ثلاثة” (متى 18: 16). هذه العبارة مقتبسة من العهد القديم “لا يَقومُ شاهِدٌ واحِدٌ على أَحَدٍ في أَيِّ إثْمٍ وأَيَّةِ خَطيئَةٍ يَرْتَكِبُها، ولكِن بِقَولِ شاهِدَينِ أَو ثَلاثَةِ شُهودٍ تَقومُ القَضِيَّة” (تثنية الاشتراع 19: 15). فهذا المبدأ العادل نقله الرب إلى العهد الجديد وأثبته لخير الكنيسة. بعد المحاولة الأولى الفردية لإقناع الخاطئ لا بدّ من محاولة أخرى أمام شاهدين. فالشاهدان يدلان على خطأه فيدرك أن شهادتهما صحيحة.
وهذه الخطوة تعلمنا ان لا نستسلم امام الفشل، ولا ان نلجأ الى الاجراءات التي تدين الخاطئ بقسوة قبل استخدام كافة الطرق الأخرى، بل علينا ان نحترس من الحكم على الشخص اعتباطًا وباطلاً وان نواصل عملية إنقاذ “الأخ” بمساعدة الاخرين للعودة الى شركة الجماعة. وقد سبق السيد المسيح وقال للمخطئ لا تقدم قربانك على المذبح قبل أن تصطلح مع أخيك ” إِذا كُنْتَ تُقَرِّبُ قُربانَكَ إِلى المَذبَح وذكَرتَ هُناكَ أَنَّ لأَخيكَ علَيكَ شيئاً، فدَعْ قُربانَكَ هُناكَ عِندَ المَذبح، واذهَبْ أَوَّلاً فصالِحْ أَخاك، ثُمَّ عُدْ فقَرِّبْ قُربانَك”(متى 23:5-24). إن هذه الآيات تبدو موجّهة الى تخفيف من حماسة بعض المسيحيين المُطالبين بالفصل الفوري للخاطئ وان نحترم إرادته عندما يصرّ على خطأه ونقوم نحن بالتواصل معه دون كلل ولا نتركه في الشر والفساد، بل ان نمضي في طلبه لكيلا يهلك بل نعيده الى شركة الجماعة كما أعاد يسوع الخروف الضال الى الحضيرة (متى 18: 12-14).
الخطوة الثالثة: الارشاد مع الكنيسة
“فإن لم يسمع لهما، فأخبر الكنيسة بأمره. وإِن لم يسمع للكنيسة أيضاً، فليكن عندك كالوثنيّ والجابي” (متى 18: 17). الخطوة الثالثة هي لفت نظر الكنيسة في حالة رفض الارشاد مع الشهود وترك الامر لحكم الجماعة أي الكنيسة لكي تَصفَح عنه وتُشَجِّعه” مَخافَةَ أَن يَغرَقَ في بَحْرٍ مِنَ الغَمّ” (2 قورنتس 2: 7). وتقوم الكنيسة بالإصلاح بناءً على السلطة المفوضة لها من قبل سيدنا يسوع المسيح “الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء)). (متى 18: 18) فليس للكنيسة هدفٌ إلا إحقاقِ الحق وانصافِ المظلوم ومُصالحةِ الناس. في هذه الحالة من المفروض أن يقبل الطرف المخطئ بالحل ويتم الصلح.
وإذا رفض المخطئ ارشاد الكنيسة، عندئذٍ يتحملُ مسؤولية قراره، إذ يضع نفسه خارج الجماعة برفضه المتكرر. عندئذٍ تعتبره الكنيسة كالوثني والعشار، وهذا موقف قوي وقاسٍ جداً، إذ أن اليهود في عقلية ذلك الزمان كانوا يحتقرون الوثنيين لأنهم “يقتفون الباطل”(ارميا 2: 2-5) ولا يتفقون مع الايمان الذي ينتظره الله من ذويه (2 مكابين 6: 18) كما أنهم كانوا يحتقرون العشارين ووصفوهم بالقسوة والظلم فمنعهم الشعب من دخول هيكله او مجامعه ومن الاشتراك في الصلاة والحفلات (لوقا 3: 12). وهكذا كانت الكنيسة تمنع الخاطئ العنيد من شركتها والاشتراك في الأسرار. وامثلة لذلك موجودة في تعليم بولس الرسول “كَتَبتُ إِلَيكُم أَلاَّ تُخالِطوا مَن يُدْعى أَخًا وهو زانٍ أَو جَشِعٌ أَو عابِدُ أَوثان أَو شَتَّامٌ أَو سِكِّيرٌ أَو سَرَّاق. بل لا تُؤاكِلوا مِثْلَ هذا الرَّجُل ” (1 قورنتس 5: 11). ولا يُمكن اعتباره “كالوثني والجابي” الاّ بعد تجربة كل الطرق لإرجاع الخاطئ. عندئذٍ يصبح خارج الكنيسة فلا يعود للكنيسة من سلطة عليه. هذا هو أساس الحرم التي تضرب بها الكنيسة خاصة الخيانة تجاه الله (تثنية الاشتراع 13: 13-18). ان الخاطئ العنيد يُفصل من الشركة المسيحية.
إن سلطان المفاتيح الذي منحه يسوع الى بطرس سلّمه أيضاً إلى هيئة الرسل والكنيسة. “الحقّ أقول لكم: ما ربطتم في الأرض رُبط في السماء، وما حللتم في الأرض حُلّ في السماء” (متى 18: 18) ؛ هذا الربط والحل يشيران إلى قرارات الكنيسة فيما يتعلق بالنزاع، فلا يوجد بعد الكنيسة، محكمة استئناف بين المؤمنين. ويجب أن تكون قراراتها بإرشاد الله ومبنية على التمييز حسب كلمته. ولذلك فإن هنالك مسؤولة ضخمة على المؤمنين أن يأتوا بمشاكلهم للكنيسة، وعلى الكنيسة أن تلجأ إلى إرشاد الله في حل المنازعات، فمعالجة المشاكل بحسب طريق الله، لها أثرها على الأرض وفي الأبدية. الكنيسة هي مكان الرحمة المميّز. والمسيحيون يلزمون الله بالرحمة، لأنه التزم بها وربط عفوه بعفو الكنيسة.

2) أهمية الارشاد في صلاة الجماعة
يهدف الارشاد الاخوي الى العودة الى الجماعة للاتفاق لصلاة الطلب والاجتماع بحضور المسيح في الوسط. وما الكنيسة إلا اجتماع إخوة في محبة والمسيح حاضر في وسطها، “إِذا اتفق اثنان منكم في الأرض على طلب أيّ حاجة كانت، حصلا عليها من أبي الذي في السنوات” (متى 18: 19). يشدد النص أولاً على الصلاة الجماعية التي تتم داخل الكنيسة، ووعد الرب بخصوص الصلاة. ولقد اكدت الكنيسة في المجمع الفاتيكاني الثاني على أهمية المشاركة الجماعة في الصلاة.
اما قول الربّ “طلب أي حاجة كانت” فلا يعني اتفاقاً على كلّ حاجة، أياً كانت، ولو غير نافعة بل أراد أن يعلّم أتباعه أن يطلبوا إلى الله كلّ ما يتّفقون عليه، أو “كلّ حاجة”. وأتباع الربّ يعرفون أنّ ثمّة حاجات لا يوافق عليها أبوهم السماويّ، أو لا يراها ضروريّة لخلاص طالبيها. وهذا، بالتأكيد، يعني أنّ الله الآب يعطي أتباعه ما يتّفقون عليه، إن كان اتّفاقهم يحكمه رضاه وخلاصه. ورضا الله أن يخضع المؤمنون به لمشيئته (متّى 6: 10)، وأن يطلبوا “أولاً ملكوته وبرّه” (متى 6: 33). وهذا، يعني أنّ المؤمنين الحقيقيين لا يفرضون شيئاً مخالفاً لإرادة أبيهم السماويّ. ولا يتذمّرون إن طلبوا وحسبوا أنّ طلبهم لم يتحقّق لهم. ولا يشكّون. أما الوعد فقد أعطي لجماعة المؤمنين والمسيح في وسطهم.
يكشف لنا يسوع هنا عن هويّة الكنيسة، ألا وهي حضور المسيح نفسه بين المجتمعين باسمه “فحيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، كنت هناك بينهم” (متى 18: 20)، عندما يجتمع اثنان من المؤمنين فهناك تكون الكنيسة، والكنيسة هي المسيح. إذا كان يسوع المسيح هو من يجمع ويوحّد المؤمنين به وبين بعضهم ويجعل منهم جسداً واحداً، اما الذي رفض الكنيسة فانه يتعرض للقطع والحرمان من شركة الكنيسة.
فإنّ كلّ انقسام في جماعاتنا يُشوّه وجه الكنيسة. فالمسيح ليس منقسماً على ذاته. مسيحٌ منقسمٌ لا يتعرّف عليه أحد لأنّه مشوّه. ولكي نستحقّ حضور الرب بيننا علينا أن نكون متّحدين في إرادته. ونحن نعلم أنّه إذا عشنا “وصيّته” في المحبّة المتبادلة، يكون حضوره نوراً لمواجهة مشاكلنا والظروف الشخصيّة والاجتماعية، وقوةً لكي نسير قدماً في اختياراتنا الجريئة، فنكون خميرة للإنسانيّة جمعاء.

الخلاصة
المسيح يدعو إلى إصلاح الخاطئين وردّهم إلى جماعة الكنيسة. والإصلاح لا يخلو من التواضع. والتواضع هو الذي يرد الناس بلطف وأناة عن دروبهم الضالة وأخطائهم المألوفة وربحهم للمسيح. كلمات يسوع الاخيرة في هذا النص لا تقتصر على الوعد بحضوره لكل صلاة تقام باسمه، بل هو تشجيع لجميع محاولات الارشاد والمصالحة بين الأخوة في حضن الكنيسة التي تحقق باسمه. فالكنيسة تستمد قوتها من حضور المسيح في وسطها وهي تعمل باسمه القدوس

دعاء
“أيّها الآب السماوي، يا من تستجيب طلب من يتّفقون في طلب أيّ شيء باسم ابنك الوحيد، أعطنا قلباً محبا وروحاً حكيما لكي نرشد من تاه عن الطريق المستقيم بشجاعة ومسؤوليّة فنساعده على اكتشاف اخطائه وإصلاح نقائصه فيعود الى شركة الاخوة والصلاة في الكنيسة فلا” يَهلِكَ واحِدٌ من هَؤلاءِ الصَّغار” بحسب مشيئتك أيا الاب السماوي. (متى 18: 14). آمين.
r