Liturgical Logo

الحياة الأرضيّة والحياة بعد الموت

البطريرك بيتسابالا

إن مَثَلَ اليوم هو خاتمة للفصل السادس عشر من إنجيل لوقا. وفي قراءة الأحد الماضي، رأينا كيف أن يسوع تعمّق في حديثه عن الثروة والأملاك.
ويعرض مَثَل اليوم مشهدَيْن يختلفان عن بعضهما البعض: تدور مُجريات المشهد الأول في الحياة الأرضيّة بينما الثاني في الحياة بعد الموت.
ويصف المَثَل في المشهد الأول الشخصيتين الرئيسيتين: الأولى لرجل غنيّ يلبس الثياب الفاخرة ويُقيم الولائم كلّ يوم، أما الثانيّة فهي لرجل فقير يُدعى لعازر، يجلس عند باب الرجل الغني. ومن الجليّ في المشهد الأول أن كليهما قريب من الآخر، يفصل بينهما بابٌ فقط. ولكن هذا الباب مغلق، فلا يرى أو يتحدث الرجلان مع بعضهما البعض. لذلك يفتقر هذا الجزء من المَثَل إلى علاقة تجمع بينهما: اللقاء لم يحدث قط.
لننتقل الآن إلى الجزء الثاني الذي تجري أحداثه في الحياة الأبديّة. لا يتكلم الرب يسوع غالباً عن الحياة بعد الموت، فهو بالأحرى يولي اهتمامه ليساعدنا في العثور على الطريق المؤدية إلى هناك. كما ويريدنا أن ندرك أن الحياة الأبديّة تبدأ الآن، في الحياة على الأرض حيث المنطق العجيب لملكوت السموات، منطق المحبة المجانيّة، والمغفرة، والمشاركة.
وعندما يتكلم يسوع عن الحياة الأبديّة، مشيراً إلى العهد القديم، عادة ما يستعين بمشهد المأدبة الاحتفاليّة، حيث تجتمع الإنسانيّة بأسرها، ويُدعى إليها الأشخاص البعيدون والمختلفون، وحتى من لا نتوقع أن يكونوا جالسين إلى المائدة. لقد رأينا قبل عدة أسابيع أن العديد من الناس سيجيئون من المشرق والمغرب (لوقا ١٣: ٢٠- ٣٠)، وستُعدّ المأدبة للخاطئين التائبين وليس الأبرار (لوقا ١٥).
كما يحدّثنا يسوع عن الشخص الذي يقف في الخارج، أمام الباب، ولا يستطيع الدخول والجلوس إلى المائدة: وحتى في مكان العذاب هذا، لا نجد من نتوقع أن يكون هناك. فنحن لا نتوقع أن نجد في ذلك المكان أولئك الذين أخطأوا، لأن يسوع لا يقول مطلقاً أن مصير الخاطئين هو الجحيم، بل بالأحرى هم الذين سيسبقوننا إلى ملكوت الله (لوقا ٢١: ٣١).
وفي مَثَل اليوم أيضاً، نرى انقلاب الأدوار في الحياة الأبدية، إذ يجد الرجل الغني نفسه يقاسي العذاب في الجحيم. ما الذي ارتكبه ليستحق هذا؟
لا يذكر الانجيل مخالفته للشريعة أو الوصايا أو إيذاءه شخصاً ما، بل عُرف بكل بساطة بلبس الثياب الفاخرة وإقامته الولائم بشكل يوميّ.
أينما وجد أناس يعيشون نمط حياة مماثل، فمن المؤكد أن هناك رجلاً فقيراً طريحاً عند الباب.
ينطرح الرجل الفقير عند الباب لكن الرجل الغنيّ لا يراه: لا يظهر الفعل “يرى” إلا في الجزء الثاني من المَثَل، في الحياة الأبديّة، بينما في حياته على الأرض لم يخطُ خارج باب بيته، ولم يفكر إلا بسلامته وإشباع جوعه. كما واكتفى باهتماماته وأموره التي شغلت عالمه المكوّن من اللذات والشبع وإرضاء الاحتياجات: لم يكن هناك مكان لشيء آخر.
لقد خلط الرجل الغنيّ بين الفرح واللذات وإرضاء احتياجاته. كان راضيّاً عن نفسه. لم تكن خطيئته مخالفة الشريعة ولكن عدم اختياره للنوع الآخر من الفرح، الذي خُلقنا من أجله، وهو فرح الشراكة والتشارك.
لم يدرك أن كمال الحياة لا يكون بإمتلاء المعدة (أي إرضاء كلّ رغبة وغريزة)، ولكن عندما نتشارك، كإخوة وأخوات بإمتلاء روحي يكون للجميع.
تدفعك اللذات إلى الإنغلاق على نفسك بينما يساعدك الفرح على الانفتاح على الآخرين.
إن حياة كهذه هي الجحيم بالفعل، ولهذا لا نستطيع بعد موتنا أن نجد أمراً آخر لم نقم مسبقاً بعيشه أو اختباره على الأرض. لذا في الجزء الثاني من المَثَل، تفصل المسافة مرة أخرى بين الرجلين واللقاء لا يجري أبداً. غير أن الوضع، هذه المرّة، هو نهائي.
يبدو أن يسوع يريد أن يقول أن الثروة قد تسبب المشاكل عندما تجعلنا منغلقين على أنفسنا، وتصبح شيئاً مطلقاً يمنعنا من الشعور بالإنتماء أو أننا “جزءٌ من كلّ”، أو فروع من الكرمة.
إن الثروة (الأشياء التي تمنحنا الأمان والتي نعتمد عليها لتحقيق رفاهيتنا) تتطفل على حياتنا لتصبح في آخر المطاف أمراً مطلقاً في حين أنها في الحقيقة وسيلة فقط.
وفي هذا الصدد، يظهر جليّاً الإشارة إلى مَثَل الأحد الماضي (لوقا ١٦: ١- ٨): يستعمل الوكيل ثروته لإقامة علاقات الصداقة أما الرجل الغنيّ هذا اليوم فقد استثنى لعازر من طاولته.
وفي حين أن الوكيل استطاع أن يتدبّر أمره ويجد أملاً، لا يهتم الرجل الغنيّ إلا لرفاهيته الآنيّة.
بالنسبة إلى الوكيل الخائن، الوقت قبل يوم الدينونة قصير المدى، لكنّه لا يتخاذل في الاستفادة من هذا المدة الزمنيّة القصيرة للقيام بشيء ما.
وينتهي المَثَل بالمحادثة بين الرجل الغنيّ وإبراهيم. وقد تأتي هذه الخاتمة كمفاجئة، إذ أنّها لا تُمثّل دعوة للتوبة أو الإعتناء بأفقر الفقراء، بل تنص على أن الطريق نحو الحياة الأبديّة والفرح تبدأ بالاستماع إلى نصوص الكتاب المقدّس، ذلك لأن الاستماع يخصّ الفقراء، ومن يتركون داخلهم مكاناً للآخر. ليس الاستماع مجرد بادرة أو عمل ولكن نمط حياة تتسم بالعيش بانفتاح دائم على الآخرين.
إن كانت قصة حياة الرجل الغنيّ ولعازر تمثّل فشلاً في العلاقات، فقصة من يصغي تمثّل من يكون جزءً من كلّ، ومن يحتاج إلى الآخر، ومن يرى الفقير طريحاً عند الباب ويشعر بجوعه.