Liturgical Logo

السيّد المسيح هو “النبيّ” المشترع البتول الحصور الطّهور

الأب بيتر مدروس

(تثنية 18:15-18، 1 قور 7:32-35، مرقس 1:21-28)

بتلاوة قراءات من العهد القديم في الكنائس فائدة كبيرة، على الأقلّ في الحوار بين الأديان وفي إدراك النبوّات. وأحيانًا يتنازع دينان أو أكثر على نصّ أو نبوّة. ويجيب بالحقيقة العقل السليم والتّفسير القويم. ومن غير معرفة العهد القديم، أحيانًا لا يرى المسيحيّ تفوّق الإنجيل الطّاهر وسموّ الميثاق الجديد ورفعة الأخلاقيّات والعقائد المسيحيّة. وهكذا، عندما يطّلع على الشوائب البشريّة عند قوم موسى ومادّيتهم وحبّهم للعنف وشبقهم، يقدر الربَّ يسوع والإنجيلَ المقدّس قدرًا كبيرًا وقد عرف “خيرهما بعد أن رأى غيرهما”!
نبوّة تثنية 18: 15-18
مرّة على لسان الله وأخرى على لسان موسى تُعلَن نبوءة عن قدوم “نبيّ مثل موسى، من بين إخوته، من بين” الشعب العبري (מקרבכם). يُفَسَّر الكتاب المقدّس بالكتاب المقدّس. ونحن المسيحيّين لا نحتاج إلى أيّ “وجع دماغ”: فسّر لنا كلّ من القديسّين الشهيدَين الرسول بطرس والشمّاس اسطفانوس أنّ يسوع هو هو النبيّ المقصود في تثنية الاشتراع (أعمال الرسل 3:23، ثمّ 17:7). ومن سياق سِفر التّثنية نفسه، في الفصل السابق الآية 15 وتابع، نفهم أنّ النبيّ – مثل الملك المشار إليه في الفصل السابق 17، يجب ان يكون عبرانيًّا “من بين ” شعبه موسى”، “من إخوة موسى”، لا أجنبيًّا. ومعروف فكر اليهود في الميثاق القديم عامّة والنّصوص التّلموديّة خصوصًا عن “الوثنيين الجويم” أنهم أنجاس أرجاس… وليس المقصود “نبيّ” من نسل غير يهودي. واسمعيل ليس “أخًا” ليعقوب ولا تنبؤ في شأنه عن نبوّة من صُلبه بل عن ملوك (تكوين 16: 12 وتابع).
يستشهد بعض المسلمين بتثنية 18 ليثبتوا منها نبوّة مؤسس الإسلام. وليس موقفهم عامًّا ولا رسميًّا بما أنّ آخرين ينبذون الكتاب المقدّس جُملة وتفصيلاً لتوهّمهم أنّه مُحرّف. ولكن عند المستشهدين بهذا النّصّ وسواه، يأتي الإثبات غير المباشر أنّ توراتنا وإنجيلنا ومزاميرنا ليست محرّفة. لذا، لا يتورّع قوم أن يجيبونا: “نعم، في هذه الآيات كتابكم صحيح وهو محرّف في أخرى”. يعني بالعربيّ، الآيات التي تناسبهم غير محرّفة. لا بأس! هذه خطوة أولى، ورُبّ ضارّة نافعة!
يغتنم المرء هذه المناسبة ليبيّن مرّة إضافيّة أنّ القرآن لا يقول بتاتًا بتحريف شامل عند اليهود والمسيحيين لنص الكتاب المقدس بل يشير إلى “بعض الذين هادوا” أي بعض اليهود الذين كانوا “يسمعون كلام الله” كما هو ولكن “يحرّفونه عن مواضعه” (نصوص من سورة البقرة والمائدة) اي يسيئون تأويله، “لغاية في نفس يعقوب” مبدّلين مثلاً الرّجم بالجلد. وبعبقريّة أكّد عدد من علماء التفسير الأقدمين أنّ عند المسيحيين واليهود لم يحصل “تحريف في التّنزيل” بل “في التأويل” .

البتوليّة: خدمة الله بقلب غير منقسم (1 قور 7: 32-35)
تأثّرنا شعوريَاً أو لا شعوريًّا بالعقليّة التّلموديّة التي كانت تقضي (يباموت 62 ب ) أنّ “الرّجُل من غير امرأة نصف رجُل” فبات “الزّواج نصف الدّين”. وظُلمت آلاف مؤلّفة من بناتنا وفتياتنا وقد أجبرناهنّ وضغطنا عليهنّ للزّواج بأوّل رجُل ظهر على السّاحة أو برجُل “لا محضر ولا منظر”، خوفًا من “العنوسة” وكأنّها عار، مع أنّ الحكمة تقول: “مئة عزوبيّة ولا زيجة رديّة” لأن مثل تلك الزيجات بالجحيم أشبه ! ويلحق العار ايضًا النّساء اللواتي “لا يخلّفن” واللواتي ” لا ينجبن إلاّ بنات” كأنّ المسألة “في أيديهنّ”! فنشأت عندنا عائلات كثيرة البنات إلى أن يأتي أخيرًا وليّ العهد، وأحيانًا لا يأتي! ومن الطّريف عند بعض القوم تسميتهم لبناتهم أسماء تدلّ على النهاية، نهاية إنجب البنات (إذ “همّ البنات للممات”، أمّا الأولاد فللأبديّة!!!! خصوصًا عندما يكونون عاقّين ملحدين متمرّدين نماريد). وهكذا نجد أسماء بنات مثل: “نهاية” ، “كفى” ، “كفاية” ، “ختام”!
وفي العالم الغربيّ تفشّت الماديّة والانفلاتيّة بحيث صارت العفّة أكثر صعوبة. كلّ هذه العناصر، في الشّرق والغرب، أثّرت على الدّعوات الكهنوتيّة والرهبانيّة، ناهيكم عن تفنّن جمعيّات سريّة غربيّة وأحزاب مارقة في “فرض” ما يُسمّى بزواج المثليين وحتّى بإقامتهم (طبعًا خارج الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية) “قسسا وأساقفة” “وأسقفات وقسيسات”، قطعًا بخلاف الكتاب المقدس ومن غير خلافة رسوليّة!
يتخطّى رسول الأمم الإناء المختار بولس حاخاميّته ويعلن على رؤوس الاشهاد، بعد المسيح البتول الذي مدح “الخصيان من أجل الملكوت” (متّى 19: 12)، أنّ البتوليّة أفضل من الزّواج بمعنى أنها تسمح بخدمة الرّبّ بقلوب غير منقسمة. فالرجُل المتزوّج منقسم بين إرضاء الله وإرضاء شريكة حياته (وحماته)، كما كان يردّد ذلك اللبنانيّ خفيف الظلّ: “يا رضى الله ورضى شعشوعة!” وكذلك المرأة المتزوّجة منقسمة، خصوصًا في بعض بيئاتنا حيث لا تتزوّج فقط رجُلاً (“ولو فحمة على البيت رحمة “، “ظِلّ راجل ولا ظِلّ حيط”…) بل تصبح خاضعة لعائلة بأسرها وحامولة “بأمها وابيها”، يتحكّم فيها الكبير والصّغير من الذّكور (ناهيكم عن “النساوين!).

“ما لنا ولك يا يسوع النّاصريّ ؟ (مرقس 1: 21-28)
فرح قوم من أعداء السيّدة العذراء بهذه الآية سرورًا: الشيطان يقول ليسوع “لا علاقة لنا بك!” والمسيح قال لأمّه نفس العبارة، يعني “لا علاقة لي بك!” منطق أعوج كفريّ ما توانى في التعبير عنه قوم بروكلين من يهود أمريكا القائمين على حركة “شهود يهوه” اليهوديّة. صحيح: العبارة نفسها ولكن السياق والمُخاطبان والنبرة والمعنى تختلف اختلاف الليل عن النهار. في حالة الرّوح النجس، يطلب من يسوع أن يتركه في جسد الممسوس. “ما لنا ولك ؟” تعني كما في العربية الدارجة “ما لنا وما لك؟”: “حلّ عنّا ، أتركنا! إذهب عنّا! نحن مرتاحون في جسد هذا الرجل “المجنون”! وأنت، ما لك ؟ ما شأنك؟” أمّا في عرس قانا الجليل، فعندما تدخّلت السيّدة العذراء وقالت لابنها: “لم يعد عندهم خمر” فقد أجاب معترضًا بدبلوماسيّة: “ما لي ولك يا امرأة؟” اي “ماذا لي أنا”، ولستُ العريس، و”ماذا لكِ أنتِ”، ولستِ “أمّ العروسة”، في هذه المشكلة التي لا تخصّنا ولا تعنينا. فالقول بأنّ العبارة تعني “لا علاقة لي بك” موجّهة من إنسان إلى والدته لهو قول مرفوض سخيف لا يدخل عقلاً إذ أنّ أقوى علاقة لأي إنسان هي مع والدته التي حملته وأرضعته وربّته أكثر من زوجته!
فرق آخر: السيّد المسيح لم يطع الشياطين التي طلبت منه أن يتركها في الممسوس، في حين أطاع والدته وأتمّ في عرس قانا الجليل رغبتها ونفّذ أوامرها، وإن ظهر أنه فعل ذلك “على مضض” أو بعد مناورة مقدّسة وإبطاء مقصود!

خاتمة
يسخّر خصوم السيّدة العذراء والكنيسة كلّ سلاح قد يبدو منطقيًّا للطّعن فيهما وقد وجدوا البتوليّة الدائمة للعذراء والبتولية الرهبانية والكهنوتية من أسهل الأهداف لرمي السّهام المسمومة. ولا يدعو المرء عليهم بل من أجلهم لهدايتهم إلى جمال العفّة في البتول الوالدة الماجدة وسموّ البتوليّة المكرّسة ورفعة البتوليّة والعزوبيّة وقبح سيرة المحتجين على البتولية منذ القرن السادس عشر وفظاعة كتاباتهم وأعمالهم وتشتتهم وتفتتهم إلى آلاف الجماعات بلا رأس.
وجيّد أن نقدر خصوصًا نحن المسيحيين العرب العزوبيّة بحدّ ذاتها، في نور تكريس المعموديّة كصورة عن الحياة الآخرة “حيث لا يتزوّجون ولا يُزوّجن، بل يكونون كملائكة في السماء” (متّى 22: 30) .