Liturgical Logo

“الكلمة صار جسدا” (يوحنا ١: ١٤) (2)

البطريرك بيتسابالا

عظة الميلاد 

الاثنين – قداس الصباح

“الكلمة صار جسدا” (يوحنا ١: ١٤).

ما زال صدى هذه الكلمات يدوّي بقوة وبصورة واقعية بيننا، ونصغي إليها بإيمان متنبه وفاعل. عادة في عيد الميلاد، في بيت لحم بصورة خاصة، يلفت انتباهنا هذا الواقع “أن الكلمة صار جسدًا“. دخل في زمننا وفي تاريخنا البشري، واتخذ طبيعتنا البشرية في زمان محدد وفي مكان معروف، وظهر صغيرًا ومتواضعا. كل ذلك يملأنا بالمشاعر والاندهاش والسجود. في الليلة الماضية تأملنا في الطرق المتواضعة التي أراد كلمة الله أن يسير فيها، بها جاء إلينا وبها منحنا المقدرة لأن نذهب إليه. وفي هذا الصباح، مع إشراق نهار جديد، مفعم بفرح الميلاد، بعد انقضاء الليلة المقدسة، تريد الليتورجيا أن تبيِّن لنا، في نور ساطع، سر التبادل العجيب الذي كان فيه فداؤنا.

عيد الميلاد هو عيد لقاء الله والإنسان، لقاء السماء والأرض، لقاء الأبدية والزمن. اللامتناهي والمتناهي يتعانقان ويتحدان من غير خلط، ومن غير إلغاء لأحد: هذا ما يحصل في كل لقاء حب ناجح. ولهذا لا يجوز بل يجب ألا نلغي أو نضحي بأي وجه من أوجه الميلاد. الكلمة ظهر بيننا طفلا. هذا الطفل هو كلمة الله الأزلي، إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق. نعلن هذا لنذكر أنفسنا بحقيقة الميلاد ولنتحرر من خطر تقزيم أو تبسيط سر الميلاد، بتحويل صور التواضع والفقر فيه إلى صور عاطفية نجد فيها عزاء وفرحا خارجيا، فيما نبقى في فراغ.

“هنا” تم الميلاد. “هنا“، هذه اللفظة تدوِّي في كل احتفال ليتورجي نقوم به في كل أماكننا المقدسة. وإننا بحق نفتخر بها. ولكن هناك خطر أن نحوِّلها بصورة واعية أو لا واعية إلى مشاعر أيديولوجية، لا تمنح للآخر وللمختلف عنا شيئا، أو تقدم له شيئا قليلا. الجدران الخارجية الظالمة التي تؤلمنا كثيرا يمكن أن تنتقل فتكون فينا جدرانًا داخلية، يمكن أن تصبح فينا ذهنيات وأساليب عيش وتصرفات عدائية ورافضة لكل ضيف. في هذه الليلة تأملنا في المذود ورأينا في الميلاد نبؤة موجهة إلينا. في هذا الصباح نريد أن نتسامى، مع مقدمة إنجيل القديس يوحنا، نريد أن نسير إلى حيث يريد سر الميلاد أن يسير بنا، إلى أعالي مجد الله الذي أظهر ذاته هنا لنا وحتى “أقاصي الأرض” (المزمور ٩٧).

عيد الميلاد هو أن ابن الله جاء للجميع ومنح الجميع حياته الخالدة. هذه البداية التي بدأت هنا لا تعرف الحدود لا من حيث الزمان ولا من حيث المكان، كما يبيِّن لنا ذلك المجوس الذين سنحتفل بهم بعد بضعة أيام. هذا الطفل ليس فقط ابن أرضنا وشعبنا: هو ابن الله، هو كلمة الآب، هو المعنى الكلّيّ للحياة وللتاريخ. كونه صار جسدا لا يحد لاهوته بل يوسع إنسانيتنا فتتسع مثل سعة الله. أن يصبح إنسانا، لا يعني أنه توقف عن أن يكون الله. وكونه صار صغيرًا لا يعني أنه تخلى عن عظمته، بل أظهر عظمته وجعلها عطاء لنا.

جاء الله إلينا، لا لييقينا صغارًا، بل ليحول ضعفنا إلى طريق نحو العظمة، عظمة الحياة المبذولة في سبيل الجميع، وبالبذل تصبح إلهية، وأبدية. الله صار إنسانا حتى يصير الإنسان إلها، كما تنشد الليتورجيا الأرثوذكسية. خلاصنا هو هذا التبادل العجيب، هو هذا اللقاء، هذا الانفتاح المتبادل، وهذا العطاء المتبادل، من الله للإنسان ومن الإنسان لله.

وسنجد الخلاص حقا إن عرفنا أن ننفتح، أن نصبح كيانًا في سبيل الغير، وليس امتلاكًا لذاتنا، إن عرفنا أن نتبادل العطاء والمغفرة، الذي يجعلنا إخوة لا أعداء في أرض هي أولا أرض الله ثم أرضنا. ألوف الحجاج الذين يملأون شوارعنا ومزاراتنا، والحمد لله، يذكروننا بذلك.

وأعرف أن الأمر ليس سهلا، بل هو جهد صعب أن نبقى في حالة عطاء للآخر واستعداد لقبوله، في عالم وزمن كثر فيه الأصوليون القديمون والحديثون، الذين يجعلون العلاقات الأخوية والودية أمرًا صعبًا. ولكنه جهد يستحق أن نقوم به: هو جهد الميلاد. الصراعات التي يقدمها لنا العالم هي صراعات تفرق بيننا، وتفصلنا بعضنا عن بعض، وتهدم وتقتل. المجهود الجدي والمفرح الوحيد الذي يجب أن نبذله هو جهد الميلاد، وهو يوحدنا، ويبقينا معا، ويبني ويمنح الحياة.

يحب أن “نكون نحن“، لكن لغيرنا، يجب أن أحافظ على قوتي ولكن لأبذلها في سبيلك، يجب أن نبني بيتا ولكن لنستضيف الغرباء. هذا هو الإنسان في يسوع المسيح، كلمة الله الأزلي. نحن مدعوون إلى أن نكون مثل الله، أن نكون كاملين كما أن الأب كامل، والميلاد يمنحنا النعمة والمقدرة على أن نكون كذلك. بالنسبة إلى يسوع المسيح، أن يكون مثل الله لا يعني الادعاء الذي كان في آدم، بل الانفتاح الكامل للحب، مثل حب الله الذي “يطلع شمسه على الأشرار والأخيار، وينزل مطره على الأبرار والفجّار” (متى ٥: ٤٥). هكذا تكون حياتنا تجسيدًا للإنجيل، وصورة واقعية ومرئيّة لكلمة الله الأزلي الذي، منذ بدء الأزمنة وحتى انتهاء العالم، يذكِّرنا باللقاء الذي يخلّص، والحب الذي يغلب الشر والموت.

صغار،نعم، ولكن منفتحون لنعانق العالم. قليلون، نعم، ولكن مستقبلون لكل إنسان، فقراء ولكن كرماء ومشاركين في ما لدينا لنعيش. نحن بشر نعم ولكننا أبناء الله: هذا هو الميلاد.

+ بييرباتيستا بيتسابالا
المدبر الرسولي للبطريركية اللاتينية