“الكلمة صار لحمًا… وضرب خيمته بيننا” (يو 1 : 14)
الأب بيتر مدروس
النّقل الحرفيّ للآية الرابعة عشرة من الفصل الأول في بشارة يوحنّا الرّسول الحبيب هو بالفعل هكذا:”الكلمة صار لحمًا” ، في اليونانية “ساركس σαρξ”، للدّلالة على ما هو ضعيف مُحرج في الطّبيعة البشريّة وبالذّات في جسم الإنسان. فلا مجال لهرطقات مثل التشبيهيّة أو “الدوقيتيّة” للتّوهّم أن ما كان للمسيح جسد حقيقيّ بل شبه جسد. ويدرك المرء هنا الفرق الشّاسع بين ال”كلمة لوغوس (ولعلّ منها لفظة “لغة”) Λόγος الّذي كان عند لفيف من الفلاسفة اليونانيين يشير ليس فقط إلى العقل والنطق والمنطق والفكر بل إلى كيان رفيع المستوى هو قمّة الروحانيّة والسموّ، وحسبه بعضهم بين الخالق والمخلوقات. يوضح لنا البشير يوحنا، بوحي من الله، أيضًا البون الفسيح بين الفعلين “كان” و “صار”. فالكمة الأزلية الابدية، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، “كان” ην، فعل ديمومة وليس فعلاً ماضيًا ناقصًا (ولعلّ الصيغة القرآنية “كان الله عزيزًا حكيمًا”، مثلاً، تعرب عن الفكرة ذاتها). “كان” لا تعني أنه لم يعد كائنًا بل أنه منذ البدء كان كائنًا وما يزال، فهو “الكائن” ، و”هو هو أمس واليوم وإلى الأبد”. ولكن عند التّجسّد “صار” εγένετο والفعل يشير إلى بداية تغيير، لا في الطّبيعة الإلهيّة التي “ليس فيها تحوّل ولا ظلّ دوران” ، كما يكتب مار يعقوب أوّل أساقفة القدس، بل في اتّخاذ الطّبيعة البشريّة أو الناسوت.
“ضرب خيمته بيننا” أو “حلّ فينا”: النّقلان صحيحان أمينان للأصل اليونانيّ، إذ “حلّ” عند معشر العرب “الحلّ والتّرحال” هو ضرب المضرب ثمّ إزالته للرّحيل. وفي اللفظة اليونانيّة عبقريّة سامية إذ أنها “سكيني σκήνη” تلميح إلى الكلمة العبريّة المقدّسة “شكيناه שכינה” وهي مقرّ الله في المكان المقدّس (“السّكينة”). فالرّب يسوع هو حضور الله حتّى في خيمة البشر واللحم والدم!
“الكلمة الله” (يو 1 : 1)
يكفي أن ندرك السبب من بدء يوحنا البشير بعبارة “في البدء كان الكلمة” لنستنتج أن “الكلمة هو الله”، إذ يذكر الإنجيليّ الحبيب ويذكّرنا ببداية سِفر التّكوين “في البدء خلق الله السماوات والأرض”. وبالفعل يسترسل يوحنا كاتبًا عن الكلمة الخالقة : “به كان كلّ شيء وبغيره ما كان شيء”. ولا بأس في تكرار ما كتبناه سابقًا عن نقل عربيّ كاثوليكي أو ارثوذكسي صحيح في معناه: “إلهًا كان الكلمة”إذ يعني “الله”إذ “أومن بإله واحد”. وفي الآيتين 6 و 18، حتّى مع غياب أل التعريف اليونانية، تنقل الكنيسة بأمانة وذكاء: “أتى رجُل اسمه يوحنّا (المعمدان) أرسله الله (وليس : إله)” وأيضًا : “الله (وليس: إله) لم يره أحد قَطّ”.
أمّا الفئة اليهودية الأمريكية “شهود يهوه” فتنقل محرّفة ” a god” بمعنى أنه كان “إلهًا” صغيرًا غير الله، وذلك بذريعة غياب أل التعريف في الاصل. ولكن الألف غائبة أيضًا في الآيتين 6 و 18، ومع ذلك يترجمون “الله” بدل “إله” لأنهم يرون أنّ الكلام ليس عن المسيح بل عن الطّبيعة الإلهيّة.
كم من السّهل التحريف ولا سيّما اليهوديّ (فالفئة المذكورة غير مسيحيّة ولا تبرّر تهمة تحريف “المسيحيين” للكتاب المقدس!)، وكم من الصّعب أحيانًا إيضاح مواضع التحريف، وذلك بسبب عدم معرفة معظم الناس للألسنة الاصليّة للكتاب المقدس. والأمل أن نكون أوضحنا مكان التغيير المقصود، ليس فقط من الناحية العلمية بل الراعوية.
“الشّريعة أتت على يد موسى، والنعمة والحقّ بيسوع المسيح حصلا”
لا تناقض بين يسوع وموسى. وعندما كرّر يسوع العبارة “سمعتم أنه قيل، أمّا أنا فأقول لكم” ، مثلاً “لا تنزِ” أمّا أنا فأقول لكم “من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه”، ما ألغى الوصيّة بل عمّقها من الخارج إلى داخل الفكر والنظرة والنّيّة. والرب يسوع الكلمة هو المشترع في البداية وفي الكمال الإنجيليّ.
المشكلة هي التّذرّع بالشريعة، بالحرف لقتل الروح، ولقتل البشر بشكل عام، كما قال اليهود متشدّقين بشريعتهم لبيلاطوس: طنحن، عندنا شريعة! وحسب هذه الشريعة، يجب أن يُقتَل هذاط اي يسوع الناصريّ. وفي الشرق الأوسط وإفريقيا وبعض مناطق آسيا (مثل مقاطعة مينداناو في الفليبين حيث قتل مسلّحون بدم بارد عشرة فيليبينيين مسيحيين أبرياء) وفي نيجيريا على سبيل المثال لا الحصر مجموعة “بوكو حرام” قتلت البشر المسيحيين وأحرقتهم وخطفت مئات الفتيات “إتمامًا للشّريعة” أي قتل المشركين وسبي نسائهم وأطفالهم. أمّا حرق المسيحيين وسواهم (ويذكر المرء بتأثّر الطّيّار الاردنيّ الشّهيد مُعاذ الكساسبة) فهو في الفكر والتقليد الإسلاميين “عذاب الله” اي عذاب النار الذي لا يحقّ لخليقة أن تستخدمه.
أليس قسم كبير من مأساتنا، نحن مسيحيي الشرق الأوسط، آتٍ بسبب إصرار بعضهم على طريقته في “تطبيق الشّريعة” حسب فهمهم لها ؟
أمّا يسوع فقد تمّم الشّريعة أي أوصلها إلى الكمال وترك عقاب الإعدام فقط للخالق الأوحد وجلب لنا “النعمة والحقّط. ومع الاسف ينسى كثير من المسيحيين “الحق” ويشددون فقط على المحبة، والمحبة من غير معرفة وغير حقّ كليلة عمياء. وشدّد آخرون في القرن السادس عشر على “النعمة” وكأنها تعفينا من الأعمال الصالحة، مع أن الرسول الحبيب يوحنا كتب : “لو أنكرنا أننا خطأة ، لا نكون في الحقّ” وقطعًا لا تكون فينا نعمة الله.
غيض من فيض
لا تفي الخواطر السّابقة مقدّمة إنجيل يوحنّا أدنى قدر من حقّها ولكنها تعالج مسائل راعوية وروحانيّة ضروريّة وتسعى إلى تبديد سوء فهم وفضح تحريف يكتب مار بطرس عن أمور تشبهه، في سياق حديثه عن رسائل القديس بولس: “فيها أمور صعبة الفهم يحرّفها (اي يشوّه معناها) الذين لا علم عندهم ولا رسوخ، كما يفعلون في سائر الكتب لهلاك نفوسهم” ، ونزيد: “ونفوس الذين يتبعونها” غافلين.
خاتمة
حلّ الله بيننا، فلنتمسّكنّ بالنعمة والحقّ والمحبّة لأنها “الشّريعة بتمامها”!