Liturgical Logo

تأملات آباء الكنيسة حول دعوا الأطفال يأتون إليَّ

آباء الكنيسة

إن لم تعودوا كالأطفال والبابا بِندِكتوس السادس عشر، بابا روما من 2005 إلى 2013)
رياضة روحيّة في الفاتيكان، 1983
“الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن لم يَقبَلْ مَلكوتَ اللهِ مِثْلَ الطِّفل، لا يَدخُلْه”
إنّه لَمِن المدهش أن نرى الأهمية التي يعطيها الرّب يسوع نفسه للأطفال، ولكل إنسانٍ حين نسمعه يقول: “الحَقَّ أَقولُ لَكم: إِن لم تَرجِعوا فتَصيروا مِثلَ الأَطفال، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّمَوات” (مت 18: 3). وبالتالي فإن الطفولة في نظر الرّبِ يسوع ليست مرحلة انتقالية بحتة في حياةِ الإنسان، ناجمة عن مصيره البيولوجي وسوف تختفي كلياً في نهاية المطاف. لا بل إنه في مرحلة الطفولة يتكوّن كلّ ما هو خاصٌ بالإنسانِ بحيثُ أن من يفقد جوهر الطفولة إنما يفقد ذاته. ومن هذه النقطة ومن وجهة النظر البشرية يمكننا أن نتخّيل الذكريات الجميلة التي حملها الرّب يسوع المسيح من طفولته، وكم بقيت الطفولة في نظره تجربًة قيّمة، وصورةً نقيّة خاصة عن الإنسانية. ومن هنا يمكننا أن نتعلّم إجلال الطفل الأعزل الذي يصرخ طالباً محبتنا. ولكن تثير هذه النقطة الأخيرة السؤال التالي: ما هي بالضبط السِمة المميزة لمرحلة الطفولة التي يعتبرها الرّب يسوع فريدة يتعذّر استبدالها؟… علينا أولاً أن نذكر أن الصفة الأساسية للرّب يسوع والتي تعبّر عن كرامته هي صفة “الإبن”… فإن اتجاه حياته، والباعث والهدف الأساسي الذَان طبعاها، إنما يُعبَّر عنها بكلمة واحدة، “أبّا، يا أبتِ” (مر14: 36؛ غل. 4: 6). لطالما عرِف الرّب يسوع أنه لم يكن أبداً وحده، وهو قد أطاعَ من كان يدعوه “أبَتِ” في كل حين حتى الصرخة الأخيرة على الصليب من خلال ميله الكلّي صوبَه. هذا وحده قد يفسّر أنه رفَضَ أخيراً أن يُسمّى ملكاً أو سيداً، أو أن يمنح لنفسه أيّ لقبٍ سلطّوي آخرَ، بل لجأ إلى استخدامِ مصطلحٍ قد نُترجمه أيضاً بـ “الطفل الصغير”.

دعوا الأطفال إسحَق السريانيّ (القرن السابع)، راهب في نينَوى، بالقرب من الموصل في العراق الحاليّ وقدّيس في الكنائس الأرثوذكسيّة
الخُطَب النسكيّة، المجموعة الأولى، الفقرة 19
“الحَقَّ أَقولُ لكم: مَن لم يَقبَلْ مَلَكوتَ اللهِ مِثْلَ الطِّفْلِ لا يَدْخُلْه”
“أَنتَ الأصغرُ من بين البَشَر، هل تُريدُ أَنْ تَجِدَ الحياة؟ حافِظْ في داخِلِكَ على الإيمانِ والتَّواضُع، وستَجِدُ من خلالهما الرَّأفةَ والنَّجدَةَ والكلامَ الَّذي سيقوله الله في قلبِكَ، وأيضًا ذاكَ الَّذي يَحرُسُكَ ويبقى إلى جانِبِكَ سِريًّا وظاهريًّا. هل تُريدُ أَنْ تَكْتَشِفَ ماذا تُعطي الحياة؟ سِرْ على طريقِ البَساطة. لا تَدَّعِ أنَّكَ تَعرِفُ شيئًا أمام الله. الإيمانُ يَتْبَعُ البَساطة. لكنَّ الإِزدهاء يَتْبِعُ دِقّةَ المَعرِفَةِ وٱنحرافاتِ الفِكْرِ؛ فهوَ يُبْعِدُ عن الله”.
حين تكون في حضرة الله من خلال الصلاة، كن صغيرًا كالنملة في فكرك، … كولد يتلعثم. لا تقل شيئًا أمام الله مدّعيًا أنك تعرف، لكن اقترب منه بقلب طفل. اقترب منه لنيل هذه العناية التي يسهر بها الآباء على أولادهم الصغار. لقد قيل: الربّ يسهر على الأولاد الصغار”. كلّ مَن يشبه الولد الصغير يستطيع الاقتراب من الحيّة بدون أن تلحق به هذه الأخيرة أي أذى… وسط براءته، يبدو جسد مَن يشبه الولد الصغير مكسوًّا برداء غير مرئي من قبل هذه العناية الإلهيّة المخبّأة التي تبقي أعضاءه ضعيفة، كي لا يتمكّن أي شيء من إيذائه.
مَن وضع نفسه وصار مثل هذا الطفل فذاك هو الأكبر في ملكوت السموات القديسة فوستينا كوالسكا (1905 – 1938)، راهبة
Petit Journal, § 244
«فمَن وضَعَ نفسَه وصارَ مِثلَ هذا الطِّفل، فذاك هو الأَكبرُ في مَلَكوتِ السَّموات»
لقد بدأت الأيّام الرماديّة. لقد مرّت اللحظات الاحتفاليّة الخاصّة بنذوري المؤبّدة، لكنّ هذه النعمة الكبيرة تبقى في نفسي. أَشعُرُ بأَنَّني كُلُّ شيءٍ بالنِّسبَةِ إِلى الله، أَعرِفُ أَنَّني ٱبنته، أَشعُرُ بأَنَّني مِلْكٌ للهِ بِكُلِّيَّتي. أَختَبِرُ ذلك حتَّى بطريقَةٍ حِسِّيَّةٍ ومَلموسَة. أَنا مُرتاحَةٌ في كُلِّ شيء، لأَنّني أَعرِفُ أَنَّه على العريسِ أَنْ يُفَكِّرَ فِيَّ. لَقَد نَسيتُ نَفْسي بِشَكلٍ كامِل.

إِنّ ثِقَتي بِقَلبِه الرَّحوم لا حدودَ لها. أَنا مُتَّحِدَةٌ بِهِ بٱستمرار. أشعُرُ وكأَنَّ الرَّبَّ يَسوعَ لا يَستَطيعُ أنْ يَكونَ سعيدًا بدوني، ولا أَنا أَستَطيعُ أَنْ أَكونَ سَعيدةً بدونِه. لَكِنَّني أَفهَمُ جَيِّدًا أَنَّه سَعيدٌ بِحَدِّ ذاتِهِ كَونِهِ الله، وأَنَّه لا يَحتاجُ إِلى أَيِّ كائِنٍ لِيَكونَ سَعيدًا، لَكِنَّ طيبَتُه تُرْغِمُه على بَذْلِ الذَّاتِ من أَجلِ خليقَتِه، وذلكَ بِكَرَمٍ لا يُمكِنُ تَخَيُّلَه.
دعوا الأطفال يأتون إليَّ البابا بندكتوس السادس عشر (بابا روما من 2005 إلى 2013)
رياضة روحيّة في الفاتيكان، 1983
«فأَخَذَ يسوع بِيَدِ طِفْلٍ وأَقامَه بِجانِبِه ثُمَّ قالَ لَهم: مَن قَبِلَ هذا الطِّفلَ إِكرامًا لِاسْمي فَقَد قَبِلَني أَنا» (لو 9: 48)

يجب أن نذكّر أنفسنا بأنّ سِمَة الرّب يسوع الأساسيّة الّتي تعبّر عن كرامته هي سمة “الابن”… فإنّ وجهة حياته، الدافع الأساسي والهدف اللذان شكّلاها، يُعبَّر عنها بكلمة واحدة: “أبَّا، الآب الحبيب”. كان الرّب يسوع يعرف أنّه لم يكن قطّ وحيدًا، وحتّى في الصرخة الأخيرة على الصليب، أطاع ذاك الذي كان يدعوه “الآب”، من خلال الاستسلام الكامل له. هذا وحده يستطيع تفسير رفضه الكامل لتسمية نفسه ملكًا أو ربًّا، أو منح نفسه أي لقب سلطة، بل ٱستخدم كلمة نستطيع ترجمتها أيضًا بـ “طفل صغير”.
وبالتالي، نستطيع أن نقول ما يلي: إن كان للطفولة مكانة مميّزة جدًّا في بشارة الرّب يسوع، فهذا لأنّها تتطابق بعمق كبير مع سرّه الشخصيّ ومع بنوّته. فإنّ كرامته الأسمى، تلك الّتي تعيد إلى ألوهيّته، لا ترتكز في نهاية المطاف على السلطة الّتي أُعطيت له؛ بل هي ترتكز على كيانه الموجَّه صوب الآخر: الله، الآب. قال شارح الكتاب المقدّس الألماني يواكيم جيريميا (Joachim Jeremias) بكلّ وضوح ما يلي: “بنظر الرّب يسوع، أن يكون المرء طفلاً يعني أن يتعلّم كيف يقول “يا أبي”.

دعوا الأطفال يأتون إليَّ القدّيس إقليمنضُس الإسكندريّ (150- نحو 215)، لاهوتيّ
المُرَبّي، 1، 12 + 17
«لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ»
إنّ دور الرّب يسوع المسيح، مُرَبّينا، هو، كما يشير إليه اسمه، هداية الأطفال. ويبقى النّظر إلى أيّة أطفال يقصد الكتاب المقدّس التكلّم عنهم، ومن ثم إعطاؤهم مربّيهم الخاص. الأطفال هم نحن. يحتفل بنا الكتاب المقدّس بشتّى الطرق؛ ويستعين بصور مختلفة للإشارة إلينا، مُلوِّنًا بألف صبغة بساطة الإيمان. يُقال في الإنجيل: «وقَفَ يسوعُ على الشَّاطِئ، وقالَ لتَّلاميذَه – كانوا يصطادون –: أَيُّها الفِتْيان، أَمعَكُم شَيءٌ مِنَ السَّمَك؟» (يو 21: 4 – 5). هم تلاميذه الذين كان يدعوهم أطفالاً. «وأَتَوه بِأَطفالٍ لِيَضَعَ يَدَيهِ علَيهِم ويُصلِّي، فَانتَهَرهُمُ التَّلاميذ. فقالَ يسوع: دَعوا الأَطفال، لا تَمنَعوهم أَن يَأتوا إِليَّ، فإِنَّ لِأمثالِ هؤُلاءِ مَلكوتَ السَّمَوات.» الرّب هو بذاته أوضح معنى كلمته قائلًا: «الحَقَّ أَقولُ لَكم: إِن لم تَرجِعوا فتَصيروا مِثلَ الأَطفال، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّمَوات.» إنَّ ذلك لا يشير إلى إحياءٍ جديد، لكن يقترح علينا حَذوَ بساطة الأطفال…
يمكننا حقًا مناداتهم أطفال، الذين لا يعرفون إلا الله أباهم – مولودون جدد، بسطاء وطاهرون… هم كائنات تقدّمت في الكلمة، يدعوها إلى التخلّي عن الانشغالات الدنيويّة لكي تُصغي فقط إلى أبيها، مُقتديةً بالأطفال الصغار. لذا يقول لها: «فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ.» (مت 6: 34). هكذا يحثّنا إلى التخلّي عن همومنا الدنيوية للتعلق فقط بأبينا. فمَن مارس هذه الوصية هو حقًا مولود جديد، طفلٌ لله وللعالم، لأنّ العالم يعتبره جاهلًا أمّا الله فيعتبره مَوضِعَ حنان.