Liturgical Logo

تأملات آباء الكنيسة حول كلمة الله

آباء الكنيسة

عظة عن مطالعة الكتاب المقدس للقديس يوحنا الذهبي الفم

إِنَّ النبي العظيم داود لعلمه بالفائدة الجمة من مطالعة الكتب المقدسة، كان دائمًا يصغي بكليته إليها ويتلذذ بالحديث عنها.
أما هو القائل : “طوبى للرَّجُلِ الذي لم يسلك في مشورة الكفرة، وفي طريق الخطأة لم يجلس. لكن في ناموس الرَّبِّ هواه وفي ناموسه يلهجُ النهار والليل، ويكون كالعود المغروس على مجاري المياه الذي يعطي ثمره في حينه وورقهُ لا ينتثر وكلُّ ما يصنع ينجح” (مزمور1: 1-3).
فوجود الشجرة على سواقي المياة يعطيها الري الدائم الواقي إياها من تقلبات الطقس، فلا تضرها أشعة الشمس المحرقة، ولا الهواء الجاف، لأنَّ الرطوبة الكافية داخلها تلطف لها حرارة الشمس.
هكذا النفس الواقفة أمام ينابيع الكتابة الإلهية، تستقي منها الحياة، وتنعم بندى الروح القدس أيضاً، فلا خوف عليها من تقلبات الحياة المكدرة، وإذا تعرضت لمرض أو لو أو نميمة أو قدح أو استهزاء أو تهاون أو صبت عليها مصائب الدنيا فإنَّها تتغلب على الصعوبات كلها بسهولة، وتجد التعزية الكافية في مطالعة الكتب المقدسة.
وبالإجمال لا شيء كمطالعة الكتاب المقدس، يعزي في الأحزان والشدائد، لأنَّ كلَّ الأشياء فانية ووقتية. تزول التعزية بزوالها، أما مطالعة الكتب المقدسة فهي محادثة مع الله، وإذا كان الله تعزيتنا فأي شيء يستطيع أن يوقعنا في اليأس.
فلنطالع الكتاب المقدسة جيِّدًا، لا في أثناء الصلاة عند وجودنا في الكنيسة فقط، بل عند الرجوع إلى البيت لنكون أمينين على أنفسنا، فليأخذ كل منا التوراة، ويفهم ما قيل فيها، هذا إذا أردنا الفائدة الدائمة الكافية من مطالعة الكتب المقدسة .
فإن الشجرة المغروسة على مجاري المياه، لا تتصل بالماء ساعتين أو ثلاثًا في النهار، بل ٱتصالها دائم ليلاً ونهارًا، ولذلك تزدان بالأوراق، وتعطي الثمار الجيدة في حينها، إنَّ اليد البشرية لم تسقها، ولكهنا تمتص الرطوبة بواسطة جذورها وتوزعها على أعضائِها، هكذا الإنسان المواظب على مطالعة الكتب المقدسة والواقف عند ينابيعها، يجيز لنفسه المنفعة العظيمة، وإن لم يكن لديه مَن يفسر له الأقوال الإلهية لأنَّه يُشبِهُ الشجرةَ التي تمتص الغذاء بواسطة جذورها.

 

الكتاب المقدس بليز باسكال “Blaise Pascal” (1623- 1662)
فيزيائي ورياضي وفيلسوف فرنسي

“إنَّ إله إبراهيم وإسحق ويعقوب ليسَ إلهَ الفلاسِفةِ والعُلماء! يَحفَظُنا ويَقودُنا الرَّبُّ يسوعَ المَسيح مِن خِلالِ تَعاليمِهِ في الإِنجيل”.

الكتاب المقدس في قول القديس اسحق السرياني (700†)

“إِنَّ مَن يقرأ الكُتُبَ المُقَدَّسَةِ بِلامُبالاةٍ يَجِفُّ قَلبُه وتُخْمَدُ فيه تلكَ القُوَّةُ المُقدَّسَةُ الَّتي تَمنَحُ القَلبَ مَذاقًا حُلوًا وتُساعِدُ النَّفْسَ على الفَهْمِ بطريقَةٍ عجيبة”. (القديس اسحق السرياني)

القديس بونافنتورا الأسقف (1218-1274)

“ليسَ الكتابُ المقدَّسُ ثمرةَ أبحاثٍ بشرية. إنّما مصدرُه هو الوحيُ الإلهيُّ، الآتي من لَدُن أبي الأنوار، الذي منه كلُّ أُبُوَّةٍ في السَّماءِ وعلى الأرض. منه وبٱبنِه يسوعَ المسيح يُفاضُ الرُّوحُ القدُسُ فينا. وبالرُّوحِ القدُسِ، الذي يوزِّعُ مواهبَه ويُشرِكُ فيها كلَّ واحدٍ بحسبِ مشيئتِه، ننالُ الإيمان”.

“هذه هي معرفةُ يسوعَ المسيح، وهي أساسُ فَهمِ الكتابِ المقدَّسِ كلِّه وأساسُ ثباتِه”.

“من المستحيلِ أن يَفهمَ أحدٌ الكتابَ المقدَّسَ ما لم يكُنْ الإيمانُ بيسوعَ المسيحِ قد أُفِيضَ فيه: فهو المصباحُ والمدخلُ والأساسُ لكلِّ الكتابِ المقدَّس. لأنَّنا ما دُمْنا نعيشُ في غربتِنا بعيدين عن الله، فإنَّ الإيمانَ هو نفسُه القاعدةُ الصَّلْبَةُ والنُّورُ الهادي والبابُ الذي يُدخِلُنا إلى جميعِ الإلهاماتِ الفائقةِ الطبيعة”.

“بحسبِ مقدارِ إيمانِنا يكونُ قبولُنا للحِكمةِ التي يمنحُنا إيّاها الله، “فلا نذهَبْ في الاعتدادِ بأنفسِنا مذهبًا يجاوزُ المعقول، بل نتعَقَّلُ ونكونُ من العقلاء، كلُّ واحدٍ على مقدارِ ما قسمَ الله له من الإيمان” (روما 12: 3).
“ليسَتْ غايةُ الكتابِ المقدَّسِ أو ثمرتُه أَمرًا هَيِّنًا، بل هو مِلءُ السَّعادةِ الأبدية. لأنَّ الكتابَ الذي يتضمَّنُ كلماتِ الحياةِ الأبديةِ كُتِبَ ليس فقط لكي نؤمنَ، ولكن لكي تكونَ لنا الحياةُ الأبديةُ أيضا، حيث نشاهدُ ونُحِبُّ، وحيث تُلَبَّى جميعُ رغباتِنا”.

“متى ٱستُجِيبَت رَغَباتُنا عرَفْنا حقًّا “المحبّةَ التي تفوقُ كلَّ معرفة، وٱمتلأْنا بكلِّ ما في الله من كمال” (أفسس 3: 19).

“الهدفُ من الكتابِ المقدَّسِ هو أن يُدخِلَنا في هذا الإمتلاء، بحسب الحقيقةِ التي ذكرَها القديسُ بولس في الآياتِ السابقة. فبِحسبِ هذه الغايةِ إذًا، وبهذه النيَّة، يجبُ أن يُدرَسَ الكتابُ المقدَّسُ ويُعَلَّمَّ ويُفهَمَ”.
“حتى نجنِيَ هذا الثمرَ، ونَصِلَ إلى الهدفِ، ونسيرَ في الطريقِ القويمِ بهُدى الكتابِ نفسِه، يجبُ أن نبدأَ بالبداية: أَي أَن نتقدَّمَ بإيمانٍ نقيٍّ إلى الآبِ أبي الأنوار، ونجثُوَ أمامَه بقلوبِنا، حتى يمنحَنا بٱبنِه وفي الرُّوحِ القُدُس أن نَعرِفَ يسوعَ المسيح معرفةً حقيقية، ومع المعرفةِ يمنحَنَا المحبَّة”.

“إذا ترسَّخْنا في الإيمانِ وتأصَّلْنا في المحبَّة ٱستطَعْنا أن نعرِفَ ما العَرضُ والطولُ والعلُوُّ والعُمقُ في الكتابِ المقدَّس، وبلَغْنا بهذه المعرفةِ إلى المعرفةِ الكاملة، وإلى الحبِّ المتَّقدِ للثالوثِ القدُّوس، الذي إليه تصبو قلوبُ جميعِ القدِّيسين، وحيثُ وجودُ وكمالُ كلِّ حقٍّ وكلِّ خير”.

أوريجينوس (185- 253)

يوصي أوريجينوس في رسالته إلى غريغوريوس قائلاً: “كرِّس نَفْسَكَ لِقراءةِ الكتاباتِ الإلهيّة؛ وٱنكبَّ على هذا بِثبات. وٱلتَزِم بِالقراءةِ بِقصدِ الإيمانِ باللهِ وإرضائِه. وإذا وَجَدِتَ نفسَكَ أثناءَ القراءةِ أمامَ بابٍ مُغلق، فٱقرعِ البابَ وسيَفتَحُ لكَ ذاكَ الحارِسُ الَّذي قال فيه يسوع: “الحارِسُ سوفَ يَفتَحَه له”. وفي ٱنكبابِكَ هكذا على القراءةِ الإلهيَّةِ، إِبحث بِصدقٍ وثِقَةٍ باللهِ لا تتزعزع عن معنى الكتاباتِ الإلهيَّةِ الَّذي يتوارى فيها بشكلٍ كبير. ولكن لا ينبغي لكَ أنْ تَكتَفي بقرعِ الباب والبحث: فكي تَفْهَمَ أُمورَ اللهِ لا بدَّ لكَ من الصَّلاة. فلكي يَحُثُّنا على الصَّلاةِ لم يَقُلْ لنا المُخلِّصُ فقط: “أُطلبوا تجدوا”، و”إِقرعوا يُفتَح لكم”، بل زادَ على ذلكَ: “إِسألوا تُعطوا” (الرسالة إلى غريغوريوس، 4).

الكتاب المقدس في قول القديس فرنسيس الأسيزي

“قِراءَةُ الكِتابِ المُقَدَّسِ هي بِمَثابَةِ ٱستِشارَةِ المَسيح”.
(القديس فرنسيس الأسيزي 1182- 1226)
الكتاب المقدس والقديس إيزيدورس الأُسقُف ومُعلِّمُ الكنيسة (560- 636)

“مَن أرادَ أن يكونَ دائمًا مع الله، يَجِبُ أن يصلِّيَ كثيرًا، ويقرأَ كثيرًا. لأنَّنا عِندَما نُصلِّي نَتَكَلَّمُ مَعَ الله. وعِندَما نَقرأُ، فاللهُ هو الذي يُكَلِّمُنا”.

“فائدتان نَجنِيهما من قراءةِ الكتُبِ المقدَّسةِ: العقلُ يَتَثَقَّفُ، والإنسانُ يَبتعِدُ عن أباطيلِ العالمِ ويَتَحَوَّلُ إلى حُبِّ الله. وفائدتان من الدراسةِ والقراءة: الأولى، نَفهَمُ الكتُبَ المُقدَّسةَ. والثانيةُ، نتعلَّمُ كيف نعلِّمُها بما يَلِيقُ ويُفيدُ. فَلْيَكنِ القارئُ مُستَعِدًّا من قبل لفَهمِ ما يَقرأُ، ليكونَ أهلاً في ما يَعدُ لأَنْ يَبْلِّغَ ما تَعَلَّمَ”.

“لا يَقدِرُ أحدٌ أن يَعرِفَ معنى الكُتُبِ المُقَدَّسةِ، إلاَّ إذا أكثرَ من قراءتِه. فقد كُتِبَ: “إِرفَعْهَا فَتُعلِيَكَ، إذَا عَانَقْتَهَا فَإنَّهَا تُمَجِّدُكَ” (أمثال 4: 8).

“كُلَّما ثابَرَ القارئُ على قراءةِ الكتُبِ المُقدَّسةِ، زادَ فهمًا لها ومَعرِفَةً بها. فهي مثلُ الأرضِ، كُلّما فلَحَها الفلاَّحُ أعطَتْ ثَمَرًا أوفِرَ”.

الكتاب المقدس والقديس يوحنا كاسيان من مرسيليا (360- 435)
“يَجِبُ أَنْ تَكونَ لدينا الحَمِيَّةُ في حِفظِ مَجموعَةِ الأَسفارِ المُقَدَّسَة، وأَن نَستَعيدَها في ذاكِرتِنا بلا ٱنقطاع. إذْ فيما يَكونُ الإِنتِباهُ مُنْشَغِلاً بالقِراءَةِ والدَّرس، لا يَعودُ للأَفكارِ السَّيِّئَةِ سَبيلٌ مِن بَعدُ إِلى أَسْرِ النَّفْسِ في شِباكِها. ولَكِن، إِنْ كُنتُم تَبْتَغونَ التَّوَصُّلَ إِلى مَعرِفَةٍ حَقيقِيَّةٍ للكُتُبِ المُقَدّسَة، فَعَجِّلوا أَوَّلاً إِلى ٱكتسابِ تواضُعِ قَلبٍ راسِخ. فهو الَّذي يَقودُكُم، لا إِلى العِلْمِ الَّذي يَنفُخ (1قور 8: 1ب)، بل إِلى العِلْمِ الَّذي يُنيرُ بإِتمامِ المَحَبَّة؛ إِذْ يَستَحيلُ على النَّفْسِ غَيرِ المُطَهَّرَةِ أَنْ تَفوزَ بِهِبَةِ العِلْمِ الرُّوحِيّ… وٱحذروا بأَبْلَغِ الإِهتِمامِ شأنًا مِن أَنْ تَصيرَ حَمِيَّتُكُم للمُطالَعَةِ سَبَبَ هلاكٍ بٱدّعاءَاتٍ باطِلَة”.

القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (نحو 345 – 407)، بطريرك أنطاكية ثمّ
القسطنطينيّة وملفان الكنيسة
العظة الثالثة عن أعمال الرسل
القدّيس لوقا الإنجيليّ: «رأيتُ… أن أكتب لك الرواية مرتّبةً» (لو 1: 3)

“إنّ قراءة الكتب المقدّسة مَرجٌ روحيّ وجنّة أفراح، أجمل بكثير من الجنّة القديمة. هذه الجنّة، لم يزرعها الله في الأرض، بل في نفوس المؤمنين. لم يجعلها في عدن، ولا في مكان معيّن في الشرق (تكوين 2: 8)، بل نَشَرَها في جميع أنحاءِ الأرض حتّى أقاصي المسكونة. وبما أنّك تفهم أنّه نشر الكتب المقدّسة في المسكونة كلّها، فٱسمع قول النبيّ: “في الأرضِ كُلِّها سُطورٌ بارِزة وكَلماتٌ إِلى أَقاصي الدُّنْيا بَيِّنة” (مز 19[18]: 5؛ رو10: 18)…

“في هذه الجنّة نبع كما في الجنّة القديمة (تكوين 2: 6 + 10)، نبع تولد منه أنهار لا تُحصى… مَن يقول ذلك؟ الله نفسه الّذي وهبنا كلّ هذه الأنهار: “ومَن آمنَ بي، كما ورَدَ في الكِتاب: ستَجْري مِن جَوفِه أَنهارٌ مِنَ الماءِ الحَيّ” (يوحنا 7: 38)… هذا النبع فريد من نوعه ليس فقط بسبب سخائِه، ولكن أيضًا بطبيعته. في الواقع، إنّها ليست أنهار مياه، بل مواهب الرُّوح. هذا النبع ينقسم في نفوس جميع المؤمنين، لكنّه لا ينقص. ينقسم، لكنّه لا ينفد… هو بكامِلِه للجميع، وبكامِلِه في كلِّ فرد: هذه هي في الواقع مواهِبِ الرُّوح”.

“هل تريد أن تعلم مدى سخاء هذه الأنهار؟ هل تريد أن تعلم ما هي طبيعة هذه المياه؟ وبِمَ تختلف عن المياه السُّفليّة هنا، لأنّها أفضل وأروع منها؟ فٱسمع مُجَدَّدًا المسيح يُخاطِب السامريّة لكي تفهم سخاء هذا النبع: “الماءُ الَّذي أُعطيهِ إِيَّاهُ (لِمَن يُؤمِن) يصيرُ فيه عَينَ ماءٍ يَتفَجَّرُ حَياةً أَبَديَّة” (يوحنا 4: 14)… هل تريد أن تعرف أيضًا طبيعته؟ ٱستعمله! إنّه ليس مُفيدًا لهذه الحياة الدنيا، بل للحياة الأبديّة. فلنمضِ وقتنا إذًا في هذا الفردوس: ولنكن مدعوّين لنشرب من هذا النبع”.

من مؤلفات القديس هيبوليتس الكاهن والشهيد (170- 235) في معارضة هرطقة نُوِيتْيُوس
إعلان السر المكتوم
إنَّ اللهَ واحدٌ أحَد: عرَفْنَا ذلك من الكتابِ المقدَّسِ، وليسَ من مصدرٍ آخَرَ سِواه. فما يَعِظُنا به كتابُ اللهِ يجبُ أن نعرِفَه. وما يُعلِّمُنا إيّاه يجبُ أن نتعلَّمَه. يريدُ الآبُ أن نؤمنَ به، فَلْنؤمِنْ. ويريدُ أن يُمجَّدَ الابنُ، فَلْنُمجِّدْهُ. ويريدُ أن يَهَبَنا الروحَ القدسَ، فَلْنَستقبِلْهُ. ولا تكُنْ معرفتُنا للكتابِ بحسَبِ ما نريدُ، أو بحسَبِ ما نَقدِرُ أن نَفهمَ، ولا نَضَعِ الحواجزَ أمامَ ما وهبَنا إيَّاه الله، بل لِنفهَمِ الأمورَ كما أرادَ اللهُ أن يُعلِّمَنا إيّاها في الكُتُبِ المقدَّسة.
ولمّا كانَ اللهُ واحدًا أحدًا، لا شريكَ له، أرادَ أن يَخلِقَ العالمَ. بفكرِه وبإرادتِه وبكلمتِه خلَقَ العالَمَ. كما أرادَه أن يكونَ هكذا كانَ، وبالصورةِ التي أرادَها صنَعَهُ. يَكفِينا أن نَعرِفَ فقط أنّ اللهَ لا شريكَ له. لم يكُنْ سواه أحَدٌ. هو واحدٌ وهو كاملٌ كثِيرُ الصفَاتِ. إذ لم يَكُنْ من غيرِ فكرٍ، أو حكمةٍ، أو قُدرةٍ أو مَشُورَةٍ. كلُّ هذا فيه: وهو كلُّ هذا. لمّا شاءَ، وكما شاءَ، وفي الزمنِ الذي حدَّدَه، أظهرَ كلمتَه الذي به صنَعَ كلَّ شيءٍ.
كانَ الكلمةُ في ذاتِه، وكانَتْ الخليقَةُ عاجزةً عن إدراكِه، فجعَلَها قادرةً على إدراكِه. قالَ كلِمَةً، فوَلَدَ نُورًا من نور، وأرسلَه ربًّا إلى الخليقةِ، وهو ذاتُ فِكرِه. في البدءِ كانَ له فقط منظورًا، وللخليقةِ لم يكُنْ منظورًا، فجعلَه لها منظورًا، حتى إذا ما ظهَرَ ورَآهُ العالم، استطاعَ أن ينالَ به الخلاص.
هذا هو فِكرُ اللهِ: أتَى إلى العالَمِ فظهَرَ فيه عبدًا لله. كلُّ شيءٍ كُوِّنَ به، وهو وحدَه أتَى من الآبِ (يو1: 3)، (1قور 8: 6)، (قولسي 1: 16)، (عبر 2: 10).
هو الذي أعطى الشريعةَ والأنبياءَ، وحمَلَهم على الكلامِ بقوَّةِ الروحِ القدس. ألهَمَهُمُ اللهُ الآبُ الحقيقةَ، فبشَّروا بها بحسِبِ مَشُورةِ الآبِ وإرادتِه.
أظهرَ الكلمةُ ذاتَه، كما قالَ يوحنا، مُلخِّصًا ما قالَه الأنبياءُ، ومبيِّنًا أنَّ هذا هو الكلمةُ الذي كُوِّنَ به كلُّ شيء. قال: “في البَدءِ كَانَ الكَلِمَةُ، وَالكَلِمَةُ كَانَ لَدَى الله، وَالكَلِمَةُ هُوَ الله. بِهِ كَانَ كُلُّ شَيءٍ. وَبِدُونِهِ مَا كَانَ شَيءٌ مِمَّا كَانَ.” (يوحنا 1: 1 و3). وقالَ أيضًا: “بِهِ كَانَ العَالَمُ وَالعَالَمُ لَم يَعرِفْهُ. جَاءَ إلى بَيتِهِ فَمَا قَبِلَهُ أهلُ بَيتِهِ” (يوحنا 1: 10-11).

 

كلمة الله القدّيس مكسيمُس الطورينيّ (؟ – نحو 420)، أسقف

التغذّي من الكلمة التي تخرج من فم الله
أجاب المخلّصُ على تجربة إبليس له: “ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله”. هذا يعني: “لا يحيا الإنسان بخبز هذا العالم، ولا بالغذاء المادّي الذي ٱستعملتَهُ لتَغُشَّ آدم، الإنسان الأوّل، لكن بكلمة الله، بكلمته الذي يحتوي على غذاء الحياة السماويّة”. لكن كلمة الله هي المسيح ربّنا، كما قال الإنجيليّ: “ففي البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله” (يو1: 1). كلّ مَن يَتَغَذَّى إذًا من كلامِ الرّبِّ يسوعَ المسيح، لا يعودُ بحاجةٍ إلى غذاءٍ أرضيّ. لأنَّ ذاكَ الذي يَتَجَدَّدُ بخبزِ الرَّبِّ لا يمكن أن يرغبَ في خبزِ هذا العالم. بالفعل، للرَّبِّ خبزه، أو بالأحرى فإنّ المُخلِّص هو نفسُه خبزٌ، كما علّم بهذه الأقوال: “أَنا الخُبزُ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء” (يو6: 41). وهذا الخبز جعل النبيّ يقول: “ويُسنِدَ الخُبزُ قَلبَ الإِنْسان” (مز104 [103]: 15).

لماذا يَهُمُّني الخبزُ الذي يُقَدِّمُه إبليس، وأَنا لَدَيَّ الخبزُ الَّذي يُعطيه الرَّبُّ يسوعُ المسيح؟ لماذا يَهُمُّني الغذاءُ الَّذي أَدَّى إلى طردِ الإنسانِ الأوَّلِ من الجنَّة، والَّذي جعل عيسو يفقد حقّة بالبكريّة… (راجع تك25: 29 وما يليها)، والذي ٱختار يهوذا الإسخريوطي كخائن (يو13: 26 وما يليها)؟ بالفعل، فإنّ آدم فَقَدَ الجنّة بسبب الغذاء، وعيسو فَقدَ حقّة بالبكريّة من أجل طبق عدس، ويهوذا تخلّى عن مركزه كرسول من أجل لُقمة: لأنّه عندما أخذ لُقمة، لم يَعُد رسولاً بل أصبح خائنًا… الغذاء الذي علينا أن نأخذه هو الغذاء الذي يفتح الطريق للمخلّص لا للشيطان، والذي يُحَوّل من يبتلعه إلى مُعترف بالإيمان لا إلى خائن.

للرَّبِّ الحقّ في القول، في زمن الصوم هذا، إنَّ كلمةَ اللهِ هو الذي يُغَذِّي، لِيُعَلِّمَنا أنَّه علينا ألاّ نمضي صيامنا مُهْتَمِّينَ بهذا العالم، إنّما بقراءة النصوص المقدّسة. بالفعل، مَن يَتَغَذَّى من الكتابِ المُقدَّسِ يَنسى جوعَ الجَسَدِ؛ مَن يَتَغَذَّى من الكلمةِ السَّماوي، ينسى الجوع. هذا هو الغذاء الحقيقي الذي يُغَذِّي النَّفْسَ ويُشبِعُ الجائِع…: هو يعطي الحياة الأبديّة ويُبعِدُ عنّا فِخاخ تجارب الشيطان. إنّ قراءة النصوص المقدّسة هذه، هي حياة، كما شهد الرَّبّ: “الكَلامُ الَّذي كلَّمتُكُم به رُوحٌ وحَياة” (يو6: 63).

 

قول القديس يوحنا الذهبي الفم في الكتاب المقدس
(349- 407)

“المروج والبساتين جميلة، لكنّ قراءة الكتاب المقدّس أجمل. هنالك ترى الأزهار الّتي تذوي وتذبل، وهنا الأفكارُ تُزهِر. هنالك يهبّ النّسيم، وهنا روح الله. هنالك الشوك يُسيّج البستان، وهُنا عنايةُ الله تُسوِّرُ حياتَنا… البستان عُرضة لتأثيرِ الفصول، والكتاب المقدّس لا يؤثّر فيه صيف ولا شتاء، بل هو على الدّوام مُورِق وحامل الأثمار”.
“مَن يقرأ الكتابَ المقدس كمَن يَجِدُ كَنزًا”.

القديس لورنسيوس من برنديزي الكاهن ومعلم الكنيسة (1559- 1619)

“كلامُ اللهِ هو كَنـزُ جميعِ الخيراتِ. منه الإِيمانُ ومِنه الرَّجاءُ ومِنه المَحَبَّةُ، ومِنه كُلُّ الفَضائِلِ ومَواهِبُ الرُّوحِ القُدُسِ كُلُّها، وجَميعُ التَّطويباتِ الإِنجيليّةِ، وجَميعُ الأَعمالِ الصَّالِحَةِ، وكُلُّ ٱستحقاقاتِ الحياةِ، وكُلُّ مَجْدِ السَّماءِ”.
(القديس لورنسيوس من برنديزي الكاهن ومعلِّمُ الكنيسة 1559- 1619)

“كَلِمَةُ اللهِ هي نورٌ لِلعَقلِ (مزمور 19: 8)، ونارٌ للإِرادةِ، بِها يَقْدِرُ الإِنسانُ أَنْ يَعْرِفَ وأَنْ يُحِبَّ. وللإِنسانِ الباطنيِّ الَّذي يَحيا بالنِّعمَةِ بِروحِ اللهِ هي لَه الخُبزُ والماءُ، بل خُبزٌ أَحلى مِنَ الشَّهْدِ والعَسَلِ. هي لِلنَّفْسِ كَنـزُ الإِستِحقاقاتِ الرُّوحِيَّةِ. ولهذا يُقالُ فيها إِنّها ذَهَبٌ وحِجارَةٌ كَريمَةٌ. هي مِطرَقةٌ للقَلبِ القاسي والعاصي في رذائِلِه، وسَيفٌ للجَسَدِ والعالمِ والشَّيطانِ يَقتُلُ كُلَّ خَطيئة”.
(القديس لورنسيوس من برنديزي الكاهن ومعلِّمُ الكنيسة 1559- 1619)

كلمة الله في قول القديس اسحق السرياني الأُسقُف (700†)

“إِنَّ مَن يَقرأ الكُتُبَ المُقَدَّسَةِ بِلامُبالاةٍ يَجِفُّ قَلبُه وتُخْمَدُ فيه تلكَ القُوَّةُ المُقدَّسَةُ الَّتي تَمنَحُ القَلبَ مَذاقًا حُلوًا وتُساعِدُ النَّفْسَ على الفَهْمِ بطريقَةٍ عجيبة”.
“الَّذي يَبْني نَفْسَه أَخيَرَ لَه مِن أَن يَنفَعَ المَسكونَةَ كُلّها ….. القِراءةُ في الكُتُبِ المُقَدَّسَة”.
“إِذا كُنتَ تُحِبَّ العِفَّة فٱطرُدْ الأَفكارَ القَبيحَةَ بالمُطالَعَةِ والصَّلاة …”.
“حَرارَةُ النَّفْسِ تَتَوَلَّدُ من القِراءَةِ الدَّائِمَةِ في سِيَرِ التَّدبيرِ المُقتَرِنِ بالأَعمالِ مع الصَّلوات”.
“تَفَرَّغْ دائِمًا لِمُطالَعَةِ الكُتُبِ الإِلهِيَّةِ والتَّأَمُّلِ فيها حتَّى لا تَتَدَنَّسَ مُشاهَدَتُكَ بأُمورٍ غَريبَةٍ بِسَبَبِ بَطالَةِ ذِهْنِكَ”.
“توجَدُ قِراءَةٌ تُعَلِّمُكَ كيفَ تُدبِّرُ أُمورَكَ، وتوجَدُ قِراءَةٌ تُشْغِلُ النَّفْسَ بِحلاوَةِ الفَضيلَة”.
“عَمَلُ القِراءَةِ مُرتَفِعٌ جِدًّا لأَنَّه هو البابُ الَّذي يَدْخُلُ فيه الذَّهْنُ إِلى الأَسرارِ الإِلهِيَّة”.

كلمة الله في قول القديس أمبروزيوس

العذراء تدعو كُلَّ مؤمنٍ إلى أن يتبنّى كلمات يسوع: “طوبى للذين لم يروا وآمنوا” (يو 20: 29). فمريم هي صورة مصلّي الكلمة الحقيقيّ، الذي يعرف أن يحفظ كلام الله بحبّ، جاعلاً منها خدمةَ محبَّة، وذكرًا مستمرًّا لإمساك سراج الإيمان مشتعلاً في حياتنا اليوميَّة. ففي نظر القدّيس أمبروسيوس، كلُّ مسيحيّ يؤمن، يحمل بكلمة الله، ويلده؛ وإن لم يُوجَد سوى أمٍّ واحدة للمسيح بحسب الجسد، فبحسب الإيمان يسوع هو ثمرة الجميع.

“حين يبدأ الإنسان في قراءة الكتاب الإلهيّ، يعود الله ويمشي قربه في الفردوس الأرضيّ”.

“إنَّنا نتحدَّثٌ إلى الله عندما نُصلِّي، ولكنَّنا نَستَمِعُ إليه عندما نقرأُ آياتِ الوحيِ الإلهي”.

“إنَّها محضٌ كلماتٌ ولكنها تُطَهِّرُ ومَن يُصغي إلى الكلمةِ فهو طاهرٌ”.

“أيُّ شخصٍ يثِقُ بكلمةِ الله لا يرتكبُ أيَّ عملٍ يبعثُ على الحزنِ والقلق، ولكنَّه يبقى دائمًا سيد تصرفاته ويعرف كيف يحافظ على الفرح بضمير صالح”.

“مَن يقرأْ كثيرًا يَفهَمْ كثيرًا ويَمتلئْ. ومَن ٱمتلأَ سقى غيرَه. يقولُ الكتاب: “إِذا ٱمتَلأَتْ العُيُونُ مِنَ المَطَرِ تَصُبُّهُ عَلَى الأرضِ” (جامعة 11: 3).

كلمة الله والبابا فرنسيس
الإرشاد الرّسولي “فرح الإنجيل (Evangelii Gaudium)”، الأعداد 174-175
«وأَمَّا الَّذي زُرِعَ في الأَرضِ الطَّيِّبة، فهُو الَّذي يَسمَعُ الكَلِمة ويَفهَمُها فيُثمِرُ ويُعطي بَعضُه مِائة، وبَعْضُه سِتِّين، وبَعضُه ثلاثين»
إنّ البشارة كلّها مرتكزة على كلمة الله المسموعة والمتأمَّلة والمُعاشة والمحتفَل بها والمشهود لها. والكتاب المقدّس هو نبع التبشير. فبالتالي، علينا أن نتنشّأ بٱستمرار على الإصغاء إلى الكلمة. لا تستطيع الكنيسة أن تبشِّر إن لم تدع نفسها تُبَشَّر بٱستمرار. من الضروريّ “أن تصبح كلمة الله أكثر فأكثر قلب كلّ نشاطٍ كنسيّ” (البابا بندكتس السادس عشر). فكلمة الله المسموعة والمحتفَل بها، خاصّةً في الإفخارستيّا، تغذّي وتقوّي المسيحيّين داخليَّا وتجعلهم قادرين على شهادة حقيقيّة للإنجيل في الحياة اليوميّة. لقد تخطّينا التناقض القديم بين الكلمة والسرّ. الكلمة المعلَنَة، الحيّة والفعّالة، تهيّء لقبول السرّ، وفي السرّ تبلغ هذه الكلمة ذروة فعاليّتها. يجب أن تكون دراسة الكتاب المقدّس بابًا مفتوحًا لجميع المؤمنين. من المهمّ أن تُخصِب الكلمةُ المعلنة جذريًّا التعليمَ المسيحيّ وجميعَ الجهود لنقل الإيمان. يتطلّب التبشير معرفة بكلمة الله وهذا يفرض أن تقدّم الأبرشيّات والرعايا والتجمّعات الكاثوليكيّة كلّها دراسةً جدّيّة ومثابِرة للكتاب المقدّس، وأن تشجِّع أيضًا على القراءة المصلّية الشخصيّة والجَماعيّة. نحن لا نتلمّس طريقنا في الظلمة، ولا يجب أن ننتظر أن يخاطبنا الله، ففي الواقع، “الله تكلّم، لم يعد المجهول الأكبر، لكنّه أظهر ذاته” (البابا بندكتس السادس عشر). فلنستقبل كنز الكلمة المُعلَنَة السامي.

من كتابات القديس بونافنتورا الأسقف (1218-1274)
(المقدمة: مجموعة المؤلفات 5، 201-202)
معرفةُ الكتابِ المقدَّسِ كلِّه من معرفةِ يسوعَ المسيح
ليسَ الكتابُ المقدَّسُ ثمرةَ أبحاثٍ بشرية. إنّما مَصدرُه هو الوَحيُ الإِلهيُّ، الآتي من لَدُن أَبي الأَنوار، الذي مِنه كُلُّ أُبُوَّةٍ في السَّماءِ وعلى الأَرض. مِنه وبٱبنِه يسوعَ المسيحِ يُفاضُ الرُّوحُ القُدُسُ فينا. وبالرُّوحِ القُدُسِ، الَّذي يُوَزِّعُ مواهِبَهُ ويُشرِكُ فيها كُلَّ واحدٍ بحَسَبِ مَشيئَتِه، نَنالُ الإيمان. وبالإيمانِ يَسْكُنُ المَسيحُ في قُلوبِنا. هذِه هي مَعرِفَةُ يسوعَ المسيح، وهي أَساسُ فَهْمِ الكتابِ المُقدَّسِ كُلِّه وأَساسُ ثَباتِه.
ومِن ثَمَّ من المَستحيلِ أَنْ يَفْهَمَ أَحَدٌ الكِتابَ المُقدَّسَ ما لم يكُنْ الإيمانُ بيسوعَ المسيحِ قد أُفِيضَ فيه: فهو المِصباحُ والمَدخَلُ والأَساسُ لِكُلِّ الكِتابِ المُقدَّس. لأنَّنا ما دُمْنا نَعيشُ في غُربتِنا بَعيدينَ عن الله، فإِنَّ الإيمانَ هو نَفْسُه القاعِدَةُ الصَّلْبَةُ والنُّورُ الهادي والبابُ الذي يُدخِلُنا إلى جميعِ الإِلهاماتِ الفائِقَةِ الطَّبيعة. وبحَسَبِ مِقدارِ إيمانِنا يكونُ قبولُنا للحِكمةِ الَّتي يَمنَحُنا إيَّاها الله، “فلا نَذْهَبْ في الإِعتدادِ بأنْفُسِنا مَذْهَبًا يُجاوِزُ المَعقول، بل نَتَعَقَّلُ ونكونُ من العُقلاء، كُلُّ واحِدٍ على مِقدارِ ما قَسَمَ اللهُ لَهُ مِنَ الإِيمان” (روما 12: 3).
ليسَتْ غايةُ الكتابِ المقدَّسِ أَو ثَمَرَتُه أَمرًا هَيِّنًا، بل هو مِلءُ السَّعادَةِ الأَبَديَّة. لأَنَّ الكِتابَ الَّذي يَتَضَمَّنُ كلِماتِ الحياةِ الأَبَديَّةِ كُتِبَ ليسَ فقط لكي نُؤمِنَ، ولكِنْ لكي تكونَ لنا الحياةُ الأَبَدِيَّةُ أَيضًا، حيثُ نُشاهِدُ ونُحِبُّ، وحيثُ تُلَبَّى جَميعُ رغباتِنا. ومتى ٱستُجِيبَت رَغَباتُنا عَرَفْنا حَقًّا “المَحَبَّةَ الَّتي تَفوقُ كُلَّ مَعْرِفَة، وٱمتلأْنا بِكُلِّ ما في اللهِ من كَمال” (أفسس 3: 19). والهدَفُ من الكِتابِ المُقَدَّسِ هو أَنْ يُدخِلَنا في هذا الإِمتلاء، بحَسَبِ الحَقيقةِ الَّتي ذَكَرَها القدِّيسُ بولس في الآياتِ السَّابقة. فبِحَسَبِ هذِه الغايةِ إِذًا، وبهذِه النِّيَّة، يَجِبُ أَنْ يُدرَسَ الكِتابُ المُقَدَّسُ ويُعَلَّمَ ويُفهَمَ.
وحتَّى نَجْنِيَ هذا الثَّمَرَ، ونَصِلَ إِلى هذا الهدفِ، ونَسيرَ في الطَّريقِ القَويمِ بهُدى الكِتابِ نَفْسِه، يَجِبُ أَنْ نَبدأَ بالبداية: أَي أَنْ نَتَقَدَّمَ بإيمانٍ نَقِيٍّ إِلى الآبِ أَبي الأَنوار، ونَجثُوَ أَمامَه بقلوبِنا، حتَّى يَمْنَحَنا بٱبنِه وفي الرُّوحِ القُدُسِ أَنْ نَعْرِفَ يسوعَ المسيحِ مَعرفَةً حَقيقية، ومعَ المعرفةِ يَمْنَحَنا المَحَبَّة. فإِذا تَرَسَّخْنا في الإِيمانِ وتأَصَّلْنا في المَحَبَّةِ ٱستطَعْنا أَنْ نَعْرِفَ ما العَرضُ والطُّولُ والعلُوُّ والعُمقُ في الكِتابِ المُقَدَّس، وبلَغْنا بهذِه المَعرِفَةِ إِلى المَعرِفَةِ الكامِلَةِ، وإِلى الحُبِّ المُتَّقدِ للثالوثِ القُدُّوس، الَّذي إِليه تَصبو قُلوبُ جَميعِ القدِّيسين، وحيثُ وجودُ وكمالُ كُلِّ حَقٍّ وكُلِّ خير.

من كتابات القديس بونافنتورا الأسقف
(المقدمة: مجموعة المؤلفات 5، 201-202)
معرفةُ الكتابِ المقدَّسِ كلِّه من معرفةِ يسوعَ المسيح
ليسَ الكتابُ المقدَّسُ ثمرةَ أبحاثٍ بشرية. إنّما مَصدرُه هو الوَحيُ الإِلهيُّ، الآتي من لَدُن أَبي الأًنوار، الذي مِنه كُلُّ أُبُوَّةٍ في السَّماءِ وعلى الأَرض. مِنه وبٱبنِه يسوعَ المسيحِ يُفاضُ الرُّوحُ القُدُسُ فينا. وبالرُّوحِ القُدُسِ، الَّذي يُوَزِّعُ مواهِبَهُ ويُشرِكُ فيها كُلَّ واحدٍ بحَسَبِ مَشيئَتِه، نَنالُ الإيمان. وبالإيمانِ يَسْكُنُ المَسيحُ في قُلوبِنا. هذِه هي مَعرِفَةُ يسوعَ المسيح، وهي أَساسُ فَهْمِ الكتابِ المُقدَّسِ كُلِّه وأَساسُ ثَباتِه.
ومِن ثَمَّ من المَستحيلِ أَنْ يَفْهَمَ أَحَدٌ الكِتابَ المُقدَّسَ ما لم يكُنْ الإيمانُ بيسوعَ المسيحِ قد أُفِيضَ فيه: فهو المِصباحُ والمَدخَلُ والأَساسُ لِكُلِّ الكِتابِ المُقدَّس. لأنَّنا ما دُمْنا نَعيشُ في غُربتِنا بَعيدينَ عن الله، فإِنَّ الإيمانَ هو نَفْسُه القاعِدَةُ الصَّلْبَةُ والنُّورُ الهادي والبابُ الذي يُدخِلُنا إلى جميعِ الإِلهاماتِ الفائِقَةِ الطَّبيعة. وبحَسَبِ مِقدارِ إيمانِنا يكونُ قبولُنا للحِكمةِ الَّتي يَمنَحُنا إيَّاها الله، “فلا نَذْهَبْ في الإِعتدادِ بأنْفُسِنا مَذْهَبًا يُجاوِزُ المَعقول، بل نَتَعَقَّلُ ونكونُ من العُقلاء، كُلُّ واحِدٍ على مِقدارِ ما قَسَمَ اللهُ لَهُ مِنَ الإِيمان” (روما 12: 3).
ليسَتْ غايةُ الكتابِ المقدَّسِ أَو ثَمَرَتُه أَمرًا هَيِّنًا، بل هو مِلءُ السَّعادَةِ الأَبَديَّة. لأَنَّ الكِتابَ الَّذي يَتَضَمَّنُ كلِماتِ الحياةِ الأَبَديَّةِ كُتِبَ ليسَ فقط لكي نُؤمِنَ، ولكِنْ لكي تكونَ لنا الحياةُ الأَبَدِيَّةُ أَيضًا، حيثُ نُشاهِدُ ونُحِبُّ، وحيثُ تُلَبَّى جَميعُ رغباتِنا. ومتى ٱستُجِيبَت رَغَباتُنا عَرَفْنا حَقًّا “المَحَبَّةَ الَّتي تَفوقُ كُلَّ مَعْرِفَة، وٱمتلأْنا بِكُلِّ ما في اللهِ من كَمال” (أفسس 3: 19). والهدَفُ من الكِتابِ المُقَدَّسِ هو أَنْ يُدخِلَنا في هذا الإِمتلاء، بحَسَبِ الحَقيقةِ الَّتي ذَكَرَها القدِّيسُ بولس في الآياتِ السَّابقة. فبِحَسَبِ هذِه الغايةِ إِذًا، وبهذِه النِّيَّة، يَجِبُ أَنْ يُدرَسَ الكِتابُ المُقَدَّسُ ويُعَلَّمَ ويُفهَمَ.
وحتَّى نَجْنِيَ هذا الثَّمَرَ، ونَصِلَ إِلى هذا الهدفِ، ونَسيرَ في الطَّريقِ القَويمِ بهُدى الكِتابِ نَفْسِه، يَجِبُ أَنْ نَبدأَ بالبداية: أَي أَنْ نَتَقَدَّمَ بإيمانٍ نَقِيٍّ إِلى الآبِ أَبي الأَنوار، ونَجثُوَ أَمامَه بقلوبِنا، حتَّى يَمْنَحَنا بٱبنِه وفي الرُّوحِ القُدُسِ أَنْ نَعْرِفَ يسوعَ المسيحِ مَعرفَةً حَقيقية، ومعَ المعرفةِ يَمْنَحَنا المَحَبَّة. فإِذا تَرَسَّخْنا في الإِيمانِ وتأَصَّلْنا في المَحَبَّةِ ٱستطَعْنا أَنْ نَعْرِفَ ما العَرضُ والطُّولُ والعلُوُّ والعُمقُ في الكِتابِ المُقَدَّس، وبلَغْنا بهذِه المَعرِفَةِ إِلى المَعرِفَةِ الكامِلَةِ، وإِلى الحُبِّ المُتَّقدِ للثالوثِ القُدُّوس، الَّذي إِليه تَصبو قُلوبُ جَميعِ القدِّيسين، وحيثُ وجودُ وكمالُ كُلِّ حَقٍّ وكُلِّ خير.