عظة أحد الشعانين

الأب بيتر مدروس

“قرقعنا” المؤمنون و”جرّسونا” نحن الإكليروس : “متى توحّدون الأعياد؟ هذه السنة الفرق بين العيدين للفصح أسبوع واحد!” ونردّد أنّ العيد واحد وصاحب العيد واحد وتاريخ العيد واحد أي الأحد الأوّل بعد بدر الربيع. الفرق هو فقط علمي فلكي. وقبل عدّة سنوات، طرح قداسة البابا فرنسيس والأنبا تاوضروس الثاني بطريرك الأقباط الأرثوذكس فكرة توحيد التقويمين. ولكن يبدو أنّ مجمع الروم الأرثوذكس القادم يرفض مناقشة الموضوع…
بشكل عملي، وحّد المؤمنون والإكليروس المحلّي التقويمين في كلّ من روسيا والدول الأرثوذكسية الأوروبية الشرقية والأردن ومصر واليونان وقبرص وبعض رعايا في فلسطين، حيث الكاثوليك قلّة فهم يتبعون التقويم اليولياني مع أشقّائهم الأرثوذكس.

“تبارك الملك الآتي باسم الرب!”
ما زلنا على خلاف- أحسبه يدوم إلى يوم القيامة- مع “أبناء عمّنا” اليهود و”النصرانيين اليهود” حول مُلك السيّد المسيح: أعلن له المجد أنّ ” ملكوته ليس من هذا العالم” (يو 18: 36) ويصرّ قوم موسى أن الماشياح المنتظر يجب أن يكون سياسيا عسكريا صهيونيا، يبسط سلطة العبرانيين ليس فقط على فلسطين وسائر الشرق الأوسط بل على المعمور كلّه، وحوله حريم يَلِقْنَ بالسلطان، وفي رصيده أموال لا تأكلها الدود، وعنده نفوذ وخدع وحنكة سياسية وسيطرة إقليمية لا تخلو من غدر ومن عنف ومن إبادات.
ويزجر كتبة وفرّيسيّون الأطفال الذين كانوا يهتفون مشيدين بحياة المسيح الملك. ويجيب السيّد المجيد: “لو سكت هؤلاء لنطقت الحجارة!” وبصراحة ربّنا، نخشى نحن، معشر مسيحيي الشرق الأوسط، ألاّ يبقى منّا أحد، وقد تحالفت علينا قوى من الغرب الملحد والشرق لكي تفنينا أو تنفينا، نخشى ألاّ يبقى أحد منا، نحن “الحجارة الحيّة”، وألاّ تصرخ للمسيح الملك سوى الحجارة وسط أطلال كنائسنا وبيوتنا. لا نريد أن نبكي الأطلال، كما فعل شعراء “الجاهليّة”، كما لا نريد أن “نبحث عن الحيّ بين الأموات”، فمسيحنا حيّ. ولسنا بحاجة إلى أن نهتف “يعيش” أو “ليحيَ” لأنه حيّ، ولكن نريد أن نحيا نحن أيضًا. ومثل الشعب العبري المقهور المنفي حينها (الذي يقهر غيره وينفيهم اليوم) “نذكر القدس باكين” على أنهار ما تبقّى من بابل و”دمع لا يكفكف يا دمشق”، نادبين في هذا الأسبوع المقدّس مع صاحب المراثي وحدة “المدينة كثيرة الشعب ” ووحشتها، زهرة المدائن، التي “أمست كأرملة وهي العظيمة في الأمم، السيّدة في البلدان باتت تحت الجزية” والاحتلال.

من قراءة الآلام لهذا الأحد: “صار عرق يسوع كقطرات دم تتساقط على الأرض”
يعرف الطب هذه الظاهرة تحت الاسم اليوناني المركّب “هيماتيذروسيس” αιματυδρωσις والتي تأتي من القلق والإعياء البالغين. وليست هذه التفاصيل غريبة على القدّيس لوقا “الطبيب الحبيب” الذي يُلهمه الله ويوحي إليه، وهو المدقّق في الأمور ومتقصّي الحقائق بتمعّن شديد (عن لوقا 1 : 1- 4).

“هذا الرّجُل يفتن أمّتنا وينهى عن دفع الجزية إلى قيصر ويزعم أنّه المسيح الملك”
ثلاث اتّهامات بتذكرة واحدة ! المسيح “يفتن”: هذا ما سيكرّره التلمود مردّدًا تهمة الأحبار والشيوخ : “إنّ هذا المضلّل قبل موته قال : أنا سأقوم في اليوم الثالث”: في “المحفل” سنهدرين 43 أ ، من التلمود البابلي، نقرأ : “عشية عيد الفصح عُلّق يشو(ع) لأنه كان يغوي يسرائل بالسحر” (اعتراف غير مباشر بمعجزاته). إذا فهم أحد “الفتنة” بمعنى أنّ الإيمان بيسوع أو رفضه يقسم الناس إلى أتباع وأعداء، فقد صدق المتّهم. ولا شرّ في هذه التهمة. ولكن إذا قصد أنّ الإيمان بيسوع يُسبّب الحروب والقلاقل، فقد أخطأ. بل، بخلاف ذلك، يا يهود وكلّ أهل الجحود، قبول يسوع والإنجيل يُنشىء بنعمة الله “الإنسانيّة الكاملة” (جاك ماريتان) والمودّة الشاملة و “حضارة المحبّة” (القدّيس يوحنا بولس الثاني). وهذا ما أدركه بعض عظماء التاريخ ومنهم المهاتما غاندي. والدليل أمام أعيننا: السلام والرخاء وكرامة الإنسان ولا سيّما المرأة والطفل هي في البلاد المسيحيّة، على علاّت سكّانها ورعاتها! والهجرة هي إلى البلاد المسيحيّة، حتى لو كانت الأخطار المميتة تحفّ بالرحلة…
“ينهى عن دفع الجزية إلى قيصر!”
ما أكذبكم أيا خصوم يسوع، أمس واليوم! لا تتردّدون ، تقولون “اي كلام”! فالذّمة “كاوِتش” والضمير إن وُجد مطّاط أو مخدّر! الربّ قال بوضوح الشمس : “أدّوا ما لقيصر لقيصر!” وأنتم تقذفون يسوع بخلاف ما أعلن! كم من التهم الباطلة على المسيحيّة اليوم: إنّها تعبد ثلاثة آلهة، إنّها تؤلّه العذراء، إنّها تؤلّه إنسانًا، إنّها حرّفت الإنجيل (والتوراة)، إنّها تعبد الصليب، إنّها تعبد الأصنام والأوثان أي الإيقونات والتماثيل… إنّها تسمح بالانحلال والانفلات، إنّها تبارك اتحاد المثليين… إنّها تشجع على السُّكر …”
يا أخي وصديقي المسلم، كلّ هذه الاتهامات باطلة، والحمد لله. يجب أن يساعدنا الحوار على تفاهم أفضل، فلا نسيء فهم ديانتك ولا تسيء أنت فهم ديننا ! والدين لله والوطن لجميع المواطنين!

“يزعم أنّه المسيح الملك!”
لا ينكر يسوع مشيحانيّته وملكيّته الروحانيّتين. ونحن أيضًا، خصوصا في العراق وسورية وسابقًا في ارمينيا وتركيا وسواهما، لا نُنكر إيماننا لكي ننجو بجلودنا! والمسيح الذي لإكرامه الملكي حملت الجموع سعف النخل، سيحمل بنفسه نخلة الاستشهاد الفدائي، ومع العار غار البطولة القصوى في التفاني. المسيح الذي رفع أطفال العبرانيّون احتفاءً به أغصان الزيتون، هو نفسه نازع في بستان الزيتون، وكان معنويًا الزيتون المعصور وصار زيتًا “اسمه دهن (اي زيت) مهراق، لذلك أحبّته العذارى” وعلى رأسهنّ والدته البتول دائمة العذرية مريم.

خاتمة
الخواطر السابقة قطرة من محيط روحانيّات وعِبَر وعواطف ودروس من سيرة السيّد له المجد ومن آلامه السيدية الخلاصية الفظيعة المجيدة. وينصح المرء القارىء العزيز أن يعود في الصمت إلى نصّ الإنجيل الطاهر ليقرأ الآلام السيدية، المرّة تلو الأخرى، عندها “سيناجي الربّ قلبه” وتتّقد بصيرته ويتمّ فيه ما حصل مع رسول الأمم الإناء المختار : عندها “يعرف (القارىء) المسيح ويعرف قدرة قيامته والاشتراك في آلامه ، فيصير على صورة المسيح في الموت ، على أمل بلوغ قيامة الأموات” (فيليببي 3 : 10 – 11).