عظة الأحد الخامس للفصح (ج)

الأب لويس حزبون

في إنجيل الأحد الخامس للفصح يصف إنجيل يوحنا (يوحنا 13: 31-35) وداع يسوع لتلاميذه في العشاء الأخير حيث يعطيهم وصية جديدة في المحبة الأخوية، وما احوج الناس اليوم الى هذه المحبة. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.
اولا: وقائع النص الانجيلي (يوحنا 13: 31-35)
31فلَمَّا خَرَجَ قالَ يسوع: ((الآنَ مُجِّدَ ابنُ الإِنسان ومُجِّدَ اللهُ فيه وإِذا كانَ اللهُ قد مُجِّدَ فيه “
تشير عبارة ” فلَمَّا خَرَجَ” الى ان المسيح فتح قلبه لأحبائه بعد خروج يهوذا الخائن، وأعلن تصريحات يعزِّي فيها أولاده وأنه لن يتركهم وحدهم بل يرسل لهم الروح المعزي ويقول لهم يا بني. اما عبارة ” الآنَ ” فتشير ليس فقط الى حقيقةً أحداث الصلب والآلام الوشيكة الحدوث التي تمجد بها المسيح، بل إلى ما يتبعها مباشرة من قيامته، كما لو كان الأمر قد تمَّ فعلًا كما يعلق القديس أوغسطينوس. اما عبارة “مُجِّدَ” فتشير الى تجلي الله عن طريق تمجيد علني للمسيح أمام الناس، أي انتصاره بالصليب على أعدائه وهم الشيطان والخطية والموت محقِّقا الخطة الإلهية. والفعل “مُجِّدَ ” يشير الى الماضي وكأنَّ الأحداث قد وقعت؛ وهذا أسلوب الكتاب المقدس حينما يتكلم عن أحداث ستحدث يقين؛ وهنا يكشف يسوع حب الله للبشر من خلال طاعته للاب وقبوله الموت على الصليب. فالصليب هو مكان تمجيد يسوع “كما رَفَعَ مُوسى الحَيَّةَ في البَرِّيَّة فكذلِكَ يَجِبُ أَن يُرفَعَ ابنُ الإِنسان” (يوحنا 3: 14). أمَّا عبارة “ابنُ الإِنسان” فتشير الى لقب يسوع الذي سبق وأشار اليه دانيال النبي (دانيال 7: 9-15) حيث تفتح السنوات على الأرض في شخص يسوع (اشعيا 63: 19) ويصبح الاتصال بالله الذي أنبا به حلم يعقوب (التكوين 28: 17) حقيقة دائمة. وفي “ابن الإنسان” يتحقق المجد نتيجة لموته فداءً عن البشر؛ والموت لا يخص الكلمة الابن الوحيد الذي بطبيعته لا يموت، بل يخص الإنسان، الذي هو أيضًا “ابن الإنسان” المولود من نسل داود حسب الجسد (رومة 1: 3). اما عبارة ” مُجِّدَ اللهُ ” فتشير الى تمجيد الآب من خلال طاعة يسوع الكاملة حتى الموت، فيُشركه الآب في مجده الابدي بالقيامة والمجد (يوحنا 17: 1-5). فإن الله سيمجِّد ابنه يسوع المسيح من خلال قيامته وصعوده وجلوسه عن يمين الآب وخضوع البشر له يوم يأتي للدينونة مع ملائكته. فمن ناحية يتمجّد الآب بالصليب معلنًا حبه الإلهي نحو البشرية؛ ومن ناحية أخرى يتمجّد يسوع، ابن الإنسان، لأن الآب اختاره مخلصًا للعالم. اما عبارة “مُجِّدَ اللهُ فيه” فتشير الى ان الله يتمجد حين قدًّم يسوع المسيح نفسه ذبيحة على الصليب للآب ليتمجد الآب بطاعة الابن له، وبرجوع الناس إليه.
32فسَيُمَجِّدُه اللهُ في ذاتِه وبَعدَ قليلٍ يُمَجِّدُه.”
تشير عبارة” فسَيُمَجِّدُه اللهُ” الى عمل الله الذي يمجِّد ابنه في صلبه، وعلى الصليب نفسه يظهر بهائه. مجَّد الله ابنه يسوع في آلامه وصلبه حيث شهدت الطبيعة نفسها أنه ابن الله، وآمن قائد المائة، كما آمن به اللص اليمين. لكن ما هو أعظم فهو تمجيد ابن الإنسان بموته عن البشرية. وبتمجيده أعلن حب الآب الذي بذل ابنه الوحيد عن العالم، إنها محبة الآب التي قدمت لنا الصليب (يوحنا 3: 16؛ رومة 5: 8). لذا يعلق العلامة أوريجانوس أن المجد هنا هو “المعرفة” التي لا يعرفها سوى الآب والابن ومن يريد الابن أن يعلنها له (متى 11: 27)، المعرفة التي لا يعلنها لحم ودم بل الآب السماوي (متى 16: 17). اما عبارة “فسَيُمَجِّدُه اللهُ في ذاتِه” فتشير الى المسيح حين يُمجَّد يصير بجسده كما بلاهوته في الآب (1 يوحنا 1: 1). اما عبارة “وبَعدَ قليلٍ يُمَجِّدُه” فتشير الى ان الآب يمجد ابنه بالقيامة وصعوده الى السماء وجلوسه عن يمين الآب. وإذ تمجد ابن الإنسان تمجد الله الآب أيضاً. فبه ظهرت محبة الله الآب للبشر (يوحنا 16:3). وإن كان الآب قد تمجد في ابنه فإن الآب سيمجد ابنه في ذاته، لأنه متحد به اتحادا كاملاً، وبالتالي فمجد الآب هو مجد الابن ومجد الابن هو مجد الآب، وقوله في ذاته أي في ذات الله. وقد تكررت كلمة المجد في الآيات (31-32) خمس مرات لتأكيد قبول الآب لذبيحة ابنه يسوع المسيح، وبهذه الذبيحة تمجد الله فيه وبسببه. بكلمة موجزة بعد رحيل يهوذا الإسخريوطي أعلن يسوع ان ساعة تمجيده قد دنت. إن الله يُمجّد في موت الابن. وتمجيد ابن الانسان ليس فقط في الحاضر، فان مجد في المستقبل ينتظره عند إتمام ارساليته الإلهية (يوحنا 13: 32).
33يا بَنِيَّ، لَستُ باقِياً مَعَكُم إِلاَّ وَقْتاً قليلاً فستَطلُبوني وما قُلتُه لِليَهود أَقولُه الآنَ لَكُم أَيضاً: حَيثُ أَنا ذاهِب لا تَستَطيعونَ أَن تَأتوا. “
تشير عبارة “بَنِيَّ” باليونانية τεκνία الى اسم للتحبب الذي يوجّهه المعلم الى تلاميذه، وهو تعبير يحمل حنوًا عظيمًا وعاطفة قوية، كحنو الأم نحو رضيعها. كان التلاميذ قبلًا خدامًا قبل أن يكونوا أبناء صغارًا، كما هو واضح من كلمات يسوع “أَنتُم تَدعونَني ((المُعَلِّمَ والرَّب)) وأَصَبتُم فيما تَقولون” (يوحنا 13: 13). وبعد قيامة المخلص، هؤلاء الذين دعاهم “بني” صاروا له إخوة كما قال يسوع الى مريم المجدلية “اذَهبي إِلى إِخوَتي، فقولي لَهم” (يوحنا 20: 17). والجدير بالملاحظة أن العبد صار تلميذًا، وبعد ذلك ابنًا صغيرًا، فأخًا للمسيح ثم ابنا لله. اما عبارة “وَقْتاً قليلاً” فتشير الى موضوع موت يسوع وقيامته وصعوده الى الآب. ولكن لا ينفصل التلاميذ عن يسوع نهائياً كما ستكون الحال مع اليهود. وكأنه يقول لهم: حقًا إنني سأتمجد بقيامتي، لكنني لا أصعد فورًا إلى السماء، بل “أنا معكم زمانًا قليلًا بعد”. وفي الواقع قضي يسوع 40 يومًا مع تلاميذه بعد قيامته (اعمال الرسل 1: 3) لكنه لم يكن معهم في شركة الضعف البشري؛ أمَّا عبارة “لا تَستَطيعونَ أَن تَأتوا” فتشير الى تمجيد يسوع عن طريق الموت (الرفع على الصليب) (يوحنا 8: 28) وهذا الذهاب الذي أُعلنه لليهود (يوحنا 8: 21) يفصل التلاميذ أيضا عن يسوع الى حين، لان التلاميذ سوف يرونه (يوحنا 14: 18) بل يكون حاضرا لديهم بطريقة سامية بعد عودته الى الآب.
34أُعْطيكم وَصِيَّةً جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً.
تشير عبارة ” أُعْطيكم ” الى عطاء المسيح لتلاميذه. والديانة اليهودية كانت تستعمل فعل “أعطى” في الكلام عن الشريعة. وعليه فإنها نعمة وعطاء. اما عبارة “وَصِيَّةً جَديدَة ” فتشير الى انها جديدة لأنها تجعل من الدخول في الجماعة الاخيرية شرطا جوهريا، وهي جديدة أيضا بقدر ما تقتضي تواضعا ورغبة في الخدمة يحملان على اختيار المكان الأخير وعلى الموت في سبيل الاخيرين. أما عبارة “أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً” فتشير الى المحبة الأخوية؛ ما رسالة المسيح إلا تعبير عن محبة الله. ” هكذا أحب الله العالم حتى أنه أرسل ابنه الوحيد”. فلا عجب أن تكون وصية يسوع الجديدة هي المحبة. أمَّا عبارة “كما أَحبَبتُكم” فلا تشير فقط الى طريقة يسوع في الحياة كمجرد مقياس وأسلوب، بل هي الأساس الذي يُبنى عليه لكي يحيا الناس حياة محبة على وجه تام. اما عبارة “أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً” فتشير الى ان المحبة تبلغ نموها التام في جماعة يسودها التبادل والعطاء وحسن القبول.
35إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي.”
تشير هذه الآية الى المحبة الأخوية التي هي العلامة الفارقة لتلميذ يسوع، وبدونها لا يدّعي أحد انه تلميذه. المحبة هي العلامة المميزة لتلمذتهم ومن ثم محكها في محبتهم بعضهم لبعض. فالحياة في المحبة الأخوية هي الدليل المثالي على حضور محبة الله في حياة الناس، كما جاء في صلاة يسوع “يَعرِفَ العالَمُ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني وأَنَّكَ أَحبَبتَهم كَما أَحبَبتَني” (يوحنا 17: 23).

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 13: 31-35)
انطلاقا من هذه الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 13: 31-35)، يمكن ان نستنتج انه يتمحور حول خطاب سيدنا يسوع المسيح في وداعه في العشاء الأخير؛ وعبّر هذا الخطاب عن وصيته الجديدة في المحبة الاخوية. ومن هنا نبحث في نقطتين: وصية جديدة، وأوج جِدّة الوصية الجديدة في المحبة الاخوية
وصية جديدة:
ترد عبارة ” وصية جديدة ” أربع مرات في العهد الجديد، مرة في انجيل يوحنا، وثلاث مرات في رسائل يوحنا (1 يوحنا 2: 7 و8، 2 يوحنا 5). وتتكرر هذه الوصية مراراً في العهد الجديد (يوحنا 51: 21 و71 ورومة 13: 8، 1 بطرس 1: 22 و1 يوحنا 3: 11 و23، 4: 7 و11 و12)، دون أن تسمى جديدة.
تُوجَدُ أكثَرُ من خمسمائة وَصِيَّة في الكتابِ المُقدَّس. هذه الوَصايا مُلَخَّصَةٌ في الوَصايا العَشر (خُرُوج 20: 3- 17وتَثنِيَة 5: 7- 21). وإن كلمة وصية باليونانية (ἐντολή) لا تعني هنا مجر تعليمات قانونية، انما تتضمن فكرة شريعة الوحي الإلهي، أساس الحياة الدينية والاجتماعية. فيسوع المسيح أعطى تلاميذه طريقا او درباً ونظاما للحياة، ونسقاً في العمل اساسه الحب. وقد اختار الرب يسوع نفس الكلمة ” وصية ” التي تصف شريعة العهد القديم، مما يعنى أن لوصيته نفس السلطان الذي للشريعة. وقد وصف الرسول بولس ” المحبة ” بأنها ” شَريعةِ المسيح” (غلاطية 6: 2). كما يؤكد أيضا يعقوب الرسول عن وصية المحبة، إنها: ” الشَّريعَةِ السَّامِيَةِ” (يعقوب 2: 8)، ” الشَّريعَةِ الكامِلَة، شَريعَةِ الحُرِّيَّة” (يعقوب 1: 25).
اما كلمة “جديدة” باليونانية (καινός) فمعناها في هذا النص الإنجيلي الانتعاش والتجديد؛ فيصف يوحنا الإنجيلي وصية المحبة الأخوية بالجديدة. وهذا النظام الجديد هي ميزة خاصة في كتابات يوحنا الحبيب “هذهِ الوَصِيَّةُ القَديمة هي الكَلِمَةُ الَّتي سَمِعتُموها. على أَنَّها أَيضًا وصِيَّةٌ جَديدة أَكتُبُ بِها إِلَيكم. ” (1يوحنا 2: 8). فالوصية قديمة، فقد جاءَ في سفر الأحبار: “أحبِبْ قَرِيبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ” (أحبار 19: 18)، لكن الصليب قدمها لنا بأعماقٍ جديدةٍ، وهبنا انتعاشًا لإمكانية ممارستها بمفهومٍ جديدٍ.

أوجه جِدّة وصية المحبة الاخوية:
نجد وصية المحبة الأخوية في العهد القديم (أحبار 19/ 17-18،34) إلا إن وصية يسوع تعتبر جديدة للأوجه التالية: –
وصية جديدة بمثالها:
يجب على التلاميذ ان يحبّوا بعضهم بعضا لأنَّ يسوع قد أحبهم. المحبة الأخوية هي وصية قديمة وردت في شريعة موسى “أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ (الاحبار 19: 18)، ومع ذلك فان وصية المسيح جديدة في نوعية الحب. فقد أحب يسوع الى اقصى الحدود ” لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه”(يوحنا 15: 13). فالمسيح جسّد الحب. فهو، بصفته إنسان، عاش في حب بنوي مع الله. كرّس نفسه للاب (لوقا 2: 49)، وعاش في جو من الصلاة والشكر (مرقس 1:35)، خصوصاً في تميم الإرادة الالهية (يوحنا 4:34)، وكان في حالة الاصغاء الدائم الى الله (يوحنا 5: 30).
واما بصفته إله، فأتي يسوع ليعيش حبه في البشر وبينهم. جاء يسوع ليعطي حياته كلها، ليس فقط لبعض أحبائه (يوحنا 11: 3)، بل للجميع (مرقس 10: 54). وقد اعتنى بالجميع، وخاصة بالمنبوذين والخطأة (لوقا 7: 36-50). واختار من يشاء لكي يجعلهم تلاميذه وأحباءه (يوحنا 15: 10-16). وعلى الصليب، كشف يسوع شدة حبه لكي يسطع ببهاء طاعته للآب (فيلبي 2: 8) ومحبته لخاصته “كانَ قد أَحَبَّ خاصَّتَه الَّذينَ في العالَم، فَبَلَغَ بِه الحُبُّ لَهم إِلى أَقْصى حُدودِه” (يوحنا 13: 1). فعظمة محبة الرب يسوع، جعلته ” يضع نفسه لأجل أحبائه” (يوحنا 15: 13). ولذلك ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة كما جاء في تعليمات يوحنا الرسول” وإِنَّما عَرَفْنا المَحبَّة بِأَنَّ ذاكَ قد بَذَلَ نفْسَه في سَبيلنِا. فعلَينا نَحنُ أَيضًا أَن نَبذُلَ نُفوسَنا في سَبيلِ إِخوَتِنا”(1 يوحنا 3: 16). فالمحبة هكذا، تعنى أنه لا يمكن للمؤمن أن يغلق أحشاءه أمام مؤمن آخر في احتياج (1 يوحنا 3: 17)، بل عليه ان يبذل ما يملك لمعونة الآخر وبركته. فهذه الوصية جديدة إذاً بمثلها الأعلى يسوع المسيح. والصليب هو قياس حب يسوع لنا. يتسم الحب بان نبذل الغالي والرخيص في سبيل احبائنا. وبعبارة أخرى اعطى يسوع مثال محبتنا لبعضنا البعض مثال محبته لنا. وعليه يدعونا حب المسيح الى المعاملة بالمثل.
وصية جديدة بمصدرها
وصية المحبة الأخوية هي عمل الله فينا: لن يتّسنى لنا أن نكون رحماء مثل الآب السماوي “كونوا رُحَماءَ كما أَنَّ أَباكُم رَحيم” (لوقا 6: 36)، ما لم يسكب الروح في قلوبنا المحبة “لأَنَّ مَحَبَّةَ اللّه أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحَ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا” (رومة 5: 5). وفي هذه الصدد جاءت صلاة يسوع الكهنوتية “لتكن فيهم المحبة التي إياها أحببتني فأكون أنا فيهم” (يوحنا 17: 26). فالمحبة هي النتيجة الطبيعية لبركة الله، وليست شرطاً لها، إذ إن الوصية تعبر عن كيف يجب أن يتصرف الإنسان الذي يعيش فعلا في فرح بركة الله. “لا تَستَطيعونَ أَنتُم أَن تُثمِروا إِن لم تَثبُتوا فيَّ. (يوحنا 15: 4).

وصية جديدة بمقياسها:
تطلب وصية المحبة الواردة في سفر الأحبار محبة القريب (الاحبار 19: 18)، كما يحب الإنسان نفسه. فمقياس المحبة عند اليهود يكمن في عدم الخروج عن وصايا الله وعدم إيذاء القريب، وأما مقياس المحبة في العهد الجديد فهي محبة القريب كما أحبنا المسيح وبذل نفسه في سبيله. (يوحنا 13/1). أن نحب كما أحبنا المسيح، هو أن نحب نفس محبة الله الآب للابن الرب يسوع المسيح كما جاء في صلاة يسوع الكهنوتية “عَرَّفتُهم بِاسمِكَ وسأُعَرِّفُهم بِه لِتَكونَ فيهمِ المَحبَّةُ الَّتي أَحبَبتَني إِيَّاها وأَكونَ أَنا فيهِ “(يوحنا 17: 26). ويذكرنا يوحنا الإنجيلي “فإِذا أَحَبَّ بَعضُنا بَعضًا فالله فينا مُقيمٌ ومَحَبَّتُه فينا مُكتَمِلَة ” (1 يوحنا 4: 12) وبذلك تكون ” وصية المحبة ” جديدة، لأنها تدعونا لا أن نعكس صورة هذه المحبة فحسب، بل ان نمارس عمليا محبة الله الآب لابنه -وهي محبة لم تظهر بمثل هذه القوة، قبل تجسد الرب يسوع المسيح وموته لأجلنا على صليب الجلجلة.
أما مقياس المحبة عند المسيح فيقوم على بذل الذات ” لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه “(يوحنا 15: 13). ان يحب الناس للأخرين ما يحبون لأنفسهم، وان يحبوا في الناس المسيح الذي احبّهم وان يحبوا بلا قيود وبلا حدود. من يحب المسيح ويحب من اجله الناس أجمعين، لا يعرف البغض والحسد، ولا يتمنى الشر لأحد، انه لا يتباهى، ولا ينتفخ، ولا يأتي قباحة، ولا يسعى وراء مكسب خاص على حساب الله والقريب. انه لا يخاصم احدً، ولا ينافق مع أحد. إنه لا يظن بالسوء ولا يفرح بالظلم. (ا قورنتس 13). فهي جديدة بقدر ما تقتضي تواضعا ورغبة في الخدمة يحملان على اختيار المكان الأخير وعلى الموت في سبيل الآخرين؛ وتذهب المحبة الأخوية الى اقصى حدود البذل والعطاء. وليست المحبة مجرد مشاعر حارة، لكنها سلوك وعمل. والمحبة الأخوية في نظر بولس الرسول خدمة متبادلة (غلاطية 5: 13). وأخيرا ينكر فيه المرء ذاته مع المسيح المصلوب مِن أَجْلِ المسيح خَسِرتُ كُلَّ شَيء وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفايَة لأَربَحَ المسيحَ” (فيلبي 3: 1-11). ويؤكّد أن لا شيء له، قيمة بدون محبة الغير، كما أحب المسيح، وتجعل الإنسان كاملاً في يوم الرب (فيلبي 1: 9-11). وبكلمة موجزة يوصينا يسوع المسيح بأن نحب بعضنا بعضاً بقدر حبه لنا. ولكن كم أحبنا؟ فيجيبنا القديس بولس الرسول ” سِيروا في المَحَبَّةِ سيرةَ المسيحِ الَّذي أَحبَّنا وجادَ بِنَفسِه لأَجْلِنا ((قُربانًا وذَبيحةً للهِ طَيِّبةَ الرَّائِحة” (أفسس 5: 2). ويُبين بطرس الرسول كيف علينا ان نحب بعضنا بعضا بقوله “فطَهَّرتُم نُفوسَكم كَيْما يُحِبَّ بَعضُكم بَعضًا حُبّاً أَخَوِّيًا بلا رِياء. فلْيُحِبَّ بَعضُكم بَعضاً حُبًّا ثابِتًا بِقَلبٍ طاهِر” (1بطرس 1: 22). فعلينا ان نحب بنفس المحبة الشديدة التي أحبنا بها يسوع. فيسوع أعطى وصَيَّتَهُ الجَديدة للرُّسُل، بعدما غسل ارجلهم، وكأنّه يقول لكُلِّ واحِدٍ منهُم: “أَتَرى أخاكَ الجالِس مُقابِلَكَ على المائِدة؟ أُريدُكَ أن تُحِبَّ هذا الشَّخص. وبالطريقِةِ ذاتِها التي بها أحبَبتُكُم، أُوصيكَ الآن أن تُحِبَّ أخاكَ هذا.”
وصية جديدة بدوافعها:
وصية المحبة الأخوية جدية بدوافعها. ان علاقاتهم الأخوية هي ثمرة حب يسوع. نشأت هذه العلاقات بفضل المسيح فهو نبعها. قبل مجيء المسيح لم يخطر مثل هذا الحب في بال العالم؛ فالمسيح هو الذي عرَّفنا على هذا الحب “إِنَّما عَرَفْنا المَحبَّة بِأَنَّ ذاكَ قد بَذَلَ نفْسَه في سَبيلنِا. فعلَينا نَحنُ أَيضًا أَن نَبذُلَ نُفوسَنا في سَبيلِ إِخوَتِنا” (1 يوحنا 3: 16).
وصية جديدة بمبدئها:
وصية جديدة لأنها تقوم على مبدأ جديد إذ لا ترتكز على محبة الإله الذي أخرج الشعب من عبودية مصر فحسب، إنما على محبة المسيح الذي بذل نفسه على الصليب في سبيل أحبائه. فهي جديدة بعلاقتها بالعهد الجديد، إذ تتعلق بمرحلة الخلاص الأخيرة التي افتتحها المسيح بموته ومجده. انها ميثاق العهد الجديد، والذي ختمه المسيح بدمه” هذِه الكَأسُ هي العَهدُ الجَديدُ بِدمي الَّذي يُراقُ مِن أَجْلِكم ” (لوقا 22: 20). فالمحبة هي الميزة الخاصة للإنسان الجديد والمتجدد على صورة خالقه، كما جاء في تعليم بولس الرسول “لَبِستُمُ الإِنسانَ الجَديد، ذاك الَّذي يُجَدَّدُ على صُورةِ خالِقِه لِيَصِلَ إِلى المَعرِفَة. (قولسي 3: 10-14). فهي جديدة لأنها تجعل من الدخول في الجماعة المسيحية شرطا جوهريا.
وصية جديدة بارتباطها بالعهد الجديد
وصية المحبة هي وصية جديدة لارتباطها “بالعهد الجديد”. فهناك العلاقة الوثيقة بين العهد الجديد والوصية الجديدة. “هذِه الكَأسُ هي العَهدُ الجَديدُ بِدمي الَّذي يُراقُ مِن أَجْلِكم” (لوقا 22: 20). ففي “العهد الجديد” كتب الله ناموسه في قلوب المؤمنين (عبرانيين 10: 16)، أي أنه يعمل فيهم بقوة الروح القدس (2 قورنتس 3: 3)؛ هي وصيَّةٌ جديدةٌ “لأنَّ المؤمنَ يخلعُ الإنسانَ القديمَ ويلبسُ الإنسانَ الجديد. هذه هي المحبَّةُ التي تجدِّدُنا، وتجعلُنا إنسانًا جديدًا، وارثَ العهدِ الجديدِ” كما يعلّق العلامة أوغسطينوس. فالوصية الجديدة تحقق كل مطالب العهد الجديد (رومة 13: 8). قد بدأ عصر جديد مع تجسد المسيح (1 يوحنا 2: 8). وقبل مغادرة يسوع المسيح لتلاميذه، ترك لهم هذه الوصية الجديدة لتكون نبراساً لهم على توالى الأيام إلى أن يجئ ثانية كما جاء في تليعم يوحنا الرسول “اكتِمالُ المَحبَّةِ بِالنَّظَرِ إِلَينا أَن تَكونَ لَنا الطُّمَأنينَةُ لِيَومِ الدَّينونة فكما يَكونُ هو كذلك نَكونُ في هذا العالَم” (1 يوحنا 4: 17).

وصية جديدة بعلامتها الفارقة،
وصية المحبة الأخوية هي وصية جديدة، لأن المسيح جعلها العلامة الفارقة لأتباعه “إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي” ( 13: 34). فهي العلامة الفارقة التي يعرف بها الناس أتباع المسيح. وإذ يحيا التلاميذ هذه المحبة الأخوية (يوحنا 17: 11)، يصبحون شهود ليسوع المرسل من الآب (17: 21) ” إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي” (يوحنا35:13(. هذه المحبة هي العلامة التي تدل على التلميذ، وبدونها لا يدّعي أحد انه تلميذ يسوع. ويخبرنا العلامة ترتليانس أن الوثنيين يقولون عن المسيحيين: “انظروا كيف يحبون بعضهم بعضًا!” اما لوقيان الساموسطائي الذي لم ينطق بكلمة صالحة في حق المسيحيين هاجمهم “بأنهم أغبياء، لأنهم يحبون بعضهم البعض الى درجة يمكن لأي وثني أن يسيء استغلال هذا الحب، فيجمع منهم ثروات طائلة”.
وهذه المحبة تعارض العنف المسيطر في العالم، فتدل على ان الذين يمارسونها هم حقّاً تلاميذ يسوع. وعليه إن محبتنا التي تشبه محبته ستثبت أننا تلاميذه. ومثل هذه الحب لا يوحِّد المؤمنين فيما بينهم فحسب، بل يجذب غير المؤمنين الى المسيح. وتشرق هذه المحبة كفجر يوم جديد على العالم ” أَنَّ الظَّلامَ على زَوال والنُّورَ الحَقَّ أَخَذَ يُضيء. .. مَن أَحَبَّ أَخاه أَقامَ في النُّور” (1 يوحنا 2: 8-10). فمن يحب ينتقل من الموت الى الحياة “نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا انتَقَلْنا مِنَ المَوت إِلى الحَياة لأَنَّنا نُحِبُّ إِخوَتَنا”(1 يوحنا 3: 14). وهذه الوصية الجديدة هي شهادة للذين من خارج، إذ تقدم لهم برهاناً قاطعاً على أن أتباعه يتشبهون به في محبتهم للآخرين، وأن أساس المجتمع الإنساني الحي لا يوجد إلا في المسيح.

محبة جديدة بشموليتها:
الحب المتبادل فيما بين تلاميذ يسوع هي وصية قديمة (1 يوحنا 2: 7)، وكانت تقتصر وصية المحبة على الشعب اليهودي والغرباء المقيمين بين الشعب اليهودي (أحبار 19/17-34)، لكنها في المسيح صارت جديدة، لأنها أصبحت تمتد ليحب الشخص حتى أعداءه ومقاوميه، راغبا خلاص كل نفس. فهي تشمل جميع الناس على الإطلاق وفي كل زمان ومكان (متى 5/43-47)، ولا حدود للمحبة المسيحية على مستوى القرابة والوطن والدين.، ولا تستثني احداً، وتشمل محبة الأعداء والمبغضين واللاعنين والمضطهدين (متى 5: 43-47). فهي محبة شاملة لا تقبل أي حاجز اجتماعي أو عنصري، ولا تزدري أحداً كما جاء في تعليم السيد المسيح ” إِذا أَقَمتَ مَأَدُبَة فادعُ الفُقَراءَ والكُسْحانَ والعُرْجانَ والعُمْيان” (لوقا 14: 13).
يطالب يسوع أيضا تشمل المحبة المبادرة الطيّبة نحو الخصم (متى 5: 23-24)، وتتميز بالصفح ” بدون حدود (متى 18: 21-22). فهي محبة مجانية شاملة لكل طبقة او جنس وبدون تمييز اجتماعي او عنصري “لَيسَ هُناكَ يَهودِيٌّ ولا يونانِيّ، ولَيسَ هُناكَ عَبْدٌ أَو حُرّ، ولَيسَ هُناكَ ذَكَرٌ وأُنْثى” (غلاطية 3: 28).
وصية جديدة بأسلوبها.
المحبة الأخوية هي وصية جديدة أخيرا بأسلوبها. سبق للعالم الوثني وللعالم الاسرائيلي ايضا ان اشادا بالصداقة والخدمة المتبادلة. لكن وصية يسوع هي جديدة، لأنه جعلها شرطا جوهريا للدخول في الجماعة المسيحية. وهي تقتضي تواضعاً ورغبةً في الخدمة يحملان على اختيار المكان الاخير وعلى الموت في سبيل الآخرين. فلا مجال لحياة فاترة إزاء وصية المحبة. فظهرت المسيحية في العالم كمحبة. فعلى المسيحي إما أن يحب وإما أن يتخلى عن مسيحيته.

الخلاصة
ان عطاء يسوع لتلاميذه وصية المحبة الأخوية لا تعني فقط إظهار نوعية الحب، وانما هي دعوة لعيش هذا الحب في عطاء كامل وبذل الى اقصى الحدود على خطى معلمهم الالهي. فهذا العطاء يتضمن مسؤولية ضخمة لدى التلاميذ. لان العالم يعرف تلاميذ المسيح من خلال هذه الوصية. لقد تسلَّموا رسالة اظهار الحب للعالم، هذا الحب الذي تعلموه من معلمهم. وخيانة وصية المحبة هي خيانة للمسيح بالذات وتشويه وجهه أمام العالم، واما الحفاظ على وصية المحبة الأخوية هو إظهار المسيح للعالم. إن محبتنا التي تشبه محبة المسيح ثُبت أننا تلاميذه. لقد فَهِمَ يوحنا الإنجيلي، رسُولُ المَحَبَّةِ وَصِيَّةَ يسُوع الجديدة، لذا لم يتردد عندما أصبَحَ شَيخاً طاعِناً في السِّنِّ، ان يردد صوت معلمه الإلهي “يا أولادِي، أحِبُّوا بعضُكُم بَعضاً.”