عظة الأحد السابع للفصح (ج)

الأب لويس حزبون

في إنجيل الأحد السابع للفصح يتكلم يوحنا الانجيلي عن صلاة التكريس التي رفعها يسوع عشية صلبه. صلى لأجل نفسه، ولأجل تلاميذه ولأجل كنيسته؛ ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الانجيلي (يوحنا 17: 23-26) وتطبيقاته في صلاة يسوع من اجل كنيسته (يوحنا 17: 23-26).
اولا: وقائع النص الانجيلي (يوحنا 17: 23-26)
20لا أَدْعو لَهم وَحدَهم بل أَدْعو أَيضاً لِلَّذينَ يُؤمِنونَ بي عن كلامِهم.
تشير عبارة ” أَدْعو أَيضاً لِلَّذينَ يُؤمِنونَ بي عن كلامِهم ” الى الجماهير الغفيرة التي تأتي اليه بفضل تعليم تلاميذه. يصلي يسوع الى مسيحيي العصور المقبلة، يصلي من اجلنا كلنا. إذ تشمل صلاة يسوع هنا تلاميذه وجماعة المؤمنين به عن طريق تبشيرهم (يوحنا 4: 35-42)؛ وتمتد هذه الصلاة لتشمل البشرية المستعدة لقبول الخلاص عبر كل الأجيال حتى انقضاء الدهر، لأن الله يريد أن الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون. “فإِنَّه يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إِلى مَعرِفَةِ الحَقّ”(1طيموتاوس 2: 3-4)؛ اما عبارة “كلامهم” فتشير الى “كلمة الله” (1 تسالونيقي 2: 13). “كلمة الله” دعيت “كلامهم” لأنها عُهدت إليهم بصفة رئيسية في البداية لكي يُكرز بها” كما يعلق على ذلك القديس أوغسطينوس.
21فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضاً فينا لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني
تشير عبارة “َلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً” الى طلبة يسوع في صلاته لوحدة تلاميذه المحيطين به والى المؤمنين الذي يقبلون كلامهم اي الى الكنيسة. وتكررت عبارة “ليكونوا” سبع مرات في هذه النص وأربع مرات من السبع مرات يطلب أن يكون أتباعه واحدًا؛ فالوحدة هي من اهتمامات يسوع الأولى، فهو يرغب ان يصير الكل واحدًا، جسدًا واحدًا بقلبٍ واحدٍ وفكرٍ واحدٍ ورجاءٍ واحدٍ. فقد شغل موضوع الوحدة قلب السيد المسيح، فقد سبق أن طلب لأجلها (يوحنا 17: 13)، وها هو يطلبها من الآب في الحاح. وتقوم الوحدة على عمل الله في حياة الخدام (الرسل والتلاميذ والكهنة)، كما تقوم على عمله في كل المؤمنين على مستوى الشعب. اما عبارة “كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضاً فينا” فتشير الى طبيعة الوحدة ومبدئها. فهذه الوحدة تتجذر في سر الحياة الإلهية لأنها تقوم على انضمام المؤمنين الى يسوع مما يؤدي الى اتحادهم في المحبة التي تجمع بين ألاب والابن (يوحنا 5: 19-20). اما عبارة “فينا” فتشير الى الإيمان بالثالوث. “إنهم (الثالوث) فينا ونحن فيهم، بكونهم هم واحد في طبيعتهم، ونحن واحد في طبيعتنا. إنهم فينا بكونهم الله في هيكله، ونحن فيهم كخليقة في الخالق” كما يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم. اما عبارة “لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني” فتشير الى وحدة المؤمنين كعلامة للعالم لتدخل الله في الازمنة الأخيرة وكدليل على صحة رسالة يسوع بما ان يسوع هو النبع التاريخي للوحدة. فالوحدة تبيّن ان يسوع من الآب أتى حاملا رسالة وحقيقة ليسا من هذه العالم (يوحنا 3: 3-8). ومن خلال طلب الوحدة لتلاميذه وكنيسته يقصد يسوع وحدة البشرية التي يريد ان يُظهر لها سر الله بواسطة وحدة تلاميذه. وبالعكس فإن الانقسام في الكنائس هو أكبر العوائق في رسالة الكنيسة ولا يوجد ما يؤذي كل البشر مثل الانقسام.
22وَأنا وَهَبتُ لَهم ما وَهَبْتَ لي مِنَ المَجْد لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد:
تشير عبارة “وَأنا وَهَبتُ لَهم ما وَهَبْتَ لي مِنَ المَجْد” الى كيفية تتميم الوحدة. مبدأ الوحدة هو المجد الذي ناله المسيح من الآب بعد الصليب والذي يُشرك فيه يسوع المؤمنين به. فمن خلال آلام الصليب يحملنا يسوع المسيح إلى مجده كما جاء في تعليم صاحب الرسالة الى العبرانيين ” فذاكَ الَّذي مِن أَجْلِه كُلُّ شَيءٍ وبِه كُلُّ شَيء، وقَد أَرادَ أَن يَقودَ إِلى المَجْد ِكَثيرًا مِنَ الأَبناء، كانَ يَحسُنُ به أَن يَجعَلَ مُبدِئَ خَلاصِهم مُكَمَّلاً بِالآلام” (عبرانيين 2: 10)، فيصبحون بدورهم تجليا لمجد المسيح. فاشتراكهم بهذا المجد يوحّدهم لأنهم كلهم به أبناء. والمجد هو عطية إلهية: “الرَّبُّ الإِلهُ يَهَبُ النِّعمَةَ والمَجْد” (مزمور 84: 12). وفي هذا الصدد يقول القديس غريغوريوس النيسي “الروح القدس هو هذا المجد، ولا يمكن أن ينكره أي شخص يفحص بدقة كلام السيد المسيح وهو يقول: وَأنا وَهَبتُ لَهم ما وَهَبْتَ لي مِنَ المَجْد. في الحقيقة أعطى السيد المسيح هذا المجد لتلاميذه عندما قال لهم: “اقبلوا الروح القدس” (يوحنا 22:20). أمَّا عبارة “لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد” فتشير الى كلام يسوع مرة أخرى عن وحدة التلاميذ؛ ومثال هذه الوحدة هي وحدة الآب والابن، لا وحدة المصالح والمكاسب، بل وحدة المحبة والتواضع والبذل والوداعة. وتتحقق الوحدة بحب بعضهم لبعض. ويؤكد السيد المسيح أن مصدر الوحدة هو قبوله، كابن الإنسان، المجد من أبيه ليهبه لمؤمنين به. وهكذا يركز السيد المسيح على الوحدة كأمرٍ أساسي وجوهري، وهي ليست بالوحدة الظاهرية كتجمع القيادات الكنسية معًا، لكنها وحدة عمل الروح القدس الذي يضم الكل بالروح لغاية مقدسة كاملة. وهذه الغاية هي أن يصير الكل واحدًا في الآب والابن كما هما واحد. فمن يقبل السيد المسيح “الطريق” يسير به إلى حضن الآب متحدًا معه، كما يسير به إلى قلوب المؤمنين ليختبر وحدة الإخوة. ولانَّ الروح القدس هو روح الآب وروح الابن، لذا يرى البعض أنه روح الوحدة، هو واهب عطية الوحدة، إذ يجمع الكل معًا ليعمل الكل في الكل (1 قورنتس 12: 4). ويعلق القديس باسيليوس بقوله ” إن يسوع صلى ” لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد ” لأنه عندما يكون الله الذي هو واحد في كل واحدٍ، فإنه يجعل الكل واحدًا، ويضيع العدد في حلول الواحد”
23أَنا فيهِم وأَنتَ فِيَّ لِيَبلُغوا كَمالَ الوَحدَة ويَعرِفَ العالَمُ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني وأَنَّكَ أَحبَبتَهم كَما أَحبَبتَني.
تشير عبارة “أَنا فيهِم وأَنتَ فِيَّ لِيَبلُغوا كَمالَ الوَحدَة ” الى ان الآب كما هو في الابن، كذلك يكون الابن يسوع فينا، وهكذا تكون وحدتنا كاملة، فتنقل محبة الآب بوساطة الابن الى المؤمنين فيتمتعون بالحب الواحد، حب الآب؛ أما عبارة “يَعرِفَ العالَمُ” فتشير الى هدف وحدة التلاميذ، وهي شهادة للاب والابن، حيث أنه يعرف العالم ويكتشف من خلال وحدة التلاميذ حب الآب للبشر؛ وهذا الحب هو حب الابن منعكسا عليهم؛ وعليه فإن المعرفة لا تشير فقط الى مجرد معرفة عقلية وفكرية، وانما الى معرفة واقعية، شخصية وحيوية؛ انها اتحاد الروح والقلب والإرادة لمعرفة الله الآب المرُسِل ومحبته. وإن التعرف الى الله من خلال رسالة الابن هو أعظم معرفة في العالم. وأمَّا عبارة “أَنَّكَ أَحبَبتَهم كَما أَحبَبتَني” فتشير الى ان الآب يُحبنا في الابن، ” ذلِك بِأَنَّه اختارَنا فيه قَبلَ إِنشاءِ العالَم لِنَكونَ في نَظَرِه قِدِّيسينَ بِلا عَيبٍ في المَحبَّة” (أفسس 1: 4). ويميّز القديس أوغسطينوس بين حب الآب لابنه وحب الآب لنا. إن الآب يحب الابن من جهة لاهوته، إذ ولده مساويًا لنفسه. يحبه أيضًا كونه جسدًا، لأن الابن الوحيد صار إنسانًا، وبكونه الكلمة، فإن جسد الكلمة هو عزيز عليه. أما بالنسبة لنا فبكوننا أعضاء في ذاك الذي يحبه، ولكي ما نصير هكذا؛ لقد أحبنا لهذا السبب قبل أن يخلقنا”؛ وبعبارة أخرى “حب ألاب لابنه حب سرمدي، اما حبه لنا بالنعمة التي تؤهلنا لهذا الحب “كما يعلق القديس امبروسيوس. وقد أوضح السيد المسيح هنا أنه ليس وحده يحب تلاميذه، لكن ابوه أيضًا يحبهم.
24يا أَبَتِ، إِنَّ الَّذينَ وهَبتَهم لي أُريدُ أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجد لأَنَّكَ أَحبَبتَني قَبلَ إِنشاءِ العالَم.
تشير عبارة ” يا أَبَتِ” πατήρ الى اللفظة التي يستعملها الطفل في علاقاته الودية مع أبيه. وكان اليهود يرفضون استخدامها في صلواتهم، لما فيها من المودة الحميمة. اما مرقس الإنجيلي فقد احتفظ باللفظة الآرامية אַבָּא “آبا” التي استعملها يسوع (مرقس 14: 36). فيسوع قد صلى مثل الطفل، وصلاته الكهنوتية كلها هي مناجاة الابن لآبيه. فهذا الابتهال أضاف على صلاة يسوع جوّها واعطاها اتجاهها؛ اما عبارة ” أُريدُ” فتشير الى المرّة الوحيدة التي فيها يتكلم يسوع كالابن الذي جعل الآب كل شيء في يديه كما جاء في انجيل يوحنا “ِإنَّ الآبَ يُحِبُّ الابن فجَعَلَ كُلَّ شيءٍ في يَدِه”(يوحنا 3: 35) والذي يعتبر بيت الآب بيته (يوحنا 8: 35)؛ أمَّا عبارة ” أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون” فتشير الى ان يسوع يريد ان يقاسمه المؤمنون في طاعته وآلامه (يوحنا 13: 36) كما يقاسمونه في ارتفاعه في المجد “مَن أَرادَ أَن يَخدُمَني، فَلْيَتْبَعْني وحَيثُ أَكونُ أَنا يَكونُ خادِمي ومَن خَدَمَني أَكرَمَهُ أَبي” (يوحنا 12: 26). لم يقل يسوع “أريد أن هؤلاء يكونون حيث أكون أنا”، بل أضاف ” َكونوا معي”. فإن الوجود معه هو أعظم بركة. إن امنية التلميذ ان يكون مع يسوع، ويسوع يطلب هذه النعمة لجميع احبائه، فيكونوا معه وهو معهم ويقاسموه. أما عبارة ” ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجد ” فتشير الى مجد المسيح الذي هو أيضًا مجد الآب كما جاء في تعليم بولس الرسول “كَيما تَجثُوَ لاسمِ يسوع كُلُّ رُكبَةٍ في السَّمَواتِ وفي الأَرْضِ وتَحتَ الأَرض ويَشهَدَ كُلُّ لِسانٍ أَنَّ يسوعَ المسيحَ هو الرَّبّ تَمْجيدًا للهِ الآب” (فيلبي 2: 10-11). لذلك فإن مجد الآب والابن هو واحد. اما عبارة ” فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجد” فتشير الى وصية يسوع قبل موته ان يشاهدوا مجده ووضح ذلك بولس الرسول بقوله” نَحنُ جَميعًا نَعكِسُ صورةَ مَجْدِ الرَّبِّ بِوُجوهٍ مَكشوفةٍ كما في مِرآة، فنَتَحوَّلُ إِلى تِلكَ الصُّورة، ونَزدادُ مَجْدًا على مَجْد” (2 قورنتس 3: 18). ويكمن ن مجد الابن في المحبة التي تجمع بين الآب والابن. وهذا هو اساس كل وجود بشري ونهايته. يبدأ المؤمنون بالمسيح ان يعيشون هذه النعمة بالأيمان على الأرض، وتكتمل في السماء بمعاينة مجد يسوع وجها لوجه. هذه الغاية التي يسير نحوها المسيحيون يوما بعد يوم مستندين الى صلاته كما جاء في تعليم بولس الرسول “فنَحنُ اليومَ نَرى في مِرآةٍ رُؤَيةً مُلتَبِسة، وأَمَّا في ذلك اليَوم فتَكونُ رُؤيتُنا وَجْهًا لِوَجْه” (1 قورنتس 13: 12)؛ أما عبارة “أَنَّكَ أَحبَبتَني قَبلَ إِنشاءِ العالَم” فتشير الى المحبة الذي كان الابن يتمتع بها في وجوده منذ البدء لدى الآب اي قبل انشاء العالم. هذا يعود بنا الى الازل، أي قبل الخلق لما كان الابن في حضن الآب.
25يا أَبتِ البارّ إِنَّ العالَمَ لم يَعرِفْكَ أَمَّا أَنا فقَد عَرَفتُكَ وعَرَفَ هؤلاءِ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني.
تشير عبارة “يا أَبتِ البارّ” (πάτερ δίκαιε) الى الله العادل، وهذه العبارة هي فريدة في العهد الجديد (يوحنا 17: 11). ويدل هذا الابتهال على عدالة الله في دينونته بسبب استقامة حكمه ونزاهته (مزمور 119: 137)، كما تشير الى أمانته ورحمته (مزمور 7: 18). فبرّ الله هو مصدر كل صلاحٍ ومجدٍ لنا؛ فهذه النعمة وعد بها الآب البار، وقدم الابن المصلوب ثمنًا لها لنتأهل لقبولها؛ اما عبارة “إِنَّ العالَمَ لم يَعرِفْكَ أَمَّا أَنا فقَد عَرَفتُكَ” فتشير الى ان العالم لم يعرف الله مباشرة ومعرفة شخصية كما يعرف الآب الابن، لأن الله بار. إن يسوع يخاطب الآب كأنه يخاطب من بتمجيده سيظهر ظلم أحكام العالم ضد ابنه معلناً عدالته “وهو، مَتى جاءَ أَخْزى العالَمَ على الخَطيئِة والبِرِّ والدَّينونَة: أَمَّا على الخَطيئَة فَلأَنَّهم لا يُؤمِنونَ بي. وأَمَّا على البِرّ فلأَنِّي ذاهِبٌ إِلى الآب فلَن تَرَوني. وأَمَّا على الدَّينونة فَلأَنَّ سَيِّدَ هذا العالَمِ قد دِين” (يوحنا 16: 8-11). ان العالم يستحق الدينونة. إذ يرد له ما يستحقه وهو ألا يعرف الله ومعرفة الله هي الحياة الابدية. اما عبارة “عَرَفَ هؤلاءِ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني” فتشير الى تصدي نور المسيح وتلاميذه لظلمة هذا العالم وجحوده.
26عَرَّفتُهم بِاسمِكَ وسأُعَرِّفُهم بِه لِتَكونَ فيهمِ المَحبَّةُ الَّتي أَحبَبتَني إِيَّاها وأَكونَ أَنا فيهِم)).
تشير عبارة “عَرَّفتُهم بِاسمِكَ ” الى رسالة يسوع هنا على الأرض وهي اظهار حب الله للبشر. وهذه المعرفة لا تنتهي برحيله؛ اما عبارة سأُعَرِّفُهم بِه ” فتشير الى متابعة إظهار معرفة الاب السماوي للبشر من خلال جماعة الرسل والكنيسة، وهي معرفة دائمة النمو. هذه المعرفة بأسرار الله يقدِّمها الابن، العارف وحده بكمال الأسرار الإلهية، إذ هو واحد مع أبيه كما جاء في انجيل يوحنا “إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه”(يوحنا 1: 18). فإنّ عمل يسوع لم ينته بعد؛ فهناك الموت والقيامة وفيهما يكتشف التلاميذ اسم الله وعمله، وهناك زمن الكنيسة الذي يبدأ بالصعود ويمتد حتى نهاية العالم. واما القديس أوغسطينوس فيعلق على هذه العبارة ” لقد عرَّفتهم اسمك بالإيمان، وسأجعله معروفًا بالعيان”؛ أما عبارة ” لِتَكونَ فيهمِ المَحبَّةُ الَّتي أَحبَبتَني إِيَّاها وأَكونَ أَنا فيهِم” فتشير الى هدف معرفة الله، وهو ادخالهم في الحياة، فالآب لا يظهر ذاته الا في العطاء وبفصد العطاء، وأمنية يسوع هي اتحاد البشر بحبه. وهذا الاتحاد لا يثمر إلا بحضور الابن فيهم. انه مِلْ النِّعمَةُ والحَقّ (يوحنا 1: 14-16).

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 17: 23-26)
انطلاقا من هذه الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 17: 23-26)، يمكن ان نستنتج انه يتمحور حول صلاة يسوع من اجل كنيسته.
1) طلبة الوحدة للكنيسة:
يتسع طلب يسوع في صلاته الكهنوتية من الصلاة لأجل ذاته الى الصلاة من أجل التلاميذ واخيرا الى الصلاة من اجل الكنيسة: “لا أَدْعو لَهم وَحدَهم بل أَدْعو أَيضاً لِلَّذينَ يُؤمِنونَ بي عن كلامِهم. (17 : 20) . يصلي يسوع للذين يؤمنون به عن يد الرسل وتلاميذهم بما فيهم نحن الذين نتبعه اليوم طالباً الوحدة ومعاينة مجده.
إن أعظم رغبة يطلبها يسوع للكنيسة هي ان تكون واحدة؛ فقد أراد يسوع ان يكون اتباعه متحدين كشهادة لحقيقة محبة الله. وكانت هذه الوحدة على سلم أولويات يسوع. “ولي خِرافٌ أُخْرى لَيسَت مِن هذِه الحَظيرَة فتِلكَ أَيضاً لابُدَّ لي أَن أَقودَها وسَتُصغي إِلى صَوتي فيَكونُ هُناكَ رَعِيَّةٌ واحِدة وراعٍ واحِد” (يوحنا 10: 17)، وهو يضحي بحياته من اجل هذه الوحدة. ” أَنَّ يسوعَ سيَموتُ عَنِ الأُمَّة، ولاعنِ الأُمَّةِ فَقَط، بل لِيَجمَعَ أيضاً شَمْلَ أَبناءِ اللهِ المُشَتَّتين” (يوحنا 11: 52-53).
يطلب يسوع الوحدة لكنيسته لثلاثة أهداف وهي شركة وعلامة وشهادة:
أ‌) وحدة المسيحيين شركة
صلي يسوع لوحدة المسيحيين لتكون شركة في وحدة الآب والابن “فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضاً فينا” (يوحنا 17: 21). صلي يسوع من أجل وحدة المسيحيين لكي تكون على مثال وحدة الآب والابن. صلى من أجل الوحدة بين المؤمنين المبنية على وحدانية المؤمنين مع يسوع والآب. لدى اعتراف المؤمن بالله الواحد: الآب والابن والروح القدس ينفتح للمحبة التي تربط الآب والابن، والتي يشركه فيها الروح “لأَنَّ مَحَبَّةَ اللّه أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحَ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا” (رومه 5: 5). ويمكن للمسيحيين ان يعرفوا الوحدة فيما بينهم لو كانوا يحيون في اتحاد مع الله. فكما يقول لنا في مثل الكرمة والاغصان، كل غصن يحيا مع الكرمة يتحد مع بقية الاغصان الأخرى جميعها أَنا الكَرْمةُ وأَنتُمُ الأَغصان. فمَن ثَبَتَ فيَّ وثَبَتُّ فيه فَذاكَ الَّذي يُثمِرُ ثَمَراً كثيراً (يوحنا 15: 5).
ب‌) وحدة المسيحيين علامة
صلى يسوع لوحدة المسيحيين لتكون علامة للعالم بان يسوع هو قد أتي من الله فعلا. “لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني. (17 : 21). ان وحدة المسيحيين الروحية تقنع العالم بصحة ارساليتهم. بما أن يسوع هو مصدر الوحدة، فإنها تشهد أمام العالم بحقيقة رسالته؛ فالعلامة الوحيدة التي تركها يسوع لإخوته ليست تنظيما كنسيا، ولا جمالا للمراسيم الدينية، ولا تماسكا لعقائدنا، بل الوحدة في الحب المعاش في علاقاتنا الأخوية اليومية. فمن خلال المحبة المتبادلة يرى الناس حضور المسيح وسطهم. ” إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي” (يوحنا13: 35). الحياة كإخوة هي بشرى عملية، هي عمل نبوي، هي رجاء من أجل جميع البشر. عيشنا كإخوة هو أول ارتداد وأول عمل رسولي نقوم به. والتبشير يتمّ أولاً عندما تشعّ الحياة الأخوية، “أنظروا كم يحبّ بعضهم بعضاً”. أين جوابنا وجواب رعايانا المسيحية على هذه الحاجة؟
ج) وحدة المسيحيين شهادة
صلى يسوع لوحدة المسيحيين لتكون شهادة حب الآب. إن أعظم رغبة يطلبها يسوع لتلاميذه هي أن يكونوا واحداً كشهادة قوية حقيقة لمحبة الآب للبشرية، التي أظهرها تعالى ببذل ابنه الواحد “فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة “(يوحنا 3: 16). وتتم هذه الوحدة باشتراك التلاميذ بمجد يسوع الذي وهبه لهم لأنهم كلهم به أبناء ويتمتعون بالحب الواحد، حب الآب:” أَنا فيهِم وأَنتَ فِيَّ لِيَبلُغوا كَمالَ الوَحدَة ويَعرِفَ العالَمُ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني وأَنَّكَ أَحبَبتَهم كَما أَحبَبتَني” (17: 23). إن اعلان محبة الآب للابن توحّد الكل في كمال الوحدة. وبعبارة أخرى يريد يسوع أن يُظهر سر الله بواسطة وحدة التلاميذ. “وَأنا وَهَبتُ لَهم ما وَهَبْتَ لي مِنَ المَجْد لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد” (يوحنا 17: 22). فهل نعمل على اتحاد جسد المسيح أي الكنيسة لنكون شركة في وحدة الآب والابن، وعلامة حضور المسيح بيننا وشهادة حب الله للبشرية؟
2) طلبة معاينة مجده الإلهي
لا يطلب يسوع في صلاته الكهنوتية الوحدة بين المسيحيين بل ان يعاينوا مجده. فهو يصلي كي تنتقل الكنيسة المجاهدة الى الكنيسة الممجَّدة. ويطلب يسوع هذه المعاينة تكليلا لعمله.” يا أَبَتِ، إِنَّ الَّذينَ وهَبتَهم لي أُريدُ أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجد لأَنَّكَ أَحبَبتَني قَبلَ إِنشاءِ العالَم. (17: 24). وهنا يسوع يقول لأبيه: “اريد” وهي المرة الوحيدة يتكلم بهذه الصيغة. انه يتكلم كالابن الذي جعل الآب كل شيء في يديه كما يوكده يوحنا الإنجيلي” إِنَّ الآبَ يُحِبُّ الابن فجَعَلَ كُلَّ شيءٍ في يَدِه”. (يوحنا 3: 35). فأمنية التلميذ ان يكون مع يسوع، ويسوع يطلب هذه النعمة لجميع تلاميذه، فيكونوا بقربه ويقاسموه المجد. والمعاينة هي ليست مشاهدة مجد المسيح فحسب كما جاء في تعليم بولس الرسول “ونَحنُ جَميعًا نَعكِسُ صورةَ مَجْدِ الرَّبِّ بِوُجوهٍ مَكشوفةٍ كما في مِرآة، فنَتَحوَّلُ إِلى تِلكَ الصُّورة، ونَزدادُ مَجْدًا على مَجْد، وهذا مِن فَضْلِ الرَّبِّ الَّذي هو روح”(2 قورنتس 3: 18) أنما تكمن المعاينة أيضا في معرفة المحبة التي تجمع بين الآب والابن. “عَرَّفتُهم بِاسمِكَ وسأُعَرِّفُهم بِه لِتَكونَ فيهمِ المَحبَّةُ الَّتي أَحبَبتَني إِيَّاها وأَكونَ أَنا فيهِم”(يوحنا 17: 26). يطلب يسوع في صلاته ان نشاركه في محبة ابيه السماوي له وهي اجود ما يملكه. هذه هي قمة الانجيل العظمى. إن حب الله بالذات، هو حب الثالوث الاقدس الذي به يحب الآب والابن، هو حب الله يشاركه يسوع على المؤمنين؛ وهذه النعمة تبدأ على الأرض في الأيمان وتكتمل في السماء. فمعاينة مجد المسيح هي الغاية كل المؤمنين به وأساس كل وجود بشري ونهايته كما جاء في تعليم بولس الرسول ” فنَحنُ اليومَ نَرى في مِرآةٍ رُؤَيةً مُلتَبِسة، وأَمَّا في ذلك اليَوم فتَكونُ رُؤيتُنا وَجْهًا لِوَجْه. اليَومَ أَعرِفُ مَعرِفةً ناقِصة، وأَمَّا في ذلك اليَوم فسَأَعرِفُ مِثْلَما أَنا مَعْروف. (1 قورنتس 13: 12).
اختتم يسوع صلاته بوعده أن يتابع رسالته على الأرض عن طريق كشف الآب للعالم:” يا أَبتِ البارّ إِنَّ العالَمَ لم يَعرِفْكَ أَمَّا أَنا فقَد عَرَفتُكَ وعَرَفَ هؤلاءِ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني. (17: 25). ومن خلال الرسالة بإظهار حب الله للبشر، يتحد المؤمن بالله فيشاهد مجده وعندما يشاهد مجد الله يبلغ قمة وجوده ويتحقق كيانه لأنه ” يكون هو حيث المسيح”. وهكذا تصبح الكنيسة شراكة، شراكة المؤمنين أحدهم مع الآخر وشراكة بين المؤمن والله. وفي هذه الشراكة المزدوجة يبلغ الإنسان ملء قامة المسيح، هذا ما أنهى به صلاته التي سيتابعها من أجل شعبه لكي يتابعوا نموهم في التعرف إلى الله “لِتَكونَ فيهمِ المَحبَّةُ (يوحنا 17: 26) ويكون الله فيهم. هذه هي صلاة يسوع المسيح الكهنوتية وهذه هي وصيته لنا.
الخلاصة
صلّى يسوع في صلاته الكهنوتية من أجل ان يكون اتباعه معه واحداً، كما انه واحد مع ابيه السماوي. فالمؤمنون على كثرتهم، يجب ان يكونوا واحدا، لان الله واحد. والوحدة المقصودة بصلاة يسوع هي وحدة قلب وفكر وعقيدة وإيمان. عندما يكون المؤمنون في المسيح، يكون المسيح في المؤمنين. وكل مَن كان مِن المسيح يسعى الى الوحدة. واما من كان همه التفريق فهو ليس من أتباع المسيح.
الوحدة هي شركة في وحدة الآب والابن وهي علامة ليؤمن العالم شهادة حب الآب. فهل نعمل على اتحاد جسد المسيح أي الكنيسة؟ يمكننا ان نصلي من اجل الوحدة، وان نبني بعضنا بعضا وان نعلي شأن المسيح “مُجتَهِدينَ في المُحافَظَةِ على وَحدَةِ الرُّوحِ بِرِباطِ السَّلام. فهُناكَ جَسَدٌ واحِدٌ ورُوحٌ واحِد، كما أَنَّكم دُعيتُم دَعوَةً رَجاؤُها واحِد. وهُناكَ رَبٌّ واحِدٌ وإِيمانٌ واحِدٌ ومَعْمودِيَّةٌ واحِدة، وإِلهٌ واحِدٌ أَبٌ لِجَميعِ الخَلْقِ وفوقَهم جَميعًا، يَعمَلُ بِهم جَميعًا وهو فيهِم جَميعًا” (أفسس 3:4-6).

دعاء من اجل وحدة المسيحيين
أيهــا الـربّ يسـوع،
يـا مَن في ليلـة إقبالـك علـى الموت من أجلنـا،
صلّيـتَ لكـي يكــون تلاميـذك بأجمعهــم واحــداً كما أنّ الآب فيـك وأنـتَ فيــه.
اجعلنا أن نشعــر بعـدم أمانتنـا ونتألّـم لانقسامنـا.
أعطنـا صدقـاً فنعـرف حقيقتنـا، وشجاعـة فنطـرح عنّـا ما يكمن فينـا من لامبالاة وريبـة، ومن عـداء متبـادل.
وامنحنا يـا ربّ أن نجتمــع كلّنـــا فيـك فتصعــد قلوبنـا وأفواهنا بلا انقطاع صلاتـك من أجل وحـدة المسيحيّيــن، كمــا تريـدها أنتَ وبالسبــل التي تــريــد.
ولنجــد فيـك، أيهـا المحبّـة الكـاملـة، الطريـق الذي يقـود إلى الوحـدة، فـي الطـاعـة لمحبتـك وحقّـك. امين
(الصلاة مقتبسة من كتاب أسبوع الصلاة من اجل وحدة المسيحيين 18-25 كانون الثاني 2016).