عظة عيد العنصرة (ج)

الأب بيتر مدروس

يقرأ المرء في المراثي- التي ترتّل في كنيسة القيامة وسائر الكنائس حسب الطقس اللاتينيّ في الأسبوع المقدّس : “د دروب أوروشالم في حداد، لغياب القادمين إلى الأعياد… كهنتها متنهّدون … وهي في مرارة”(1 : 4). وإن كان عدد الحجّاج يختلف من سنة إلى سنة، ألاّ أنّ السّكّان المسيحيين المحليين للمدينة المقدسة ولا سيّما البلدة القديمة أصبحوا يُحصون على الأصابع. ويأتي كل يوم أحد، وهو التذكار الأسبوعي للقيامة السيدية المجيدة ولا يحتفي بالمسيح الحيّ إلاّ نفر قليل ، وبين هذا العدد القليل بشر نسوا مسيحيتهم أو كادوا : “فذهب الواحد إلى حقله والآخر إلى تجارته”، وقد أجبرتهم حكومات ودوائر ومدارس أن يعيّدوا ايام السبوت مع اليهود. . من جهة أخرى، يشرح الله فؤاد بطريرك المدينة المقدسة من عام إلى آخر برسامات شماسية وكهنوتية لرهبان في كنيسة “رقاد السيدة” إذ حكم علينا التاريخ الجائر ألاّ نقيم القداس والرسامات حيث اقامها المعلّم الإلهيّ لأوّل مرّة، في العلّيّة، وهي مذود الكنيسة ومهبط الروح وبدء ملكوت المسيح!
ومرّة ، وجد أحد الكهنة سلوى للمسيحيين الحزانى – وروح القدس هو “المعزّي”. قال: “سنة 30 للحساب الميلادي كان تلاميذ الرب نفرًا قليلاً، وها قد عدنا إلى ذلك العدد”. ولكن بعد بضع سنوات انتشر الإنجيل في كل فلسطين (أعمال 9 : 31) ونعمت الكنيسة بالسلام، وتدهورت الأوضاع. ويا ليت الأمر بقي مسألة كمية بل نوعية المسيحيين تحتاح إلى العودة إلى الجماعة الأولى بإيمانها وتضامنها (أعمال 2 و 4).
ولا نقدر أن نشكو كثيرًا ونحن نقابل وضعنا بأوضاع إخوتنا في العراق وسورية وسواهما!

يوم “العنصرة” أو “الخمسين”(أعمال 2 : 1-11)
هو غداة عيد “الأسابيع” العبري أو “السبعة أسابيع” بمجموع 49. اساسًا كان عيدا زراعيّا وفي القرن الثاني قبل الميلاد صار اليهود يذكرون في ذلك اليوم “نزول التزراة على موسى”.
العنصرة هو نزول روح القدس على العذراء والنسوة والرسل والتلاميذ في العلّيّة وتأسيس الكنيسة. هو عيد “نزول” شريعة المحبة” وقد نقلنا يسوع من “محبة الشريعة” التي ما زالت تحكم العبرانيين والفكر الإسلامي. وبما أنّ لا نزول لروح القدس من غير العذراء والرسل – في شأن تأسيس الكنيسة والمسيحية الحقيقية، فالكنيسة الرسولية هي الخمسينية الحقيقة، وليست كذلك المجموعات التي نشأت في لوس أنجيليس كاليفورنيا على يد الناشط وليام سيمور 1906. وإنّ إصرار هذه الجماعات الحديثة المحدثة على “الكتاب المقدس” يقصد إخفاء تاريخهم وأصلهم الحقيقيين. وهنا ينشأ انعدام في المنطق – ولا يرد المرء أن يفرض عند العامّة انعدام النّزاهة: عندما يعتقدون ان التاريخ يفيدهم (مثلاً في القدح بالكرسي البابوي لتجاوزات حصلت أو بولغ في نقلها)، يستغلّون التاريخ ولا يكتفون بالكتاب المقدس، وعندما يسألهم المحاور اللبيب عن أصلهم ومؤسس(ي)هم، يهربون إلى “الكتاب القدس”ويجيبون :”نحن نتبع الإنجيل!” أمّا الكنيسة الرسولية فلا تتهرب من سلبيات تاريخها البشريّ وتُسَرّ بأنّ “أبواب الجحيم لن تقوى عليها” ، على علاّت رعاتها وشعبها. وروح القدس الذي حلّ على الرسل مؤسسيها هو البارقليط أي المؤيّد والمشجّع والمعزّي والشفيع (في يوحنا 14 – 16).

الباراقليط Παράκλητος في حياتنا الرّوحانيّة والكنسيّة والحوار بين الأديان
“الإيمان يبحث عن العقل، والعقل يبحث عن الإيمان” (مار أوغسطينوس). ويقوى الإيمان إذا استند على العقل ويبقى قسم يسمو على الإدراك البشريّ (عبرانيين 11: 1، رومية 12: 1). من المفيدتفسير اللفظة المركّبة اليونانية “باراقليطوس” المكوّنة من “بارا” أي “عند،نحو، إلى” و “كليتوس” وهي اسم مفعول يعني “مدعوّ”. فالباراقليطوس هو المدعوّ إلى إنسان آخر كي يساعده ويسنده ويقوّيه ويشدّده ويعزّيه: في إنجيل يوحنا 14 – 16 هو “روح القدس” وفي 1 يوحنا 2 : 1 هو يسوع نفسه الإنسان الشفيع الوحيد بموته الفدائي لكي ينال البشر غفران خطاياهم. في الآرامية هو “المعزّي” “مناحمانا”.
في الإعادة التالية إفادة أنّ ما يفرضه نفر من المسلمين أي وجود كلمة “بيريكلتوس” هو غير وارد على الإطلاق في المخطوطات. وحتّى لو فرض المرء جدلاً أن اللفظة وردت فهي تعمي “المشهور”، وليس كل مشهور ممدوحًا ولا كل فاضل ممدوح شهيرًا.
من أقوال القديس غريغوريوس الكبير : “روح القدس هو المعزّي لأنه يسلّي (اي يعطي الأمل) للخاطئين الذين تحزنهم آثامهم”.
ولا تناقض بين هوية “الباراقليطوس” في إنجيل يوحنا الرسول الحبيب ورسالته الأولى بما انه هو “روح يسوع” نفسه.
ويفرح المرء عندما يكتشف أيضًا أنّ كلمة كنيسة في اليونانية هي “إكليسيا” وهي مركبة من “إك” أو “‘يكس” أي “من الخارج” و “كليسيا” أي المدعوّة : فالكنيسة يدعوها روح القدس ، هو “المدعوّ للسند والتشديد” يدعوها من الخارج ومن بعيد لكي تنعم بحياة النعمة وتنشر إنجيل السلام. لذلك، من المحزن أن يتجاهل كثيرون – ومنهم حركة “شهود يهوه” اليهودية- أن يتجاهلوا “الكنيسة” وينقلوا الكلمة اليونانية ب “جماعة” وكأنها بشكل عام أي جمهور أو الأقرب إلى الصواب ال “قاهال” أو “القهيلاه” العبرايان! “ومن شابه اباه ما ظلم”.
وخطأ التعبير الشعبي عن رجال الدين أنهم “رجال الكنيسة” hommes d’églises إذ كل المؤمنين بالمسيح (وما أجمل العبارة اللاتينية كريستي فيديليس Christifideles التي تعني مؤمنين بالمسيح وأمناء للمسيح) –نعم، كل المؤمنين العلمانيي المعمّدين هم الكنيسة وقاعدتها ومنهم يخرج المكرّسون بالكهنوت أو الرهبنة أو العزوبية المكرسة، والكنيسة نفسها هي هي “عمود الحقّ وركنه” ( 1 تيموثاوس 3 : 15): ولا عجب لأنها – على مثال العذراء ولكن بدرجة أدنى – “عروس الروح”.
خاتمة
ما أحوجنا في فلسطين وسورية والعراق وسائر الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وسواها إلى تشديد الروح وتعزيته. والواقع أن كل المسيحيين في الغرب أيضًا بحاجة إلى تشديد روح القدس وقد تألّبت عليهم قوى الشر والاضطهادات الخفيّة والمباشرة ورغبة الشيطان في أن يقتلع بفارغ الصبر المسيحية من الغرب أيضًا، عن طريق الوسوسة في قلوب المسيحيين بترك الإيمان والكنيسة ثم عدم الإنجاب وبأمواج من “لاجئين” غير مسيحيين مخططات الذين أرسلوهم هي بالضبط القضاء على الكنسة. وهذا ما يجهله بعض رجال الدين الأعاجم، لسلامة نيتهم وعدم معرفتهم بخلفية أولئك “المهاجرين” او “اللاجئين” وبقوا أي الإكليروس الغربي في هذا الجهل لعدم استماعه إلى الكنيسة في الشرق.