عظة عيد العنصرة (ج)

الأب لويس حزبون

في أحد العنصرة يقدم سفر اعمال الرسل مشهد العنصرة بحلول الروح القدس على الرسل الاطهار (اعمال الرسل 2: 1-11)؛ فما أن نالوا العماد بالروح القدس حتى صار الروح القدس للكنيسة القائد السماوي، الروح المعزي الذي يهب البشر عهدا جديدا كي يتمتعوا بعلاقات جديدة مع الله وفيما بينهم. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع نص اعمال الرسل (اعمال الرسل 2: 1-11) وتطبيقاته.
اولا: وقائع (اعمال الرسل 2: 1-11)
1ولَمَّا أَتى اليَومُ الخَمْسون، كانوا مُجتَمِعينَ كُلُّهم في مَكانٍ واحِد،
تشير عبارة “الخَمْسون” πεντηκοστή الى العيد الذي كان اليهود يحتفلون به بعد الفصح بخمسين يوما؛ وكان هذا العيد لدى اليهود هو عيد الحصاد، لذا فإنه يُعرف باسم “عيد البَواكير” (عدد 28: 26). ويُعرف أيضا بعيد الأسابيع (خروج 23: 16) وهو أحد الأعياد السنوية الثلاثة الكبرى (الاحبار 23: 16، تثنية الاشتراع 16: 9)، وهو عيد شكر لله على بركة الحصاد. ومؤخرًا حسبه اليهود يوم نزول الشريعة في سيناء في اليوم الخمسين من خروجهم من مصر، ولهذا يدعونه שמחת התורה (فرح التوراة)، وهو عيد ذكرى لعهد سيناء بين الله وبني إسرائيل وإعطاء الشريعة. وصار العيد مناسبة حج يجمع الكثير من اليهود في اورشليم يأتون من بلدان كثيرة. اما العنصرة في المسيحية فهي حلول الروح القدس في عليّة صهيون في اورشليم على التلاميذ بعد خمسين يوما من قيامة الرب. لذا نجد في العنصرة المسيحية عهداً جديداً لا مع شعب واحد كما هو في العنصرة اليهودية، بل مع البشرية كلها من الاقطار الأربعة. ورأى لوقا في تجمع المسيحيين قلبا واحد في يوم العنصرة صورة تجمع الكنيسة بعكس برج بابل حيث تشتت البشرية (تكوين 11/1)، ورأى أيضا في “امتلاء جميع اعضاء الجماعة المسيحية الاولى مِنَ الرُّوحِ القُدس” تتميما لنبوءة يوئيل عن فيض الروح القدس على الجميع بدون تمييز (يوئيل3: 2). واما عبارة ” كانوا مُجتَمِعينَ كُلُّهم ” فتشير الى الرسل الاثني الوارد ذكرهم “أَمَّا أَنتُم ففي الرُّوحِ القُدُسِ تُعَمَّدونَ بَعدَ أَيَّامٍ غَيرِ كثيرة ” (أعمال الرسل 1: 5). أما القديس يوحنا الذهبي الفم فيشير إلى العدد المائة والعشرين الى التلاميذ 120 الوارد ذكرهم (اعمال الرسل 1: 15)، إذ يقول “هل حلّ على الاثني عشر؟ ليس كذلك، بل على المائة وعشرين” وذلك تحقيقا لقول ارميا النبي ” وأَجمعُهم مِن أَطْرافِ الأَرض” (إرميا 31: 8). أمّا عبارة “في مَكانٍ واحِد” فتشير الى علية صهيون في القدس كما تشير أيضا الى غَيْرة متقدة نحو هدفٍ واحدٍ ورغبةٍ واحدةٍ، فكان الكل مُلتهبين في الداخل نحو تحقيق وعد السيد المسيح بنيل قوة من العلى “الرُّوحَ القُدُسَ يَنزِلُ علَيكم فتَنَالون قُدرَةً” (أعمال 1: 8). وقد حلّ الروح القدس في يوم عيدٍ له قدسيته عند اليهود والدخلاء، حيث يحتفل به جمهور عظيم من كل الدول، فيسرع الكل ويصير من بينهم شهود يَقبلون الإيمان ويعودون إلى الدول التي يعيشون فيها يكرزون بالحق الإنجيلي.
2فانْطَلَقَ مِنَ السَّماءِ بَغتَةً دَوِيٌّ كَريحٍ عاصِفَة، فمَلأَ جَوانِبَ البَيتِ الَّذي كانوا فيه”
تشير عبارة “بَغتَةً ” الى ان التلاميذ كانوا يترقبون تحقيق الوعد الإلهي بحلول الروح القدس، لكنهم لم يكونوا يتوقعون حلوله خلال هذه المظاهر، لذلك كان الأمر مفاجئاً؛ أما عبارة “ريحٍ” باليونانية πνοή فتشير إلى كلمة روح πνεῦμα. والروح تدل على القوة الروحية الخلاَّقة كما ورد في سفر التكوين “رُوحُ اللهِ يُرِفُّ على وَجهِ المِياه”(التكوين 1: 2)؛ فاللفظة واحدة أيضا في العالم السامي: ريح وروح. الروح القدس يشبه ريحاً خفياً “فالرِّيحُ تَهُبُّ حَيثُ تَشاء فتَسمَعُ صَوتَها ولكنَّكَ لا تَدْري مِن أَينَ تَأتي وإِلى أَينَ تَذهَب. تِلكَ حاَلةُ كُلِّ مَولودٍ لِلُّروح” (يوحنا 3: 8)، ويُوضَّح ذلك صاحب المزامير بقوله “الرِّيحُ العاصِفَةُ المُنَفِّذَةُ لِكَلِمَتِه” (مزمر 148: 8)؛ الريح تشير لطبيعة الروح القدس غير المرئية ولكنها مؤثرة وفعالة ولها صوت مسموع. ويعلّق مار افرام السرياني على ذلك “كما هيَّأت الزلزلة والنار قلب إيليا للتمتع بالحضرة الإلهية والدخول في حوارٍ مع الله أثناء الريح الهادئ (1 ملوك 9: 11)، هكذا أعلنت هذه الظواهر عن حلول الروح القدس وميلاد الكنيسة؛ أما عبارة “فمَلأَ” فتشير الى حلول الروح القدس “امتَلأُوا جَميعًا مِنَ الرُّوحِ القُدس “(اعمال الرسل 2: 4)؛ أما عبارة “البَيت” فتشير الى العلية في جبل صهيون القدس (اعمال الرسل 1: 13-14)، وكان مكان اجتماع وصلاة لجماعة الرسل. وصارت اورشليم حيث تلتئم الجماعة موضوع حلول الروح القدس وانطلاق الكلمة التي بدأت مع يسوع في الناصرة (لوقا 4: 16: 30).
3وظَهَرَت لَهم أَلسِنَةٌ كأَنَّها مِن نارٍ قدِ انقَسَمت فوقَفَ على كُلٍّ مِنهُم لِسان”
تشير عبارة “النار ” الى طبيعة الروح وطبيعة الأداء الذي سيؤديه كروح إحراق وتطهير لقلوب المؤمنين وإشعال الغيرة والحب في النفوس (لوقا 12: 49). اما عبارة “أَلسِنَةٌ ” فتشير الى أن الله سيستخدم التلاميذ ليبشروا كل العالم، كلٌ بلسانه (مرقس 16: 17)؛ اما عبارة” أَلسِنَةٌ كأَنَّها مِن نارٍ” فتشير الى ارتباط شكل النار بعطية الالسنة (اشعيا 5: 24)؛ فاللسان يدلّ على الكلام، والنار تدل على الله المطّهر لحياتنا، فهي تشير إلى عمل التطهير الخاص بمهمة الروح القدس (اشعيا 6: 6-7)؛ فكما حل الله على جبل سيناء بالنار (خروج18:19)، هكذا صار كلام الرسل كلام الله بما فيه من قوة تحرق خبث الانسان، وذلك تتميما لكلمات يوحنا المعمدان “أَنا أُعَمِّدُكم بِالماء، ولكِن يأتي مَن هُو أَقوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهلاً لأن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار” (لوقا 3: 16). هذه هي النار التي جاء بها السيد المسيح لكي يرسلها إلى البشر” جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!” (لوقا 12: 49). وكما على جبل سيناء أكّد الله على صدق وصلاحية شريعة العهد القديم بنار من السماء “لأَنَّ الرَّبَّ نَزَلَ عَلَيه في النَّار” (خروج 19: 18) كذلك في يوم العنصرة أكد الله على صدق وصلاحية العهد الجديد بالروح القدس الممثل بألسنة من النار. اما عبارة “انقَسَمت فوقَفَ على كُلٍّ مِنهُم لِسان” فتشير إلى ان لكل منهم موهبة غير الآخر، وعمل يحدده له الروح غير الآخر، ويعلق العلامة ايرونيموس “يقدِّمه الروح القدس لهم من تنوّع للألسنة واللغات حتى يتمكنوا من الكرازة بين الأمم، فيتحدثوا مع كل أمةٍ بلغتها التي تتفاهم بها”؛ أما عبارة “على كُلٍّ مِنهُم” فتشير الى الرسل الاثني عشر، إذ حلّ الروح القدس في كيانهم ليقيم منهم هيكلًا مقدسًا يسكن فيه ويعمل فيهم وبهم كما يوكّده بولس الرسول “أَما تَعلَمونَ أَنَّكُم هَيكَلُ الله، وأَنَّ رُوحَ اللهِ حالٌّ فيكم؟” (1 قورنتس 3: 16).
4فامتَلأُوا جَميعًا مِنَ الرُّوحِ القُدس، وأَخذوا يتكلَّمونَ بِلُغاتٍ غَيرِ لُغَتِهِم، على ما وَهَبَ لهُمُ الرُّوحُ القُدُسُ أن يَتَكَلَّموا.”
تشير عبارة “فامتَلأُوا جَميعًا مِنَ الرُّوحِ القُدس” الى نبوءة يوئيل عن انسكاب الروح القدس” سيَكونُ بَعدَ هذه أَنِّي أُفيضُ روحى على كُلِّ بَشَر” (يوئيل 3: 1)؛ الروح يملأ كل الكيان فيصير الكيان كله لله، ويصير الجسد للمسيح. وأمَّا عبارة “يتكلَّمونَ بِلُغاتٍ غَيرِ لُغَتِهِم” فتشير الى موهبة “التكلم باللغات”، فالرسل يتكلمون على طريقة الأنبياء الأقدمين أيام موسى كما ورد في سفر العدد ” فنَزَلَ الرَّب في الغَمام وخاطَبَ موسى، وأَخَذَ مِنَ الروحِ الَّذي علَيه وأَحَلَّى على الرًجالِ السَّبعين، أَيِ الشُّيوخ. فَلمَّا استَقَرَّ الرُّوحُ علَيهم، تَنبَأُوا، إِلاَّ أَنَّهم لم يَستَمِروا”(عدد 11: 25-29). كان اتباع المسيح في أوائل الكنيسة الذين استولى عليهم الروح القدس ” يتكَلَّمونَ بِلُغاتٍ غَيرِ لُغِتِهم” (اعمال الرسل 10: 46)، يتكلمون وهم في حالة حماسة فريدة (اعمال الرسل 2: 13). لكن التكلم بلغات أخرى” هو ان يكون الانسان مفهوما في لغات سائر الشعوب. فالبشارة وصلت الى جميع الشعوب في لغتهم. فاستطاع كل واحد ان ينشد اعمال الله العظيمة. وهذا ما تفعله الكنيسة اليوم حين تنقل الكتاب المقدس الى لغات العالم كله. فإن موهبة الروح تعيد هنا وحدة البشرية التي تفككت في برج بابل. وقد “سُمِّيَت بابِل، لأنَّ الرَّبَّ هُناكَ بَلبَلَ لُغَةَ الأَرضِ كُلِّها. ومِن هُناكَ فَرَّقهمُ الرَّبُّ على وَجهِ الأَرضِ كُلِّها”(تكوين 11: 1-9) وهي صورة سابقة لما في رسالة الرسل من بعد شمولي “لكِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ يَنزِلُ علَيكم فتَنَالون قُدرَةً وتكونونَ لي شُهودًا في أُورَشَليمَ وكُلِّ اليهودِيَّةِ والسَّامِرَة، حتَّى أَقاصي الأَرض” (عمال الرسل 1: 8). فالروح القدس هو مصدر قوة يمنح موهبة التكلم بلغات جديدة والنطق بأسلوب جديد.
5وكانَ يُقيمُ في أُورشَلَيمَ يَهودٌ أَتقِياء مِن كُلِّ أُمَّةٍ تَحتَ السَّماء”
تشير عبارة ” يُقيمُ في أُورشَلَيمَ” κατοικοῦντες الى ما من يسكن دائماً، لكنه أحيانًا يمكن أن يدلّ سكن مؤقتٍ. هذا وغالبًا ما كان أغنياء اليهود القاطنين في بلاد أجنبية يشترون مسكنًا دائمًا في أورشليم علامة على ارتباطهم بالهيكل واعتزازهم بجنسيتهم. اما عبارة “أَتقِياء” في اليونانية εὐλαβεῖςفتشير الى يهود الذين يسلكون بوقارٍ وحكمة، جادين في عبادتهم وطلب خلاص نفوسهم في مخافة الرب. اما عبارة “يَهودٌ أَتقِياء” فكان لقب يُطلقه يهود أورشليم على القادمين من كل أمة من إخوتهم اليهود بالميلاد أو الدخلاء المتهودين ليعَيِّدوا في أورشليم، وكان لهم روح التقوى؛ خاصة وأنهم كانوا يقدمون عطايا بسخاءٍ سواء لفقراء يهود اورشليم أو لخدام الهيكل؛ أمَّا عبارة “مِن كُلِّ أُمَّةٍ” فلا تشير الى سكان اورشليم وفلسطين فحسب، إنما أيضا الى اليهود الذين جاؤوا من كل الأرض. وبحسب إحصاء رجال الدين اليهود كان تعدادهم سبعين امة. وكان هؤلاء إما يهودًا وُلدوا في دولٍ مختلفة وقد جاءوا إلى أورشليم للاحتفال بالعيد، أو كانوا عابرين من بلد إلى آخر فقطنوا في أورشليم إلى حين، أو هم دخلاء من أصل أممي تهوَّدوا وجاءوا إلى أورشليم لذات الهدف. وعليه فإن هذه الآية لا تشير الى الحجاج الذين أتوا في عيد العنصرة فقط، بل الى اليهود الآتين من جميع انحاء العالم ايضا. ومن هنا نستنج ان في انجيل لوقا ينطلق التبشير من الناصرة (لوقا 4: 16-30)، اما في اعمال الرسل فينطلق التبشير من اورشليم “الرُّوحَ القُدُسَ يَنزِلُ علَيكم فتَنَالون قُدرَةً وتكونونَ لي شُهودًا في أُورَشَليمَ وكُلِّ اليهودِيَّةِ والسَّامِرَة، حتَّى أَقاصي الأَرض” (عمال الرسل 1: 8).
6فلَمَّا انطَلَقَ ذلكَ الصَّوت، تَجَمهَرَ النَّاسُ وقَد أَخَذَتْهُمُ الحَيرَة، لأَنَّ كُلاًّ مِنهُم كانَ يَسمَعُهم يَتَكَلَّمونَ بِلُغَةِ بَلَدِه”
تشير عبارة “يَتَكَلَّمونَ بِلُغَةِ بَلَدِه” الى اللهجة اليونانية (كويني) اي اللهجة العامية التي كان يتكلّمها معظم الحجاج ما عدا أولئك الذين من الأجزاء الشرقية (فَرثِيِّين وميدِيِّين وعَيْلامِيِّين وسُكَّانِ الجزَيرَةِ بَينَ النَّهرَين واليَهوديَّةِ) الذين كانوا يتكلمون باللهجات الآرامية. فالمعجزة تكمن في “وحدة” اللغة المبنية على المحبة، إذ جاء أناس من أمكنة كثيرة فتفاهموا.

7فدَهِشوا وتَعجبَّوا وقالوا: ((أَلَيسَ هؤُلاءِ المُتَكَلِّمونَ جليليِّينَ بِأَجمَعِهم؟”
تشير عبارة “فدَهِشوا وتَعجبَّوا” الى تعجب حجاج اورشليم حين سمعوا الرسل يتحدثون بلغة الحجاج. فإن الله يصنع كل المعجزات لنشر الانجيل مستخدما اللغات المتعددة في دعوته لكل البشر لاتباعه مهما كان جنسهم وهويتهم ولغتهم او انتماؤهم.
8 فكَيفَ يَسمَعُهم كُلٌّ مِنَّا بِلُغَةِ بَلَدِه”
تشير عبارة “فكَيفَ يَسمَعُهم كُلٌّ مِنَّا بِلُغَةِ بَلَدِه “الى اندهاش اليهود أنه للمرة الأولى في تاريخ أورشليم تُقدم الدعوة بلغات العالم للتعرف على الله والإيمان به والعبادة له، لأنَّ كثير من القادة اليهود يحسبون اللغة العبرية هي لغة الله. فتعدد اللغات هو موهبة الروح الأولى عن يد يسوع “لَمَّا رَفعَهُ اللهُ بِيَمينِه، نالَ مِنَ الآبِ الرُّوحَ القُدُسَ المَوعودَ بِه فأَفاضَه، وهذا ما تَرَونَ وتَسمَعون” (اعمال الرسل 2: 33). وعليه فإنَّ باب الإيمان قد انفتح أمام الأمم وأن كل شخص يتعبد لله حسب اللغة التي وُلد فيها.
9 بينَ فَرثِيِّين وميدِيِّين وعَيْلامِيِّين وسُكَّانِ الجزَيرَةِ بَينَ النَّهرَين واليَهوديَّةِ وقَبَّدوقِية وبُنطُس وآسِيَة”
تشير عبارة “فَرثِيِّين وميدِيِّين وعَيْلامِيِّين وسُكَّانِ الجزَيرَةِ بَينَ النَّهرَين واليَهوديَّةِ وقَبَّدوقِية وبُنطُس وآسِيَة” الى قائمة بالبلدان والشعوب التي جاء منها اليهود للاحتفال بالعيد في اورشليم؛ أمّا عبارى”فرثيون” ط فتشير الى أهل بارثيا القديمة، وهي مقاطعة خراسان الحالية، شمال شرقي إيران. وربّما حملوا بشارة الإنجيل معهم إلى بارثيا حين عادوا إليها. وأما “الميدييون” فهم من دولة مادي، وهي من أغنى مناطق آسيا، وقد دٌعيت في الكتاب المقدس باسم ” ماداي” (التكوين 10: 2) وتقع شمال غربي بلاد فارس. وأما “عيلاميون” فهم أهل منطقة فارس حاليًا من نسل عيلام بن شيث (التكوين 10: 22). وقد أرسل الأشوريّون بعض مواطني السامرة إلى عيلام، وأرسلوا عيلاميّين إلى فلسطين ليحلّوا محل أولئك. وصارت عيلام فيما بعد جزءً من الإمبراطورية الفارسيّة، عاصمتها شوشان، يدعوها اليونان سوسا. وعند عودة اليهود من السبي كان بقايا هؤلاء الذين تهجّروا إلى فلسطين يقاومون فكرة إعادة بناء الهيكل (عزرا 4: 9)؛ اما “سُكَّانِ الجزَيرَةِ بَينَ النَّهرَين” فهم يهود بابل، هؤلاء الذين لم يريدوا الرجوع من السبي البابلي، بل استوطنوا هناك، وتقع بلادهم ما بين نهري دجلة والفرات. وجدت في هذه المنطقة أماكن هامة وردت في الكتاب المقدس مثل أور الكلدانيين مكان مولد إبراهيم (التكوين 11: 27-28)، وحاران حيث توقف تارح فيها وهناك مات (التكوين 11: 31 -32)، وكركميش (2 اخبار 25: 20)؛ واما “اليهودية” فتشير الى اليهود الساكنين فيما بين النهرين. لكن كثير يرون إنها اليهودية في فلسطين حيث كانت لهجتهم مختلفة عن لهجة الجليليين؛ واما عبارة “قَبَّدوقِية ” فتشير الى أكبر ولايات آسيا الصغرى (تركيا)، تقع في الشرق، استوطن بعض اليهود هناك ونالوا حق المواطنة. جعلها طيباريوس، عند وفاة الملك أرخلاوس عام 17م مقاطعة رومانيّة. ووحّدها فسباتيان عام 70 م. مع أرمينيا الصغرى، فصارت من أكبر ولايات الحدود. وبعد قبولها للإيمان المسيحي خرجَّت لنا شخصيات رائعة مثل القديس باسيليوس الكبير والقديس غريغوريوس أسقف نيصص أحد الآباء العظام، دعاه القديس غريغوريوس النزيانزي: “عمود الكنيسة كلها” ولقّبه الأب مكسيموس المعترف “معلم المسكونة”؛ واما “بُنطُس” فهو اسم يوناني Πόντος ولاتيني Pontus معناه “البحر”، وهو الاسم القديم للبحر الأسود والأراضي الواقعة على طول ساحله الجنوبي. وهي في الأصل جزء من قَبَّدوقِية كان ملكها المشهور هو مثرادتس استطاع أخيرًا الرومان أن يخضعوه. وبُنطُس هي وطن أكيلا (اعمال الرسل 2: 19)؛ واما “آسية” فيقصد بها آسيا الصغرى، وهي جزء من تركيا، تُدعى حاليًا ناتوليا. وقد أحصيت الشعوب من الشرق الى الغرب، ومن الشمال الى الجنوب كما توزّعت الكنيسة في زمن لوقا الإنجيلي.
10وفَريجِيَة وبَمفيلِيَة ومِصرَ ونَواحي ليِبيَةَ المُتاخِمَةِ لِقِيرِين، ورومانيِّينَ نُزَلاءَ ههُنا”
تشير عبارة “فرّيجيّة” الى قطاع كبير من آسيا الصغرى (تركيا)، وتُدعى في الوثائق الأشوريّة والعهد القديم “ماشك”، كان شعبها محاربًا، وكانوا يتاجرون في النحاس والعبيد (حزقيال 32: 26). وكثير من حكّامها دعوا “ميداس”، ولعلّ هذا الاسم كان لقبًا خاصًا بحكّامهم، مثل فرعون مصر. في عام 116 ق.م. صارت جزءاً من آسيا الرومانيّة؛ وذَكر العهد الجديد بعض مدنها مثل لاودكيّة وكولوسي وهيرابوليس وأنطاكية بيسيديّة. وقد اجتاز الرسول بولس في فرّيجيّة في رحلتيه الثانيّة والثالثة (اعمال الرسل 16: 6؛ 18: 23)؛ اما “بمفيلية” فكان اسمها القديم ناتوليا وحاليًا تدعى كرمانيا؛ وهي منطقة على الساحل الجنوبي الغربي من تركيا. كانت عاصمتها برجة التي زارها الرسول بولس (اعمال الرسل 13: 13)؛ اما “يهود مصر” فكانوا من الجالية اليهودية في مصر، وهم أهم يهود الشتات. وبلغ عددهم نحو مليون فرد حسب الفيلسوف فيلون اليهودي الاسكندري الجنس، وكان أبلّس يهوديًا إسكندري الجنس، الذي بسبب بلاغته وفلسفته وكرازته كوَّن فريقاً نسب نفسه إليه من بين الأربعة فرق هناك (1 قورنتس 1: 12). وقد قام يهود مصر بترجمة العهد القديم إلى اليونانية التي تُعرف بالترجمة السبعينية، التي ساعدت على نشر الإيمان المسيحي بين الأمم واليهود المتكلّمين باليونانيّة. ويذكر التقليد أن هذه الترجمة تمّت في زمن بطليموس الثاني أو فيلادلفس (285-246 ق.م)؛ واما عبارة “نَواحي ليِبيَةَ المُتاخِمَةِ لِقِيرِين” فيُقصد بها القطاع الشمالي عند قيروان. واهم رجالاتهم القديس مرقس الرسول الكارز في مصر وليبيا، وقد وُلد هناك، لكن والديه اضطرا إلى الذهاب إلى أورشليم ومعهما مرقس بسبب هجوم حدث لهم. وكان لليهود الليبيين مجمعٌ خاصٌ بهم في أورشليم؛ اما عبارة “قيروان” فتشير الى الساحل الشمالي من إفريقيا على البحر المتوسط، كانت تُدعى ايضا بنتابوليس أي الخمس مدن (الغربية). وقد نال سمعان القيرواني بركة حمل الصليب في طريق السيد المسيح للصلب (مرقس 15: 21)؛ اما عبارة “رومانيِّينَ نُزَلاءَ ههُنا” فتشير الى يهود روما. وكانوا أصلًا من ضمن الأسرى الذين أسرهم بومبي من أورشليم عام 63 ق.م، وقد تحرروا بعد ذلك. يقول يوسيفوس أنه وُجد في أيامه ثمانية مجامع يهودية في روما. وطردهم الامبراطور كلوديوس، ثم عادوا وكوًنوا جالية كانت ممثلة في أورشليم تُدعى الليبرتنيين، وهم يهتمون بتطبيق الشريعة، وحفظ يوم السبت، وعدم الشركة في الطقوس الوثنية الخاصة بالرومانيين. وتشير هذه الأمم الخمس عشر المذكورة من الشرق الى الغرب مع اورشليم واليهودية في الوسط الى المعمور كله. ونحن هنا مع عهد جدد. لا مع شعب واحد، بل مع البشرية كلها الآتية من الاقطار الأربعة والمتمثلة بهذه الباكورة. وهكذا اعدّ الله السبيل لانتشار الانجيل في العالم ونمو الكنيسة. فكانت البداية في اورشليم اليوم الخمسين حيت احتفلوا بالامتلاء من الروح القدس.

11 مِن يَهودٍ ودُخَلاء وكَريتِيِّينَ وعَرَب؟ فإِنَّنا نَسمَعُهم يُحَدِّثونَ بِعَجائِبِ اللهِ بِلُغاتِنا)).
تشير عبارة “دُخَلاء” الى أناس ليسوا يهوداً بالولادة، بل اعتنقوا الديانة اليهودية، وصاروا أعضاء في الشعب اليهودي، كما هو الحال في انطاكيا ” فلَمَّا انفَضًّتِ الجَماعَة، تَبِعَ بولسَ وبَرْنابا كثيرٌ مِنَ اليَهودِ والدُّخَلاءِ الَّذينَ يَعبُدونَ الله. فأَخَذا يُكَلمِّانِهم ويَحُثَّانِهم على الثَّباتِ في نِعمَةِ الله” (اعمال الرسل 13: 43)؛ وأمَّا عبارة “كريتيون” فتشير الى سكان جزيرة كريت في البحر الابيض المتوسط، حيث وُجدت جالية يهودية فيها، وهي أساس تكوين الكنيسة التي أقام عليها الرسول بولس تلميذه تيطس أسقفًا. ومن بين يهود قبرص نجد برنابا وهو لاوي يهودي قبرصي الجنسية، وهو خال القديس مرقس الرسول. اما عبارة “عرب” فتشير الى الجزيرة العربية. وكان ملك العرب هو الحارث (2 قورنتس 11: 32)، وعاصمته بترا. تزوج هيرودس انتيباس رئيس ربع الجليل بنت أرتياس العربي ثم طلقها وتزوج هيروديا امرأة أخيه؛ وامَّا عبارة ” نَسمَعُهم يُحَدِّثونَ بِعَجائِبِ اللهِ ” فتشير الى أعمال الله العظيمة مثل تجسد الكلمة، ومعجزاته العجيبة، وعمل الخلاص الفائق من صلبٍ وقيامةٍ وصعودٍ، وخطة الله لخلاص البشرية ووحدتهم وبكلمة تشير العنصرة على الوحدة والبركة عكس اللعنة على بابل والتشتت.
ثانياً: تطبيقات النص (اعمال الرسل 2: 1-11)
انطلاقا من هذه الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص (اعمال الرسل 2: 1-11) يمكن ان نستنتج انه يتمحور حول عيد العنصرة ودورها في الكنيسة.
1) العنصرة وعناصرها
أ) مفهوم العنصرة: الكلمة اليونانية للعنصرة في المفهوم المسيحي هي ” πεντηκοστή “تعني الخمسين، وهي في الاجندة اليهودية تدل على العيد الذي يحتفل به اليهود خمسين يوما بعد الفصح. في الأصل كان العيد زراعياً، وهو عيد حصاد القمح (خروج 23: 16).
وبعد الجلاء الى بابل، في القرن لخامس ق. م. لم يعد العيد احتفالا بحدث زراعي، بل اتخذ معنى تاريخياً: وهو الاحتفال بحدث عهد سيناء أي نزول الشريعة اليهودية. واما في القرن الثالث ق. م. فأصبح عيد العنصرة عيد تجديد العهد (2 اخبار 15: 10-15). وفي زمن المسيح كان اليهود يتذكرون في عيد العنصرة عطية الشريعة في سيناء. فكانوا يحتفلون بالعهد فيجددونه. اما جماعة قُمران فكانوا يحتفلون في يوم العنصرة بعد الدخول في العهد.
ب) علاقة العنصرة بالعهد: نجد علاقة بين الفصح (الخلاص) والعنصرة (العهد) في تاريخ الخلاص والليتورجيا. فإسرائيل نجا من مصر ومن البحر (الفصح) (خروج 14-15) ليدخل في عهد مع الله في سيناء. فمن خلال الفصح والعنصرة أي من خلال الخلاص والعهد أصبح بني إسرائيل شعباً، لأنه نجا من قوى الدمار والموت واخذ مكانته بين الأمم حين التقى بالرب وبكلمته في العهد.
وعليه فإن عيد العنصرة يُذكِّرنا بالعهد. والعهد هو المناخ الذي يَحيا فيه شعب إسرائيل الذي يجد علة وجوده من خلال ارتباطه بالرب. لذا اهتم الأنبياء بالحفاظ على العهد، ولكن حين رأى الأنبياء ان إسرائيل نقض العهد تطلعوا الى زمن يقطع الله فيه عهداً جديدا (ارميا 31: 31، وحزقيال 36: 26). إن الله يقيم بروحه عهداً جديداً في قلب شعبه. ومنذ ذلك الوقت أصبح العهد لا يعني إسرائيل فقط، بل البشرية كلها (التكوين 9) وهذه هي العنصرة المسيحية التي تنبأ عنها اشعيا النبي، وهي حج الشعوب في نهاية الأزمنة الى جبل الله لعبادة الاله الحقيقي “فتَسيرُ الأُمَمُ في نورِكِ والمُلوكُ في ضِياءِ إِشْراقِكِ” (اشعيا 60: 2) لذا يتلو اليهود مزمور 68 في عيد العنصرة حيث يجددون العهد.
ج) عناصر العنصرة: هما الروح القدس والتكلم بالألسن. اما عناصر العنصرة فيورد لوقا صور تذكرنا بحدث سيناء “دوي” (أعمال الرسل 2: 2) وصوت (اعمال الرسل 2: 6)، وألسنة نار تنقسم ” (اعمال الرسل 2: 3). كل هذه الصور تنبهنا الى اننا أمام سيناء جديدة وعهد جديد لهذا الشعب الجديد الذي اجتمع كلهم معاً ” بقلب واحد”. ويُعلق القديس كيرلس الاورشليمي “في القديم كان هناك سيف ناري على أبواب الفردوس، والآن لسان ناري يجلب الخلاص ويرد إلى الفردوس”. واما محور العنصرة فيكمن في هذه الكلمات “فامتَلأُوا جَميعًا مِنَ الرُّوحِ القُدس”(اعمال الرسل 2: 4). فجاء تعبير “امتلأ” خاصة في سفر الأعمال ومفاده أنَّ الروح القدس يملأ النفس وينتشر فيها ويحرِّكها، ويحرك كيان الإنسان كله بكل مشاعره وطاقاته كما حدث مع اليصابات لدى زيارة مريم العذراء لها (لوقا 1: 41) وحدث مع زكريا الكاهن لدى ولادة يوحنا المعمدان “امتلأ زكريا أبوه من الروح القدس وتنبأ” (لوقا 1: 67). فالروح القدس كفيض داخلي يملأ المكان.
العنصرة والتكلم بالألسن: اما التكلم بالألسن فهي علامة على حضور الروح القدس الملموس. قد يكون التكلم بالألسن بمعنى ان الرسل تكلموا بلغات غريبة عن لغتهم كما جاء في إنجيل مرقس “يَتَكَلَّمون بِلُغاتٍ لا يَعرِفونَها” (مرقس 16: 17) او بمعنى ان الرسل تكلموا لغتهم الآرامية، ففهم كل واحد في لغته. فقد سبق وتنبأ إيليا “إِنَّ الرَّبَّ سيُكَلِّمُ هذا الشَّعْبَ بِشِفاهٍ تَتَلَعثَمُ ولسانٍ غَريب” (اشعيا 28: 11). ويعلق العلامة أوغسطينوس” أنه في يوم الخمسين أُعطي للشخص الواحد أن يتحدّث بكل لغات الأمم لكي يكرزوا، الآن الكنيسة هي الجسد الواحد وقد امتدّت إلى العالم كله، صارت أيضًا تنطق بكل لغات العالم”.
ولكن ما يقصده لوقا من ظاهرة التكلم بالألسن هي المقارنة بين بلبلة الالسن في بابل (التكوين 11) التي منعت الناس من ان يتفاهموا، وبين وحدة القلوب والشعوب يوم العنصرة لدى نزول الروح القدس على التلاميذ ليفهموا جميع الشعوب ويوحّدوهم في كلمة الله. وعلّق فيلون اليهودي الاسكندري بقوله” أعجب شيء هو الاتفاق الواحد حيث هتف الشعب بصوت واحد: ” كُلُّ ما تَكَلَّمَ الرَّبُّ بِه نَعمَلُه” (خروج 19: 8). أمَّا في بابل فلم يسمع الواحد صوت قريبة (التكوين 11: 7)، وفي العنصرة كان “أَنَّ كُلاًّ مِنهُم كانَ يَسمَعُهم يَتَكَلَّمونَ بِلُغَةِ بَلَدِه “(اعمال الرسل 2: 6). وباختصار استولى الروح القدس على هذا الشعب الجديد ليعطيه الحياة وليقيمه في عهد جديد.

2) دور العنصرة في الكنيسة
ا) العنصرة المسيحية:
العنصرة هي تتمة سر المسيح الفصحى: “يَسوعُ هذا قد أَقامَه اللّه… فلَمَّا رَفعَهُ اللهُ بِيَمينِه، نالَ مِنَ الآبِ الرُّوحَ القُدُسَ المَوعودَ بِه فأَفاضَه، وهذا ما تَرَونَ وتَسمَعون”(اعمال الرسل 2: 23-33). فالعنصرة تبرهن ان يسوع مُجِّدَ حقاً؛ السماوات تنفتح في يوم العنصرة ليرسل المسيح الروح القدس الى الكنيسة، ليستطيع هذا الشعب الجديد ان ينال الحياة الحقة. وها قد وصلت الازمنة المسيحانية التي تنبأ عنها يوئيل الني “وسيَكونُ بَعدَ هذه أَنِّي أُفيضُ روحي على كُلِّ بَشَر” (يوئيل 3: 1)؛ الآن وصلت البشرى الصالحة الى جميع البشر.
فالعنصرة هي حلول روح القدس على الجماعة المسيحية الأولى. ولكن الروح لا صورة لها؛ إنما يعُبّر عنها باسم عام في العبرية “רוּחַ”، وفي اليونانية πνεῦμα، وفي اللاتينية، spiritus وهو مقتبس من الظواهر الطبيعية كالريح والتنفس، كما اوضحه صالح المزامير ” تُرسِلُ رُوحَكَ فيُخلَقون وتُجَدِّدُ وَجهَ الأَرض ” (مزمور 104: 30) إننا “نسمع صوته “، ونتبيّن عبوره من خلال الظواهر التي غالباً ما تكون خارقة، ولكن ” لا تَدْري مِن أَينَ تَأتي وإِلى أَينَ تَذهَب” (يوحنا 3: 8). وهو لا يعمل أبداً إلا خلال شخص آخر، ولكن عمله ينطلق دائماً من الباطن، ونتعرّف عليه أيضاً من الباطن كما قال السيد المسيح لتلاميذه “فتَعلَمون أَنَّه يُقيمُ عِندكم ويَكونُ فيكم ” (يوحنا 14: 17). فقد أعطي يسوع الكنيسة هبة الروح بعد موته وقيامته. فعندما مات يسوع وسلّم روحه “إلى الله”، “حوّله” في الوقت نفسه إلى الكنيسة (يوحنا 19: 30). فكان الروح يبدو محصوراً داخل حدود ذاتية البشرية في المسيح، ودائرة نشاطها. والآن، بعد موته وقيامته ارتفع ابن الانسان بمجد إلى يمين الآب (يوحنا 12: 23)، فجمع البشرية التي نالت الخلاص وأفاض عليها الروح كما جاء في تعليم يسوع المسيح “مَن آمنَ بي فَلْيَشَربْ كما ورَدَ في الكِتاب: ستَجْري مِن جَوفِه أَنهارٌ مِنَ الماءِ الحَيّ)). وأَرادَ بِقَولِه الرُّوحَ الَّذي سيَنالُه المؤمِنونَ بِه، فلَم يكُنْ هُناكَ بَعدُ مِن رُوح، لأَنَّ يسوعَ لم يَكُنْ قد مُجِّد. ” (يوحنا 7: 38-39).
وقد هيّا لوقا التلاميذ لتقبل الروح القدس “امكُثوا أَنتُم في المَدينَة إِلى أَن تُلبَسوا قُوَّةً مِنَ العُلى” (لوقا 24: 49)، “الرُّوحَ القُدُسَ يَنزِلُ علَيكم فتَنَالون قُدرَةً وتكونونَ لي شُهودًا في أُورَشَليمَ وكُلِّ اليهودِيَّةِ والسَّامِرَة، حتَّى أَقاصي الأَرض” (اعمال الرسل 1: 85). عشرة أيام كاملة هي ما بين خميس الصعود وأحد العنصرة لم يغادر التلاميذ أورشليم تنفيذاً لوصية المخلص.
ب) رموز العنصرة:
الرموز الأساسية المشيرة إلى الروح، هي: الماء، والنار، والهواء، والريح، وكلها تنتمي إلى عالم الطبيعة، ولا تتضمن ملامح متميّزة. فهذه الكلمات تشير الى حضوره كالريح القوية التي تضرب المياه صباح الخلق (التكوين 1: 2) والتي تلهم الأنبياء (1ملوك 18: 12) وتلمّح الى حضوره الداخلي الذي يشبه نسمة الحياة. الروح هو في الوقت ذاته قدرة الله والحياة الموهوبة للإنسان (حزقيال 37: 9). والروح هو أيضا الالهام الذي يعطيه الله للأنبياء. ويذكرنا بأن الله هو السر الذي لا يُدرك، ” إِنَّ اللهَ رُوح ” (يوحنا 4: 24).
ج) رسالة العنصرة تقوم على حلول الروح القدس. اما عمل الروح فهو يوحّد لأنه روح الله، وروح الله واحد كما جاء في تعليم بولس الرسول ” فهُناكَ جَسَدٌ واحِدٌ ورُوحٌ واحِد، وهُناكَ رَبٌّ واحِدٌ وإِيمانٌ واحِدٌ ومَعْمودِيَّةٌ واحِدة”(أفسس 4: 4-5). والروح يقدّس الكنيسة باستمرار (2 قورنتس 1: 22)، فيكفل للمؤمنين الوصول الى الآب بالمسيح في وحدة الروح (أفسس 2: 18)، لأنه روح ابنه القدوس، ويضعنا في صلة حيّة مع الله ويُدخلنا إلى أعماقه المقدسة ليعلن لنا “أسراره الإلهية” (1 قورنتس 4: 1). ويأتي الروح القدس ايضا لينير إيماننا، فبوساطته نُدرك سر التجسد الله الذي يصعب فهمه. فإن لم ينل الانسان هبة الروح القدس، قد يستطيع فهم الله بالإيمان ولكن ينقصه نور المعرفة (الروح القدس) الذي يفعّل الايمان كما يصرح القديس هيلاريوس الاسقف.
وفي الروح، نتعرف على المسيح، ونعترف بأن يسوع هو رب كما جاء في تعليم بولس الرسول “يَشهَدَ كُلُّ لِسانٍ أَنَّ يسوعَ المسيحَ هو الرَّبّ تَمْجيدًا للهِ الآب” ( فيلبي 2: 11) ونتضرع به إلى الله “فإِنَّ الرُّوحَ يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا لأَنَّنا لا نُحسِنُ الصَّلاةَ كما يَجب, ولكِنَّ الرُّوحَ نَفسَه يَشفَعُ لَنا بأَنَّاتٍ لا تُوصَف” (رومة 8: 26)، وننادي الله باسمه “أبّاً” أيها الآب كما يعلن ذلك بولس الرسول “لم تَتلَقَّوا روحَ عُبودِيَّةٍ لِتَعودوا إِلى الخَوف، بل روحَ تَبَنٍّ بِه نُنادي: أَبًّا، يا أَبَتِ! ” (رومة 8: 15). وبالروح أخيراً يُعطي الآب الحياة للذين ماتوا بالخطيئة (رومة 8: 10-11). وما دمنا قد نلنا الروح، فلا شيء في العالم يقدر علينا. لأن الله قد وهب ذاته إلينا، ونحن نحيا فيه.
وقد أفاض الله في الكنيسة روحه يوم العنصرة كما جاء في وصف لوقا “وظَهَرَت لَهم أَلسِنَةٌ كأَنَّها مِن نارٍ قدِ انقَسَمت فوقَفَ على كُلٍّ مِنهُم لِسان، فامتَلأُوا جَميعًا مِنَ الرُّوحِ القُدس (اعمال الرسل 2: 38). فولدت الكنيسة؛ والكنيسة لا يمكن أن تولد إلا من الروح الذي منه يولد كل مولود من الله (يوحنا 3: 5-6). والروح القدس الذي حلّ على الكنيسة الأولى هو روح يسوع، وهو يعمل على استعادة أعمال يسوع والتبشير ” لِيَجرِيَ الشِّفاءُ والآياتُ والأَعاجيبُ بِاسمِ عَبدِكَ القُدُّوسِ يَسوع”( اعمال الرسل 4: 30) ويعمل الروح أيضا على ترديد صلاته كما صلى اسطفانس لدى رجمه ” رَبِّ يسوع، تَقبَّلْ روحي” (أعمال الرسل 7: 59)، كما أنه اعطي الرسل أن يخلّدوا سر َشكر يسوع، في كسر الخبز، وهو يحفظ الوحدة بين الأخوة كما جاء في وصف الجماعة المسيحية الأولى في بدء نشأتها “وكانوا يُواظِبونَ على تَعليمِ الرُّسُل والمُشاركة وكَسْرِ الخُبزِ والصَّلَوات”( أعمال الرسل 2: 42) .
فالروح القدس هو القوة التي دفعت بالكنيسة الناشئة “إلى أقاصي الأرض” كما أكّد يسوع المسيح رسله “لكِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ يَنزِلُ علَيكم فتَنَالون قُدرَةً وتكونونَ لي شُهودًا في أُورَشَليمَ وكُلِّ اليهودِيَّةِ والسَّامِرَة، حتَّى أَقاصي الأَرض”( اعمال الرسل 1: 8) ، فتارة كان الروح القدس يحل مباشرة على الوثنيين كما حدث لقُرنيلِيوس وأهله في قيصرية البحرية (اعمال الرسل 10: 44)، فثَّبت بذلك أنه قد “يفيض على الناس أجمعين ” كما جاء في وعظة بطرس الرسول” سَيَكونُ في الأَيَّامِ الأَخيرة، يَقولُ الله أَنِّي أُفيضُ مِن روحي على كُلِّ بَشَر فيتَنَبَّأُ بَنوكم وبَناتُكم وَيَرى شُبَّانُكم رُؤًى ويَحلُمُ شُيوخُكم أَحْلاماً” (اعمال الرسل 2: 17)، وتارة أخرى يبعث للرسالة أولئك الذين اختارهم مثل فيلبس ( اعمال الرسل 8: 26) ، وبطرس (اعمال ارسل 10: 20)، وبولس وبرنابا (اعمال الرسل 13: 2 -4).
ولم يقف دور الروح القدس عند بداية الكنيسة: إنه لازم الرسل ووجّه نشاطهم كما حدث مع بولس الرسول وتلميذه طيموتاوس في تبشيرهما في آسية الصغرى (اعمال الرسل 16: 6 -7)، انما ألهم قرارات الرسل في مجمع اورشليم الأول كما جاء في رسالتهم ” فقد حَسُنَ لَدى الرُّوحِ القُدُسِ ولَدَينا أَلاَّ يُلْقى علَيكم مِنَ الأَعباءِ سِوى ما لا بُدَّ مِنُه (أعمال الرسل 15: 28). فإن كانت الكلمة “تنمو وتنتشر” (اعمال الرسل 6: 7) فترجع القوة الداخلية إلى الروح ” أَمَّا التَّلاميذ فكانوا مُمتَلِئينَ مِنَ الفَرَحِ ومِنَ الرُّوحِ القُدُس” (اعمال الرسل 13: 52). وعليه فان كتاب “أعمال الرسل” يعتبر بمثابة “إنجيل الروح”.
خلاصة
الكنيسة والروح لا ينفصلان، فالروح يسكن في الكنيسة وفي قلوب المؤمنين، وكأنها هيكل له (1قرونتس 3: 16)؛ ويرشدها الى الحقيقة كلها (يوحنا 16: 13) ويكفل لها وحدة الشركة والخدمة الروحية، ويقودها بمختلف المواهب ” روحُ الرَّبّ روحُ الحِكمَةِ والفَهْم روح المَشورَةِ والقُوَّة روحُ المعرفةِ وتَقوى الرَّبّ” ( اشعيا 11: 2) لبنيان ها “لِكُلِّ واحِدٍ يوهَبُ ما يُظهِرُ الرُّوحَ لأَجْلِ الخَيرِ العامّ”(1 قورنتس 12: 7)، ويُزينها بثمر الروح “المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ والوَداعةُ والعَفاف” (غلا طية 5: 22) . وأخيرا يقوم عمل الروح القدس ومواهبه على المحافظة على وحدة جسد المسيح “فإِنَّنا اعتَمَدْنا جَميعًا في رُوحٍ واحِد لِنَكونَ جَسَدًا واحِدًا” (1 قورنتس12 :13)؛ ومن حيث انه روح الشركة (فيلبي 2: 1)، يفيض موهبة المحبة الفائقة في القلوب (1 قورنتس 13، 2) ويجمعها كلها في وحدته “فهُناكَ جَسَدٌ واحِدٌ ورُوحٌ واحِد، كما أَنَّكم دُعيتُم دَعوَةً رَجاؤُها واحِد” (أفسس 4: 4).

في العنصرة دشّن يسوع الممجد شكلا جديدا حضوره في كنيسته: الروح الذي يعمل من الداخل ما يعلنه الرسل ويعملون من الخارج خاصة بالأسرار (اعمال الرسل 2: 14). إن الروح القدس يأتي بناره ليثبت الرسل على شهادتهم، ويُثبت شهادتهم الى منتهى الدهر. وحينما يعمل الروح القدس في النفوس فإنها تنمو وتزدهر وتأتي بثمار روحانية كثيرة كما قال القديس بولس في رسالته إلى كنيسة غلاطية: ” أمَّا ثَمَرُ الرُّوح فهو المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ ” (غلاطية 5: 22). اليوم نحن بأمس الحاجة إلى قوة الروح القدس، الباراقليط، المدافع والمعزي، روح الحق، روح الحرية والسلام. و”مَنْ ليسَ فيهِ روحُ المسيحِ فهوَ ليسَ لَهُ” (روما 8: 9).
صلاة للروح القدس للبابا فرنسيس
يا روح القدس دعني ارى كل شيء،
وأرني طريق لوصول الى هدفي،
انت الذي تعطيني قوة المغفرة للإساءة التي ألحقت بحقي.
أنت الذي اتوق وأرغب أن تكون معي وبحياتي دائما
لذا في هذه المحاورة البسيطة أرغب وأشتاق ان أشكرك من كل جوارحي وصميم قلبي على كل المواهب التي وهبتني إياها في حياتي،
انا الذي ارغب ان اكون معك دائما ولا أفترق عنك أبدا مهما كانت المصاعب والمشقات التي أعانيها أو سأعانيها،
انا أتوق أن أكون معك في فردوسك الملكوتي المقدس. آمين.