عظة عيد صعود الربّ
الأب بيتر مدروس
تتابع الكنيسة الرسوليّة العريقة سيرة السيّد المسيح ، وتحتفل بكلّ مناسباتها العطرة، وهي تعمل حرفيّاً عبر القرون بكلمات المعلّم :”اتبعني!”، أي انها تتبع مراحل سيرة المسيح وتعاليمه، وتُحيي ذكرى معجزاته وأرفع أحداث حياته شأناً، ولا سيّما قيامته المجيدة من بين الأموات. وما الفرق في بعض السنين بين احتفالات الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية إلاّ في التقويم لا في توقيت الأعياد ولا في مضمونها.
من شريط الأسبوع
تُقيم الكنيسة الكاثوليكيّة في المانيا ، في هذه الأيّام ، لقاءها الكبير المدعوّ “كاتوليكنتاغ” الثّامن والتّسعون. وفطنت الكنيسة إلى شعبنا الفلسطينيّ الحبيب الذي تحاول بعض الجهات الغربيّة ، وبالذّات في ألمانيا تجاهله، وذلك بذريعة التعاطف مع العبرانيّين الّذين فتكت بهم النّازيّة ، قبل أكثر من خمس وستّين سنة. ومعروف موقف الكنيسة الكاثوليكيّة وشقيقتها الأرثوذكسيّة المشّرف من شعبنا الفلسطينيّ المظلوم، وإصرار الكرسي الرسوليّ على أن تكون المدينة المقدّسة عاصمة لدولتين. وتصطدم الكنيسة الرسوليّة في غرب أوروبا وخصوصاً في الولايات المتّحدة الأمريكية ، بفئات مستحدثة محدثة تتوهّم أنّ معشر العبرانيين – حتّى إن لم يؤمنوا بالمسيح يسوع – يبقون “شعب الله المختار” الذي “تحقّ” له “أرض الميعاد” وأنهم سيؤلّفون _ أي العبرانيين – جيش السيّد المسيح في “معركة هرمجدّون”، وأنّ تجمّعهم في فلسطين (التي يدعونها باسم آخر) هو “تحقيق للنبوّات”. وكان أساقفة الشرق الأوسط الكاثوليك في الفاتيكان ، في شهر تشرين الأوّل سنة 2010، قد أوضحوا مرّة أخرى تفسير الكنيسة “وهي عمود الحقّ وركنه” (عن تيموثاوس الأولى 3 : 15)، وهي النّاصرة للحقّ المناصرة للعدل ، أنها ترفض مبدأ “حقّ القوّة” ، بل تنتصر ل “قوّة الحقّ” ، وأنه لا يجوز أن يتذرّع أحد بنصوص من الكتاب المقدّس، ليبرّر أعمالاً تخالف الوصايا الإلهيّة ولا سيّما : ” لا تقتل، لا تسرق ، لا تشهد بالزّور ، لا تشته مقتنى غيرك…” – وهي أمور تحصل بكلّ سهولة في الحروب…
تقديم صعوبات مجتمعنا الفلسطينيّ
شدّد المحاضرون الفلسطينيّون المسيحيّون في المؤتمر للكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا على حقّ شعبنا في تقرير المصير, وأشاروا إلى الصّعوبات الدّاخلية التي نلقاها من انقسام ومن معضلات إداريّة، في سعينا لبناء الدولة الفلسطينية المستقلّة, والإشارة إلى الصعوبات أمر ذو شأن كبير، عندما نفسّرها نحن للأعاجم، وعندما نوضح من غير التباس، أننا كفلسطينيين مسيحيين ومسلمين، وإن كنّا أحياناً منقسمين ، فإننا على وفاق تامّ في رغبتنا المشروعة وتصميمنا الأكيد على الاستقلال، من غير أن نمحو أحداً من الخارطة. ويعرض المرء للأعاجم مشروعنا الوطنيّ ومسوّدة وثيقة الدّستور، وإن رفضتها بعض الجهات، وفيها جهد حميد يسعى إلى المساواة بين كلّ المواطنين وقد تعلّم الكثير من العِبَر، خصوصاً عن طريق آلام شعبنا المظلوم ومعاناته التي مرّ عليها أكثر من ستّة عقود.
تقديم وثيقة “وِقفة حقّ”
الكنيسة الألمانيّة الكاثوليكيّة معروفة بسخائها ونزاهتها والتزامها الجريء بنصرة كلّ الشّعوب المظلومة وعلى رأسها الفلسطينيّ، وهي تقف بذلك حصناً منيعاً أمام خصوم العدل. وانطلاقاً من هذا الاهتمام المستمرّ الشّجاع بعدالة قضيّتنا، طلبت الكنيسة الكاثوليكيّة أن تُعرَض مرّة أخرى في هذا المؤتمر – المنعقد في مدينة مانهايم – عرض وثيقة “وِقفة حقّ” التي كانت البطريركيّة اللاتينيّة المقدسيّة مع لفيف من الأساقفة والكهنة والعلمانيين قد أصدرتها، رفعاً للواء العدالة وصرخة أمام الضّمير الإنساني، من فلسطينيّين مسيحيّين، حريصين على مستقبل الكنيسة والوطن في أرض السيّد المسيح والسيّدة العذراء مريم والكنيسة الأولى، كنيسة الرسل والشّهداء! ومع أنّ الوثيقة المشار إليها حصرت عنايتها بأراضي سنة 1967 غير أنّ التّعاطف الغربي الأوروبي الأمريكيّ مع العبرانيين ، رمى بالعراقيل أمامها ، فانتقدها نفر من المتزمّتين غير قليل ، وقد وضعوا على عيونهم وبصائرهم غشاوة، لئلاّ يبصروا الحقّ والعدل والإنصاف ، وهم ينظرون إلى الماضي الألمانيّ غافلين الحاضر، ومتغافلين عن المظالم التي تلحق بشعبنا المسكين، مع كلّ المآسي التي تسبّبت أيضاً لبلاد عربية شقيقة حبيبة، حملت معنا قسماً من العبء ونالت قسطاً من الآلام كبيرا!
الصّعود السيّديّ والسموّ الأخلاقيّ
لا يتردّد رسول الأمم بولس الإناء المختار أن يخترع في اليونانيّة – وكانت اللغة الدّولية العالميّة – أفعالاً مع حرف “سين” أي “مع” ، للدّلالة على أنّ المسيحيين صُلبوا مع المسيح وقاموا معه وجلسوا معه ، ولا عجب فالمسيح هو الرأس وهم الأعضاء! وعليه يكتب ليس فقط إلى أهل قولسي (3 : 1 وتابع) بل إلينا أيضاً: “إذ قمتم مع المسيح، فاسعوا إلى الأمور التي في العلى”.
لا تعني هذه الآية أنه على المسيحيين أن يتجرّدوا من شؤون الدّنيا ، كأنّ الدّين “أفيون للشعوب” ومخدّر! بل يعني أن يكونوا في هذا العالم من غير أن يكونوا “من” العالم (عن يوحنّا 17) ، وأن يكونوا فيه “ملحاً للأرض ونوراً للعالم” (عن متّى 5 : 13 وتابع) وخميرة في العجين لا خارجاً عنه ، وقد “ألقوا عنهم (في تشبيه آخر يدلّ على ما هو مبيّت فاسد) وقد ألقوا عنهم الخميرة العتيقة ، خميرة الخبث والفساد، ليعيّدوا للمسيح الحَمَل الفصحيّ الذبيح العابر من الموت إلى الحياة، “بفطير الخلوص والحقّ” (عن الأولى إلى القورنثيين 5 : 7 -8(.
قام السيّد المسيح من بين الأموات. تعني هذه الجملة التي يقرأها المرء شبه حرفيّاً في لوقا 24 : 34 وتابع – تعني فقط شيئاً واحداً لا ثاني له، مهما كثرت فذلكات المبدعين – ان المسيح قام بالجسد المصلوب المقتول المدفون. وفعلاً، أرى المسيح الرسل بعد قيامته “يديه ورِجليه وجنبه” وليس معقولاً أن يريهم – حاشى وكلاّ – يدين ورِجلين وجنباً جددا ما سُمّرت، ولا اخترقَتها حربة الجندي الروماني!وتحدّى السيّد المسيح تلميذه الجحود العنيد توما:”هاتِ يدك وضعها في مكان “المسامير” أو “المسمارين” بما أن صيغة الجمع “تون ايلون” في اليونانية الشّائعة تفيد أيضاً للمثنّى(.
قام يسوع بالجسد المصلوب وبه صعد. ولا معنى لا لقيامته ولا لصعوده إذا حلاّ في جسد آخر لا أثر له في الكتاب المقدّس، ولا مبرّر له عند العقل السّليم والفكر القويم!
وها إنّ السيّد المسيح يدعونا – ويعيد كلّ أسقف وكاهن هذه الدّعوة في كلّ قدّاس في كلّ الطّقوس: “لنرفع قلوبنا إلى العلى” ويجيب الشّعب المحبوب المؤمن:”ها هي عند الرب!”
قبل صعود يسوع يطلب من الرسل (الحواريين) وسائر التلاميذ أن يشهدوا له، أي لقيامته السعيدة، بما أنهم شاهدوه ببراهين كثيرة (عن أعمال 1 : 1 وتابع). والشهادة المسيحيّة تتميّز عن العبريّة، (التي تمسّك بها سنة 1931 نفر من الأمريكيين ،كأنّ المسيح ما أتى وما قام من الموت، فاكتفوا بالاستشهاد بسِفر أشعيا 43 : 10 و12 مع أن النصّ كان موجّهاً إلى اليهود فقط قبل المسيح بسبعة قرون على الأقلّ). نعم ، الشهادة المسيحيّة هي لتجسّد الكلمة (عن يوحنا 1 : 14 وتابع) وللقيامة السيّديّة ولتعاليم السيّد المسيح التي تتألّق بسموّها المكمل للشريعة والنبوّات. ومن واجبنا أن ننبّه على وقوف “مسيحيين” ناقصي الإيمان عند العهد القديم، وخصوصاً الفئات المستحدثة المحدثة، التي تأخذ كلّ اسماء أجهزتها من العهد القديم غافلة عن العهد الجديد، ومتوهّمة أنها مسيحيّة أصيلة.
خاتمة
من عِبَر الصعود السيّديّ ضرورة السموّ بأفكارنا وعواطفنا إلى الأعالي، مع أننا بشر ضعفاء، “أمّارة نفوسهم بالسّوء”، وقد أثقلتهم الخطايا وأوهنت الهفوات عزائمهم! وكما قال السيّد المسيح:”إنّ الجسد (حرفيّاً في اليونانية “ساركس” اي اللحم) لا يجدي نفعا”، فالدّنيا تضرّنا إذا تمسّكنا بها، ناسين أصلنا السماويّ متناسين آخرتنا، بل علينا أن نذكر الأقوال السيّديّة الخالدة:”ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟ وماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟”